مصر بين تحديات الأزمات الإقليمية واستراتيجيات النفوذ في ظل التحولات الدولية
د. جمال الهاشمي
تقع مصر في موقع جغرافي فريد على مفترق طرق ثلاث قارات حيث تلعب دورا محوريا في التوازنات الإقليمية المتقلبة و تواجه القاهرة تحديات جسيمة تمتد من أزمة سد النهضة إلى الصراعات في السودان و غزة و سوريا، وليبيا إضافة إلى الضغوط الداخلية الاقتصادية والاجتماعية و لفهم الاستراتيجية المصرية في هذه الأزمات يمكن الاستعانة بمنهجيات عدد من المفكرين الاستراتيجيين البارزين إضافة إلى البراغماتية الواقعية التي تتناسب مع طبيعة التحولات الدولية والمتغيرات الاقليمية.
تعد مصر من منظور استراتيجي لاعبا محوريا في المنطقة ومركز ثقل لا يمكن تجاوزه في ميزان القوى الشرق أوسطية و تأثير الصراع الدولي والإقليمي عليها لا يقتصر على حدودها الجغرافية بل يمتد ليشمل أبعادا أمنية وسياسية واقتصادية تتداخل مع مصالحها الوطنية ورؤيتها الإقليمية.
وبما أن مصر تمتلك موقعا جغرافيا استراتيجيا يتحكم في نقطة اتصال بين القارات عبر قناة السويس فضلا عن دورها التاريخي كقوة عربية وإقليمية فإن التداعيات التي تنتج عن الصراعات المتشابكة في المنطقة تتخذ أبعادا متعددة ومعقدة.
وتلعب على الصعيد الدولي دورا وسطا بين القوى الكبرى التي تسعى إلى تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط خاصة في ظل التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة روسيا والصين ومع قدراتها العسكرية والاقتصادية وشبكاتها الدبلوماسية تحرص على توظيف علاقاتها مع هذه القوى لتحقيق مصالحها الوطنية مع محاولة الموازنة بين ضغوطات هذه القوى وتحدياتها و في الوقت ذاته يظل الوجود العسكري الأميركي في المنطقة والعلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة عوامل مؤثرة في صياغة سياسات مصر لكنها لا تسمح بأن تكون رهينة لهذه العلاقة وتسعى إلى الحفاظ على استقلالية قرارها الوطني.
وإقليميا تتشابك تأثير الصراعات الطائفية والعرقية والسياسية في محيط مصر الإقليمي من ليبيا إلى السودان ومن سوريا إلى الخليج حيث تتقاطع مصالح مصر مع مصالح قوى إقليمية أخرى كتركيا وإيران والسعودية والإمارات و هذا التنافس لا يقتصر على الصراع المباشر بل يتغلغل في آليات دعم الفصائل السياسية والمسلحة ويستخدم أدوات الحصار الاقتصادي والدبلوماسي ما يفرض على مصر تكثيف جهودها في بناء منظومة أمنية متماسكة وتعزيز دورها الإقليمي كضامن للاستقرار.
وتتمثل انعكاسات هذه الديناميات على الداخل المصري في تحديات مستمرة على صعيد الأمن القومي مع ضرورة التعامل مع تهديدات متعددة الأوجه؛ من الإرهاب إلى الهجمات السيبرانية مرورا بالتقلبات الاقتصادية التي تؤثر على القدرة الشرائية والاستقرار الاجتماعي، وفي ظل هذه البيئة يصبح الحفاظ على وحدة الدولة الوطنية ومؤسساتها أمرا حاسما وكذلك تعميق مفهوم المواطنة الجامعة التي تتجاوز الانقسامات الطائفية والإقليمية.
وعلى المستوى الاستراتيجي تواجه مصر مهمة معقدة تتمثل في الحفاظ على توازن دقيق بين الانخراط الفعال في الديناميات الإقليمية وبين صون استقلال القرار الوطني مع بناء قدرات دفاعية واقتصادية تسهم في تعزيز مكانتها كركيزة للاستقرار الإقليمي هذه المهمة تتطلب رؤية متكاملة تراعي التحولات العالمية المتسارعة وتحسن استثمار العلاقات الدولية والإقليمية لصالح الأمن والتنمية.
وفي المحصلة يمكن القول إن الصراع الدولي والإقليمي لا يشكل تهديدا فقط على مصر وإنما عامل محفز لتجديد دورها كقوة فاعلة قادرة على إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية.
إن نجاح مصر في ذلك يعتمد في قدرتها على قراءة المشهد بدقة والتحرك بمرونة استراتيجية مستندة إلى إرثها التاريخي وموقعها الجغرافي بما يعزز الأمن القومي ويضمن استمرار دورها المحوري في مستقبل المنطقة.
أولا: استراتيجيات مصر في مواجهة الأزمات الإقليمية
يقف سد النهضة الإثيوبي كأحد أكبر التحديات لأمن مصر المائي وهو ما يندرج في إطار صراع السيطرة على منابع المياه، حيث تدرك مصر أن السيطرة المباشرة بالقوة ليست خيارا واقعيا لذا تعتمد على استراتيجية متوازنة تجمع بين النفوذ الناعم من خلال الدبلوماسية الدولية و بناء التحالفات وتوظيف الإعلام لخلق ضغط دولي على إثيوبيا، وبين الاستعداد الأمني والحفاظ على ثبات داخلي حاسم لمواجهة أي تهديد محتمل.
ويمثل السودان بوابة جنوبية حيوية لمصر خصوصا في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي هناك و تتبع مصر سياسة واقعية وبراغماتية توازن بين دعم الحكم المدني وتفادي الانزلاقات نحو الفوضى التي قد تسمح بتمدد الجماعات المسلحة أو موجات اللاجئين.
كما تلجأ القاهرة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية كوسيلة نفوذ ناعمة لكنها تبقى مستعدة لخيارات أمنية أكثر حزما إذا ما دعت الضرورة.
وتظل غزة مصدر توتر دائم على الحدود الشرقية لمصر حيث تعتمد القاهرة على لعب دور الوسيط بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل مع الحفاظ على توازن دقيق لمنع اندلاع مواجهات قد تؤثر على الأمن القومي كما أن النفوذ الناعم يلعب دورا عبر دعم جهود الإعمار والمساعدات الإنسانية لكسب ود السكان المحليين وتأمين الاستقرار.
وبالنسبة لها فإن ليبيا وسوريا من الساحات المفتوحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية ويظهر ذلك بوضوح في التنافس التركي الروسي و الإماراتي الإيراني وغيرها حيث تعتمد مصر في تعاملها على مبدأ الأمن القومي وضمان حماية حدودها وتحقيق مصالحها عبر بناء علاقات مرنة مع اللاعبين الأساسيين كما تحاول إيجاد نقاط توافق أو على الأقل خطوط تفاهم للحفاظ على مصالحها.
واستشهد بجوزيف ناي الذي يؤكد على أن القوة الناعمة ليست منفصلة عن القوة الصلبة فمصر تحتاج إلى بيئة داخلية مستقرة واقتصاد قوي لبناء نفوذ إقليمي فعال حيث تواجه مصر تحديات اقتصادية واجتماعية تتطلب سياسات تنموية مستدامة لتعزيز الاستقرار وهو ما يسهم في تحسين قدرتها على إدارة أزمات الإقليم بدون ذلك ستتحول إلى دولة غير فاعلة في إقليميا أو دوليا في ظل عزلتها لإعادة تفعيل مقوماتها الداخلية.
وتتبرع أمام مصر عدد من التحديات منها التقلبات السياسية في دول الجوار و عدم الاستقرار في السودان وليبيا وهذا يشكل ضغطا أمنيا واقتصاديا على حدودها ويؤثر على موقعها كفاعل دولي، بالإضافة إلى التهديدات الإرهابية والميليشيات المسلحة في سيناء والصحراء الغربية والحدود الجنوبية وتعد المخاطر الاقتصادية مثل أزمة الغذاء والطاقة العالمية من الضغوط على الاقتصاد المصري كما تعد الصراعات الكبرى في الشرق الأوسط من العوامل التي قد تجر مصر إلى أزمات عسكرية أو دبلوماسية معقدة، وأخيرا فإن إدارة ملف مياه النيل يحتاج إلى حنكة دبلوماسية مستمرة مع إثيوبيا والسودان.
ومع هذا تمتلك مصر أدوات استراتيجية متنوعة من نفوذ ناعم وصلب ودبلوماسية براغماتية قد تنجح القاهرة عبر هذه الأدوات في الحفاظ على دورها المحوري في الإقليم رغم التحديات الكبيرة، ويرتبط مستقبل مصر بقدرتها على الموازنة بين مصالحها الوطنية والتكيف مع التغيرات الجيوسياسية إضافة إلى تعزيز تنميتها الداخلية لتصبح أكثر قدرة على مواجهة أزمات معقدة.
يعد سد النهضة من أكبر التحديات الاستراتيجية التي تواجهها الدولة المصرية، فلم يعد الصراع في إفريقيا يقاس بخطوط الحدود أو التوازنات العسكرية فحسب بل بدأ يتحول إلى ما يسمى بحرب الموارد وأبرزها حروب المياه، و في هذا الإطار لا يمكن النظر إلى ملف سد النهضة إلا من خلال عدسة تجمع بين التحليل البيئي والسياسي والاستراتيجي طويل الأمد.
يرى بيتر غلييك أن المياه ليست فقط موردا حيويا بقدر ما هي أداة قوة وسيطرة و في السياق المصري يمثل نهر النيل شريان حياة لـ100 مليون مواطن، ويعتمد عليه أكثر من 95٪ من سكان مصر.
وسد النهضة على النيل الأزرق، لا يهدد حصة مصر المائية فقط بل يعيد رسم خرائط النفوذ الإقليمي ويحول التحكم في المياه إلى ورقة ضغط جيوسياسية يمكن استخدامها في الأزمات السياسية والاقتصادية، فالماء عبر التاريخ مقوم استراتيجي ولم يكن محايدا لأنه يعكس ويحدد موازين القوى
ومن ثم فأن التهديدات المستقبلية للأمن القومي ستكون بيئية في جوهرها خلال المستقبل حيث تتوسع من خلال عوامل التغير المناخي و الانفجار السكاني وسوء إدارة الموارد ومصر في هذا الإطار تواجه ندرة مائية هيكلية بمعدل أقل من 570 متر مكعب للفرد سنويا أي أقل من خط الفقر المائي بـ 1000 م³، وضغوطا ديموغرافية متزايدة مع ارتفاع عدد السكان بنحو 2 مليون نسمة سنويا وهشاشة بيئية ترتبط بتغير المناخ وارتفاع معدلات التبخر في السد العالي، من هنا تصبح كل قطرة ماء مسألة أمن قومي وليست مجرد ملف فني أو تفاوضي.
وبحسب آرون وولف فإن المياه نادرا ما تؤدي إلى حروب مباشرة لكنها كثيرا ما تكون سببا في التوتر المستمر و أن أكثر من 260 حوضا نهريا عالميا مشتركا لم يشهد في معظمها حروبا بل تفاهمات قانونية أو تقنية.
لكن في حالة مصر وإثيوبيا لا تزال الأدوات التفاوضية تواجه اختبارات صعبة منها غياب اتفاق قانوني ملزم بين مصر، السودان وإثيوبيا، واستخدام الماء كأداة سياسية وليس موردا مشتركا ووجود أطراف خارجية تستثمر في السد كمصدر طاقة أو نفوذ للضغط على مصر بهدف تحويلها إلى سودان جديد.
كما أنه من بين الأخطاء الاستراتيجية لمصر سابقا أنها لم تستثمر وجودها في القارة السمراء ولم ترتبط مع اثيوبيا والصومال حيث في هذه المنطقة عمقها الاستراتيجي الأول والذي أدركه محمد علي باشا باعتباره أحد عباقرة التخطيط الجيوعسكري في التاريخ الحديث، ومع هذه العبقرية التي كادت تحول معادلات الشرق الأوسط لم ترافقه عقلية سياسية لأن العبقرية السياسية تعد من أهم مقومات بناء الدول وإقامة الحضارات ولهذا كانت هزيمته على الساحل الافريقي سببا في تراجع جغرافية العمق للدول الى جغرافية المراكز حيث تتوطن في مصر وتحديدا على من سيناء والسويس وحتى الإسكندرية.
ومن ثم فإن أرون وولف يرى أن التعاون في إدارة المياه ليس خيارا أخلاقيا فحسب وإنما هو ضرورة استراتيجية وأحد مقومات التشييد الحضاري.
ومن جهة أخرى فإن بول ايرليخ يربط تزايد السكان بندرة الموارد مما قد يؤدي إلى الانفجار البيئي – السياسي وفي مصر، تتقاطع هذه التحديات مع ضعف الحصيلة المائية الثابتة وزيادة الطلب الزراعي والصناعي عجز في تحلية المياه والاستثمار في إعادة الاستخدام، ويفاقم سد النهضة هذه الأزمة لأنه لا يعيد تشكيل الهيدرولوجيا فقط وإنما يفرض فاصلا جيوسياسيا جديدا بين دول المصب والمنبع.
ومن بين اختيارين؛ منطق الحرب ومنطق التعاون تقف مصر أمام مفترق طرق:
إما أن تصعد في ظل الإخفاق التفاوضي فتدخل في مواجهة مكلفة وغير مضمونة النتائج أو أن تسعى نحو قيادة دبلوماسية المياه إقليميا وتحويل الصراع إلى شراكة تنموية واقتصادية وتعوض وجودها من خلال تفعيل دورها الأساس مع المناطق المطلة على البحر الأحمر وحل أزمة الصومال وأثيوبيا وتقاسم المصالح المشتركة بين مصر ودول القرن الأفريقي وأثيوبيا من خلال منظمة الدول الأفريقية ، وهذا سيجعلها أكثر ثبات واستقرارا لمواجهة الأزمات الأمنية المنفجرة في فلسطين وسوريا وليبيا، ونجاحها في ذلك يعني هزيمة القوى التي تستثمر أثيوبيا من خلال سد النهضة لمواجهة مصر أو إضعافها او تفكيكها بثورات اجتماعية .
ولا شك أن المسار الثاني يتطلب:
- تأمين بدائل مائية داخلية عبر تحلية المياه وإعادة التدوير.
- بناء تحالفات دبلوماسية مستدامة تستند إلى القانون الدولي للأنهار.
- تسويق رؤية مصر للعالم باعتبار النيل شريان حياة لا يمكن التضحية به.
وبحسب هولدرن فإن الأمن الوطني لا يبنى بالصواريخ وحدها وإنما أيضا بالمياه النظيفة والغذاء المتوفر والاستقرار البيئي.
وفيما يلي تحليل استراتيجي لسيناريوهات مصر في ملف سد النهضة مقسمة إلى سيناريوهات محتملة وفق منطق التحليل الجيوسياسي والاستراتيجي مع مراعاة الأبعاد القانونية والبيئية والأمنية:
السيناريو الأول: الحل الدبلوماسي التفاوضي (وهذا ما نرجوه).
نجاح المساعي الإقليمية والدولية وخاصة من الاتحاد الإفريقي أو أطراف دولية مثل أمريكا أو الصين في دفع الأطراف الثلاثة مصر، السودان، إثيوبيا إلى توقيع اتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل السد وهذا يتحقق من خلال:
- ضغط دولي متزايد على إثيوبيا.
- دعم عربي موحد لموقف مصر.
- تحركات أفريقية عقلانية لاحتواء الأزمة.
وفي حال تحقق هذه السيناريو سيعمل على حماية حصة مصر التاريخية أو تثبيت حد أدنى منها وتهدئة التوتر الإقليمي والحفاظ على صورة مصر كقوة مسؤولة إقليميا.
ومع هذا السيناريو مخاطر منها غياب الضمانات الصارمة على المدى الطويل واحتمال تأجيل الأزمات بدلا من حلها جذريا.
السيناريو الثاني: الجمود التفاوضي والتصعيد الرمزي
وعن أن تقى المفاوضات في حالة من الجمود مع قيام إثيوبيا بملء وتشغيل السد دون تنسيق أو موافقة مصر وحينها تلجأ مصر إلى خطوات تصعيدية رمزية (دبلوماسية، إعلامية، قانونية، وربما عسكرية محدودة)
ومن مؤشرات ذلك تصعيد خطابي مصري – إثيوبي واستدعاء مجلس الأمن أو المحكمة الدولية وتسريب عن خيارات غير سلمية مطروحة على الطاولة.
وهذا بدورها سيؤدي إلى توتر دائم مع إثيوبيا واستنزاف في الموارد والجهد الدبلوماسي ضغط داخلي على القيادة السياسية ولهذا مخاطر خطرة منها تفاقم العلاقات الثنائية وانزلاق غير محسوب إلى صدام مباشر أو صراع ممتد.
السيناريو الثالث: العمل العسكري المحدود.
وفي هذا الاحتمال تقوم مصر بتوجيه ضربة عسكرية دقيقة (سايبرية أو جوية أو تخريبية محدودة) لتعطيل عمليات الملء أو التشغيل كرد فعل مصري حاسم في حال تهديد وجودي واضح وسيعلن هذا التحول عن فشل كل المسارات التفاوضية وتدهور الأوضاع المائية داخليا وبشكل حاد.
وهنا تبد الخطوط الحمراء بما فيها من تبعات ، و ردع لإثيوبيا لكنه محفوف بالتكاليف الدولية والإقليمية ومن مخاطر هذا السيناريو تصعيد إقليمي وتحول الأزمة إلى حرب وعزلة دبلوماسية لمصر وانتقام إثيوبي عبر تحالفات أو ميليشيات.
السيناريو الرابع: التكيف الاستراتيجي (تحويل الأزمة إلى فرصة)
تتعامل مصر مع الأمر الواقع بمرونة من خلال تقليل الاعتماد على مياه النيل وتسريع برامج تحلية المياه إعادة الاستخدام وتقنيات الري الحديث بالتوازي مع الضغط السياسي طويل الأمد وسيؤدي الى استثمارات ضخمة في البنية التحتية المائية وتحرك نحو شراكات إقليمية في الطاقة والمياه وخطاب رسمي يركز على الاستدامة لا الصراع.
وهذا سيؤدي إلى تقليل المخاطر البنيوية للمستقبل وبناء نموذج استراتيجي للمقاومة المائية وتحسين سمعة مصر دوليا كدولة تبتكر لا تصطدم.
لكن مخاطره قد يؤثر على مقومات أخرى نظرا لكلفته المالية العالية وفقدان جزء من النفوذ التفاوضي المستقبلي إذا قبلت مصر بالأمر الواقع.
وما يجب على مصر هو:
- الاحتفاظ بالخيارات المفتوحة لا إعلان تخلي عن أي خيار دبلوماسي أو غيره,
- تعزيز النفوذ الإفريقي و توسيع الحضور المصري في شرق إفريقيا والساحل.
- دمج البعد القانوني الدولي ودعم الموقف المصري بالمواثيق الدولية.
- إدارة الداخل بثقة مع مصارحة الشعب بحجم التحدي وخطط المواجهة المستدامة.
- استثمار الأزمة لبناء استراتيجية الأمن المائي المصري لعقود قادمة.
وإلى جانب التحدي الأول الذي يعمل على إضعاف مصر كدولة محورية وفاعلة إقليميا ودوليا تأتي تحديات أخرى عبر ثلاث جبهات شرقية وجنوبية وغربية وهو ما يدفعنا لقراءة موقع مصر من منظور القوة البرية.
في التاريخ الاستراتيجي للدول لم تكن الجغرافيا عنصرا سلبيا بل لطالما لعبت دور اللاعب الخفي في توجيه السياسات وتحديد التهديدات، ومصر كقوة مركزية في الإقليم تجد نفسها محاطة بتحديات أمنية متعددة من حدودها البرية مما يجعل مفهوم الأمن البري مفتاحا ضروريا لفهم مقاربتها الدفاعية والسياسية.
التحدي البري الأول يأتي من غزة كأحد بوابة التوترات والمخاوف المتحركة:
تمتد حدود هذه التهديدات على مسافة 13 كيلو متر فقط إضافة الى أنفاق أرضية وتداخل عمراني – جغرافي وكذلك معبر رفح كممر سيادي حساس، وتأتي التحديات من خلال تهريب السلاح من وإلى سيناء ووجود فصائل مسلحة مرتبطة بأجندات خارجية والضغط الشعبي المصري – الفلسطيني.
وتعد الأطراف القارية وفقا لنظرية القوة البرية من أخطر نقاط الاختراق الجيوسياسي وغزة تمثل نموذجا حيا لهذا النوع من التهديد إذ تربط بين الداخل المصري وسيناء وغرب إسرائيل وهنا تعمل مصر على إقامة منطقة عازلة على طول الحدود ونشر قوات سريعة التحرك وتعزيز التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية وإسرائيل دون الإعلان الرسمي عن ذلك حيث ترى مصر من غزة فتحة ضغط قابلة للاشتعال وليست مجرد معبر إنساني.
أما التحدي الثاني من السودان المتصدع
وتمتد التهديدات على حدود برية طويلة 1,273 كم، وصحراء مفتوحة ونقاط عبور يسهل اختراقها مناطق نزاع مثل مثلث حلايب وشلاتين، حيث تشهد هذه الحدود تدفق اللاجئين الفارين من الحرب الأهلية ونشاط ميليشيات وفصائل قبلية ومتمردة ومخاطر تسلل الجماعات المتطرفة أو المهربين.
ووفق راتزل فإن الدولة ككائن حي تحتاج للتنفس من خلال فضاء بري آمن، ومصر ترى في انهيار السودان تهديدا مباشرا لمساحة التنفس الاستراتيجي جنوبا. هو ما دفع مصر نحو مراقبة الحدود عبر الطائرات المسيرة، والتنسيق مع القوات السودانية المتحالفة مع القاهرة وإرسال مساعدات إنسانية وانتقائية لدعم النفوذ الناعم حيث تتحرك مصر دفاعيا على الحدود ولكنها تبقي لنفسها قدرة الردع المحدود عند الحاجة دون الانزلاق إلى التدخل العسكري المباشر.
أما الامتداد الغربي على ليبيا فهو أطول حدود برية لمصر بامتداد 1,115 كم وطبيعة صحراوية تسمح بمرور السلاح والبشر وتداخل قبلي وعشائري بين مصر وليبيا وهذا يسهل من انتشار الميليشيات المسلحة متعددة الولاءات ووجود تنظيمات إرهابية في العمق الليبي وتدخلات إقليمية، تركيا، الإمارات، روسيا وكلها قد تغير معادلة النفوذ.
ومن ثم أكد ماكندر أن من يسيطر على المناطق البرية غير المنظمة في جوار دولته يؤمن ظهره الاستراتيجي، ومن هنا تضع مصر الملف الليبي في مقدمة أولوياتها الأمنية البرية من خلال الإعلان عن الخط الأحمر في سرت – الجفرة، ودعم الجيش الوطني الليبي ومناورات عسكرية قرب الحدود الغربية لتأكيد الردع ووتمثل ليبيا بوابة التهديد غير النظامي لمصر والسيطرة البرية على الحدود تعادل السيطرة على العاصمة.
أن الدولة القوية لا تقاس فقط بجيوشها بل بقدرتها على تأمين حدودها البرية وفرض قواعد أمنها على ممراتها البرية الحيوية وبالنسبة لمصر فإن الجبهات الثلاث (غزة، السودان، ليبيا) لا تشكل فقط تحديات طارئة بل هي مكونات دائمة في معادلة الأمن القومي وكل تهاون في إدارتها قد يفضي إلى فقدان العمق الاستراتيجي المصري.
وهنا تعمل مصر على:
- ترسيخ البنية الاستخباراتية المتقدمة على الحدود البرية.
- بناء شبكات نفوذ مرنة داخل الدول المجاورة دون الانخراط الصريح.
- دمج الأمن المائي والحدودي ضمن عقيدة وطنية موحدة للأمن القومي.
- تعزيز البنية التحتية الحدودية (طرق – أبراج – مستشفيات – نقاط دعم).
- . اعتماد “نظرية الحزام الآمن لتأمين مصر من الخارج قبل الداخل.
أما على مستوى الأمن البحري فهنا ملفات أخرى يجب الوقوف عليها لتشكيل منظومة أمن كلية لمصر يمكنها من التخلص من هذه التحديات ومن ثم تأدية دورها الفاعل إقليميا وعربيا ودوليا.
ترى النظرية البحرية أن السيطرة على البحار تمنح الدول نفوذا سياسيا واقتصاديا يفوق القوة البرية وهذا من أهم دواعي انشاء القواعد الأمريكية في الجزر البحرية وتطوير المدمرات والتسليح البحري وبالمثل تعمل الصين في بحرها الجنوبي وقد أكد كوربت أن البحر لا يستخدم فقط للهيمنة وإنما أيضا لحماية العمق الوطني وتوجيه الضغط نحو السواحل الحساسة للدول الأخرى.
وفي السياق المصري يمثل المتوسط شمالا والبحر الأحمر جنوبا مسارح حيوية لصياغة أمن قومي متعدد الأبعاد ويمتد من الطاقة إلى التجارة ومن الجغرافيا إلى الردع.
ويتمحور على شرق المتوسط بالنسبة لمصر صراع الطاقة والحدود البحرية حيث تطل على شرق البحر المتوسط، وتتقاطع مصالحها مع قوى إقليمية مثل تركيا واليونان و قبرص و إسرائيل وكلها تتنافس على حقول الغاز وترسيم الحدود البحرية.
وقد اكتشفت مصر حقل ظهر العملاق و استثمرته في ترسيم حدودها البحرية مع اليونان وقبرص وأسست منتدى غاز شرق المتوسط لتعزيز مكانتها كمركز إقليمي للطاقة وتزامن ذلك مع تحديث قدراتها البحرية عبر شراء حاملتي مروحيات (ميسترال)، وغواصات ألمانية وفرقاطات فرنسية ما يعكس فهما استراتيجيا لقوة البحر كأداة للهيمنة الاقتصادية والسياسية.
ويعد البحر الأحمر بالنسبة لها شريان ملاحي لكنه تحت التهديد وفيه امتدادها الاستراتيجي جنوبا والتي ترتبط به عبر قناة السويس وميناءي السويس وسفاجا لكنه لم يعد مجرد طريق تجاري بل بات مجالا للتهديدات بفعل هجمات الحوثيين على السفن الدولية وصراع نفوذ إقليمي مع تركيا، إيران، الإمارات، وتصاعد التواجد العسكري الأجنبي في القرن الإفريقي.
وقد دشنت مصر قاعدة برنيس البحرية جنوب البحر الأحمر كأكبر قاعدة عسكرية بحرية في إفريقيا لتعزيز قدرات المراقبة والردع ووفق كوربت فإن مصر تعزز استخدام البحر لتأمين البر عبر حماية طرق التجارة وضمان السيطرة على ممر باب المندب.
وتعد قناة السويس حجر الزاوية في الاقتصاد المصري حيث تمر من خلالها حوالي 12% من التجارة البحرية العالمية لذا، فهي ليست فقط ممرا تجاريا بل نقطة استراتيجية حساسة لأي تهديد بحري أو سيبراني فالقاهرة تدرك أن أي اضطراب في القناة يعني تهديدا مباشرا للأمن القومي الاقتصادي وقد عملت على:
- تطوير مسار القناة وذلك بحفر تفريعة جديدة عام 2015
- تحديث أنظمة الحماية والمراقبة.
- تعزيز الحضور العسكري في ضفتي القناة.
وهي بهذا تدرك أنه من يسيطر على الطرق البحرية العالمية يساوى السيطرة على التجارة الدولية.
وتتخذ مصر خطوات مدروسة لبناء مكانة بحرية إقليمية منها:
- بناء أسطول متنوع يعتمد على الردع والتأمين.
- إنشاء تحالفات بحرية خاصة في شرق المتوسط.
- تعزيز الصناعة العسكرية البحرية تدريجيا.
ومع ذلك لا تزال تواجه تحديات بنيوية منها:
- غياب قواعد بحرية خارجية وهو ما يعكس ضعف علاقتها مع الدول المطلة على البحر مثل اليمن وجيبوتي والصومال وارتيريا وليبيا والسودان ودول الخليج.
- محدودية القدرة على الانتشار بعيد المدى بسبب العوامل الاقتصادية وضعف التعليم الاستراتيجي واهدار الموارد البشرية في التنمية المركزية الموجهة.
- عدم وجود عقيدة بحرية متكاملة تربط الاقتصاد بالأمن .
- غياب البعد الحضاري العربي والإسلامي في صناعة استراتيجية توازن مع الدول الإقليمية بدلا من الدخول معها في تنافس يقوض استراتيجية التكامل.
- غياب رؤية وطنية تستوعب المعارضة ضمن نسق وطني وظيفي يخذ من الدبلوماسية الشعبية قاعدة صلبة لاسترايجيات متقدمة.
ولمواجهة التحديات تحتاج الدولة الى:
- صياغة عقيدة بحرية وطنية تجمع بين أمن الطاقة وتأمين التجارة وردع التهديدات.
- التوسع في بناء قدرات بحرية لوجستية (سفن إمداد، كاسحات ألغام، أنظمة استطلاع).
- العمل على إقامة قاعدة بحرية خارجية (في القرن الإفريقي أو شرق المتوسط).
- تعزيز القدرات الاستخباراتية البحرية لمراقبة الأنشطة في البحرين الأحمر والمتوسط.
- دمج القطاع الخاص في تطوير الصناعات البحرية الدفاعية والتجارية.
- بناء عقيدة أمن عربية يؤمن فاعليتها وحضورها إقليميا ودوليا.
إن البحر امتداد طبيعي للأمن القومي وساحة نفوذ استراتيجية لكل الدول ومصر بتاريخها البحري القديم وموقعها الجيوسياسي الفريد أمام فرصة للتحول من قوة بحرية دفاعية إلى قوة بحرية مؤثرة إذا أحسنت توظيف موقعها وأسست لعقيدة بحرية حديثة تتفاعل مع تحديات القرن الحادي والعشرين ضمن منظومة إقليمية ونسق وظيفي عروبي إسلامي متوازن.
ومع كل ما سبق من مقومات فإن القوة الجوية ركيزة استراتيجية أساسية للدول التي تسعى إلى حماية سيادتها وتعزيز نفوذها في بيئات إقليمية معقدة ومتغيرة و تعكس النظرية الجوية التي استحدثت وتطورت عبر قرن من التطور العسكري أهمية السيطرة على الفضاء الجوي فوق الأرض والمياه كعامل حاسم في تحديد موازين القوة.
ومصر بفضل موقعها الجغرافي الحساس بين إفريقيا وآسيا، و تنوع جغرافيتها بين السهول و الصحارى والممرات الحيوية مثل قناة السويس تحتاج إلى توظيف مفهوم القوة الجوية كجزء لا يتجزأ من استراتيجيتها الأمنية في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.
حيث تؤكد النظرية الجوية أن السيطرة على الأجواء تمنح الدولة تفوقا استراتيجيا حاسما يمكن من خلاله تنفيذ عمليات هجومية أو دفاعية و تأمين خطوط الإمداد و توفير الدعم الجوي للقوات البرية والبحرية والردع عبر القوة الصاروخية والطائرات دون طيار وتنطلق هذه الاستراتيجية من المقومات التالية:
- السيطرة الجوية تعني حرية الحركة والإسناد.
- القدرة على ضرب العمق الاستراتيجي للعدو تحدد حجم الردع الفعلي.
- القوة الجوية يجب أن تكون مرنة ومتطورة تقنيا لضمان التفوق في بيئات متغيرة.
وهنا ندرك أن فضاء مصر الجوي يقع في ملتقى طرق مهمة بين القارات مع حدود مباشرة مع مناطق ساخنة مثل ليبيا والسودان وفلسطين، وقربها من منطقة البحر الأحمر وقناة السويس.
و هذا الموقع يجعل السيطرة الجوية ضرورة استراتيجية لضمان حماية الأجواء الوطنية وحماية الممرات الحيوية.
إلا أنه ولاضعاف هذه القوة الجوية التي بدأت مصر في تحسينها بأسلحة صينية روسية يالاضافة الى الدخول في مجال الصناعات العسكرية تشكلت الأزمات الممنهجة لاضعاف القدرات المصرية ومع هذا فإن هذه القوة مهمة الاستخدام على سبيل المثال :
- إمكانية توظيف القوة الجوية في دعم المراقبة والاستطلاع على منابع النيل وسد النهضة.
- إمكانية استخدام الأجواء لدعم العمليات البرية في الحدود الغربية ومنع تدفق الميليشيات.
- الحفاظ على تفوق دفاعي لمواجهة التحدي في التعامل مع عمليات جوية معقدة مع إسرائيل.
- دعم القوات البحرية بطائرات مراقبة وإنذار مبكر في البحر الأحمر والمتوسط.
- مواجهة الإرهاب في سيناء كدعم اسناد للقوات البرية.
ونجد أن مصر اليوم تمتلك قوة جوية متطورة من حيث الطائرات المقاتلة (مثل الميغ، إف-16، رافال) والطائرات بدون طيار وأنظمة الدفاع الجوي المتقدمة إضافة إلى قدرات تدريبية وبحثية مستمرة.
والاستراتيجية الجوية لمصر في ظل التوترات تسعى إلى تطويرات شاملة للقوة الجوية تقوم على:
- الاستطلاع والمراقبة المستمرة لتوفير معلومات استخباراتية حيوية على الصعيدين الداخلي والإقليمي.
- تطوير قدرات الردع الجوي والفضائي عبر تحديث الأسطول الجوي وتبني التكنولوجيا المتقدمة (كالطائرات بدون طيار والصواريخ الدقيقة).
- دعم العمليات البرية والبحرية من خلال توفير غطاء جوي وقصف دقيق وتقليل مخاطر التهديدات الإرهابية.
- التنسيق مع الحلفاء الإقليميين والدوليين لتبادل المعلومات وتنفيذ تدريبات مشتركة ترفع من مستوى التأهب والاستجابة.
- تعزيز الدفاع الجوي المتعدد الطبقات لمواجهة تهديدات الطائرات المسيرة والهجمات السيبرانية.
ومع هذا تواجه مصر جملة من التحديات التي تعوق تطبيق النظرية الجوية منها:
- التهديدات المتعددة الأبعاد من جانب الجماعات الإرهابية وقوى إقليمية تتنافس على النفوذ و التي تتطلب ردودا جوية سريعة ومتنوعة.
- تكاليف التحديث المستمر مثل التكنولوجيا الجوية والتي تتطور بسرعة ولضمان الحفاظ على التفوق يتطلب استثمارات ضخمة في المعدات والتدريب.
- التنسيق مع القوات الأخرى، حيث أن القوة الجوية ليست مستقلة بل يجب أن تنسجم مع الاستراتيجية البرية والبحرية ما يفرض ضرورة تكامل عالي المستوى بين القطاعات.
- التحديات السياسية والدبلوماسية كالاستخدام الجوي في الأزمات الإقليمية والذي يحتاج إلى إدارة حذرة لتفادي تصعيد الصراعات.
وفي ظل التوترات الدولية والإقليمية المتصاعدة تمثل القوة الجوية أداة استراتيجية مركزية لمصر تساعدها في الحفاظ على أمنها القومي و تأمين مصالحها الحيوية والتأثير في ميزان القوى الإقليمي وأن اعتماد مصر على النظرية الجوية لا يعني فقط امتلاك طائرات متطورة بل القدرة على توظيفها بذكاء في سياق شامل يشمل الاستخبارات و التكنولوجيا والتحالفات و والاستعداد المستمر لذلك فإن تطوير القوة الجوية يجب أن يكون في صلب الاستراتيجية الوطنية الأمنية مع الأخذ بعين الاعتبار الديناميات الإقليمية التي تحيط بمصر.
إن موقع مصر الجغرافي المميز عبر التاريخ وتمددها بين منابع نهر النيل وبحرين حيويين جعل لها ابعادا هامة للعمق الاستراتيجي إلا أن هذه المكانة تجلب معها تحديات معقدة تحتاج إلى إدارة ذكية توازن بين المصالح الداخلية والإقليمية والدولية.
فالعمق الاستراتيجي هو ببساطة المساحة أو البعد الذي يسمح للدولة بأن تبتعد عن حدودها الضيقة في حال تعرضها لهجوم أو تهديد ليتمكن من إعادة التموضع والرد. ويشمل:
- العمق الجغرافي: مساحة الأرض التي يمكن استخدامها للدفاع أو لإعاقة تقدم العدو.
- العمق السياسي: شبكة العلاقات والتحالفات التي تعزز القدرة على المناورة والدعم.
- العمق الاقتصادي: الموارد الداخلية وخطوط الإمداد التي تضمن استدامة الجهد العسكري والسياسي.
فمن جهة العمق الجغرافي تعد سيناء بوابة مصر الشرقية لكنها ضيقة وتحد من العمق الدفاعي خاصة مع حدود طويلة مع قطاع غزة وإسرائيل وعلى الحدود الغربية تمتد مصر إلى ليبيا حيث الصراعات والميليشيات المسلحة ومن جهة الجنوب حدود طويلة مع السودان وإثيوبيا مع تحديات استراتيجية بسبب سد النهضة وتأمين منابع النيل، ولديها في قناة السويس شريان استراتيجي تعتمد عليه مصر اقتصاديا وأمنيا.
أما العمق السياسي فإن مصر عضو مؤثر في عدة تحالفات عربية وإفريقية وتلعب دورا محوريا في قضايا مثل ليبيا وغزة والسودان كما تواجه تنافسا إقليميا مع قوى مثل تركيا وإيران ما يزيد من تعقيد إدارة العمق السياسي.
وبالنسبة للعمق الاقتصادي فتعتمد على نهر النيل بشكل حيوي مما يجعل ملف المياه أولوية استراتيجية ويرتبط الاقتصاد المصري بسلامة قناة السويس والممرات البحرية التي تشكل جزءا من العمق الاقتصادي.
ولضمان دورها الفاعل تحتاج إلى تطوير عدة استراتيجيات لتعزيز العمق الاستراتيجي:
- تطوير بنية تحتية أمنية وعسكرية في سيناء من خلال إنشاء قواعد عسكرية وتعزيز قدرات قوات الأمن لمواجهة التهديدات الإرهابية والدولية.
- ممارسة الدور الإقليمي في ليبيا والسودان لدعم حلفاء استراتيجيين وتثبيت الأوضاع الأمنية على الحدود.
- ممارسة السياسة الدبلوماسية النشطة في قضايا مياه النيل وسد النهضة عبر التفاوض الدولي واللجوء للهيئات الدولية.
- الاستثمار في الأمن الاقتصادي من خلال تطوير قناة السويس وتحسين الصناعات المحلية لضمان القدرة على الصمود.
- التركيز على التكنولوجيا والقدرات الاستخباراتية لتعزيز القدرة على الاستشراف وردع التهديدات.
ومن ثم فإننا نطرح أمام الدولة المصرية عددا من التحديات المستقبلية أهمها:
- تضييق العمق الجغرافي بسبب الضغوط الحدودية والتدخلات الإقليمية.
- التعقيدات السياسية مع تداخل مصالح دولية وإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
- المخاطر الاقتصادية من أزمات المياه وتقلبات التجارة العالمية التي تؤثر على قناة السويس.
وخلاصة مقالنا فإننا ندرك أن مصر تواجه اختبارا دقيقا في كيفية توظيف نظرية العمق الاستراتيجي لحماية أمنها القومي وتعزيز نفوذها الإقليمي فبفضل موقعها الفريد، لديها قدرات وإمكانيات تؤهلها لخلق عمق استراتيجي متنوع يشمل الأبعاد الجغرافية والسياسية والاقتصادية شريطة أن تتعامل مع التحديات المعقدة بحنكة وتخطيط استراتيجي مستدام ضمن عدة منظومات وأن تدرك أن عمقها الأفريقي متشظي حاليا مما يستدعي وأن خاصرتها الشمالية ملتهبة كما يجب عليها أن تدرك أن القلب الاستراتيجي لمنظومة العالم العربي يهيمن على منطقة الجزيرة العربية حتى بلاد الرافدين وفي عمق منطقة الهلال الخصيب وهذا يستدعي من العقل الاستراتيجي العربي إعادة وضع نظرية جيوسياسية ضمن عشر دوائر استراتيجية لضمان تفعيل القيم العربية حضاريا وإنسانيا وعالميا .
الأردن وتحديات الدولة السورية:
من منظور استراتيجي متوازن يمكننا النظر إلى انعكاسات الأزمة السورية على الأردن بوصفها اختبارا دقيقا لقدرة الدولة على إدارة تداعيات صراع إقليمي عميق ضمن بيئة جيوسياسية معقدة.
فالأردن الذي يمتلك موارد محدودة وقدرات أمنية متواضعة مقارنة بحجم التحديات وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع تدفقات الأزمة السورية والتي باتت تمثل ضغوطا متعددة الأوجه على أمنه واستقراره.
وشكلت الأزمة السورية أمنيا تحديا حقيقيا للحدود الأردنية حيث احتاجت المملكة إلى تكثيف جهودها في مراقبة وتأمين خطوطها الفاصلة مع سوريا من أجل منع تسلل العناصر الإرهابية والميليشيات المسلحة التي تستغل الفراغ الأمني في سوريا.
هذا الواقع فرض على الأردن إعادة تقييم استراتيجياته الأمنية والاستخباراتية مع تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لضبط المشهد الأمني والحد من مخاطر انتشار التطرف والعنف داخل حدوده.
واقتصاديا كان الأثر السوري ملموسا إذ استضاف الأردن أكثر من مليون ونصف لاجئ، مما شكل عبئا ثقيلا على اقتصاد يعتمد أساسا على موارد محدودة وهذا التدفق السريع والمتواصل للنازحين أثقل كاهل البنية التحتية والخدمات العامة وأثر على سوق العمل وزاد من الضغوط المالية على ميزانية الدولة.
وفي ظل هذه الضغوط، أصبح لزاما على الأردن توظيف مساعدات دولية واستثمارات استراتيجية للمحافظة على استقرار الاقتصاد الوطني.
أما اجتماعيا فقد برزت تحديات جديدة تتمثل في إدارة التنوع المتنامي داخل المجتمع الأردني حيث التداخل السكاني بين الأردنيين واللاجئين السوريين يتطلب سياسات دقيقة لتعزيز الاندماج الاجتماعي وتجنب الاحتكاكات المحتملة مع الحفاظ على الوحدة الوطنية والاستقرار الداخلي وقد نجح الأردن في تحقيق توازن نسبي لكنه يبقى هشا ويتطلب متابعة دائمة.
وأجبرت الأزمة السورية دبلوماسيا الأردن على تبني مواقف سياسية متوازنة تجمع بين دعم الحل السياسي الشامل وبين الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الصراع السوري.
و كان لا بد من توظيف الدبلوماسية كأداة للحفاظ على مصالح الأردن الأمنية والاقتصادية والحد من مخاطر الانزلاق إلى نزاعات مفتوحة في وقت تتغير فيه موازين القوى الإقليمية بشكل مستمر.
وفي ضوء هذه التحديات يجب على الأردن أن يواصل تطوير استراتيجيته الوطنية عبر تعزيز قدراته الأمنية والاقتصادية وتوسيع شبكة تحالفاته الدولية والإقليمية مع التركيز على تحقيق استقرار داخلي قادر على الصمود أمام أي تقلبات إقليمية مستقبلية. فالتجربة السورية أكدت أن بقاء الأردن واستقراره لا يعتمد فقط على إدارته للأزمات الآنية بل على بناء منظومة متكاملة من السياسات التي تضمن استدامة الأمن والتنمية في بيئة إقليمية معقدة ومتغيرة.
سوريا ومنطقة الخليج العربي:
يشكل الصراع السوري انعكاسا جوهريا على منطقة الخليج التي تعد محورا حيويا في السياسة الإقليمية والدولية وميدانا لصراعات النفوذ بين القوى الإقليمية والدول الكبرى. فالأزمة السورية أدت إلى إعادة تشكيل التوازنات داخل الخليج وأثرت على سياسات دوله وأولوياتها الاستراتيجية بشكل واضح.
ومن الجهة الأمنية أفرز الصراع السوري قلقا عميقا في الخليج من انتقال التهديدات الإرهابية والتطرف حيث رأت دول الخليج أن الانفلات الأمني في سوريا قد يكون مصدرا لانفجار جيوسياسي أوسع يؤثر على استقرار دولها الداخلية.
وهذا الواقع دفعها إلى تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي وتكثيف جهود مكافحة التنظيمات المتطرفة فضلا عن دعم فصائل إقليمية في سوريا تعزز من مصالحها وتحد من نفوذ خصومها.
وسياسيا جعل الصراع السوري من الخليج ساحة تنافس مباشر بين محاور إقليمية متضادة أبرزها التحالف الإيراني المدعوم من دمشق مقابل تحالف دول الخليج التي ترى في سقوط النظام السوري فرصة لتقويض النفوذ الإيراني في المنطقة.
هذا الصراع زاد من حدة الاستقطاب الإقليمي مما دفع دول الخليج إلى تبني سياسات أكثر حزما في دعم القوى التي تتوافق مع رؤاها متجهة نحو إطالة أمد الأزمة بما يخدم مصالحها الاستراتيجية في مواجهة إيران.
واقتصاديا أثرت الأزمة السورية على منطقة الخليج من حيث الاستقرار العام للأسواق والتجارة خاصة في ظل تقلبات أسعار النفط والتحديات الاقتصادية العالمية إضافة إلى ذلك أدت الأزمات السياسية إلى دفع دول الخليج نحو تنويع اقتصاداتها وتقليل الاعتماد على الموارد الهيدروكربونية مع تعزيز الاستثمارات في القطاعات الحيوية التي تضمن استمرار الاستقرار والتنمية في ظل بيئة إقليمية غير مستقرة.
أما دبلوماسيا فقد جعل الصراع السوري من دول الخليج لاعبين أساسيين في صياغة الحلول السياسية المستقبلية حيث سعت هذه الدول إلى بناء تحالفات دولية وإقليمية تدعم مواقفها وتحد من نفوذ خصومها مع حرص على إدارة علاقاتها مع القوى العالمية التي لها مصالح في الملف السوري بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا.
هذا التوازن الدقيق يعكس إدراك دول الخليج لحساسية المشهد ولضرورة المراوحة بين مواجهة التهديدات وضبط الأوضاع بما يحفظ مصالحها على المدى الطويل.
ويمكن القول إن الأزمة السورية لم تكن حدثا معزولا بل عامل محوري في إعادة تشكيل سياسات منطقة الخليج على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية.
وتبقى قدرة هذه الدول على التعامل مع تبعات الصراع السوري مرتبطة بمدى نجاحها في إدارة توازنات النفوذ وتحقيق استقرار داخلي قادر على استيعاب التحديات المتجددة في ظل بيئة إقليمية ودولية متغيرة ومتقلبة.
واقع الشرق الأوسط من منظور عقلية الاستعمار
من منظور عقلية المستعمر التي تركز على استراتيجيات السيطرة والتقسيم والتفكيك، يمثل اختراق العراق وتحويل سوريا إلى قاعدة متقدمة خطوة محورية في إعادة تشكيل خريطة النفوذ في الشرق الأوسط.
إن القوى الكبرى تسعى من خلال هذا التحرك إلى تأمين موطئ قدم قوي يسمح لها بالتحكم في مفاصل المنطقة وتوسيع رقعة تأثيرها عبر استهداف دول أخرى تلي سوريا في دائرة التفكك والتغيير.
في إطار هذه العقلية تنظر الدول العربية التي تلي سوريا في التسلسل إلى تلك التي تعاني من هشاشة داخلية واضحة وانقسامات طائفية أو إثنية عميقة وغياب مؤسسات دولة قوية قادرة على الصمود أمام ضغوط خارجية من بين هذه الدول:
- لبنان حيث يعتبر الأكثر هشاشة بسبب تركيبته الطائفية المعقدة والصراعات الداخلية الممتدة بين مختلف الفصائل السياسية والطائفية فضلا عن تأثير القوى الإقليمية المتصارعة عليه ووجود ميليشيات مسلحة وتدخلات إقليمية مستمرة يجعل لبنان هدفا طبيعيا لإعادة صياغة النفوذ على نحو يخدم مصالح القوى الكبرى
- العراق رغم كونه محط اختراق أول إلا أنه لا يزال عرضة لعمليات تفكيك جديدة عبر الصراعات الطائفية والعرقية ومحاولات القوى الكبرى استثمار الفراغ السياسي والأمني لتكريس نفوذها عبر تشكيل حكومات أو مناطق نفوذ موازية.
- ليبيا: الدولة التي تواجه أزمة شرعية وانقساما حادا بين حكومات ومليشيات متعددة تفتقد إلى مؤسسات مركزية قوية ما يجعلها عرضة للاستغلال والتحكم من قبل قوى إقليمية ودولية تستخدمها كساحة لصراع النفوذ.
- اليمن: إن الصراع المستمر بين القوى المحلية والتدخلات الإقليمية يجعل اليمن بيئة غير مستقرة يمكن للقوى الكبرى استغلالها كمنصة لتعزيز حضورها وتأمين مصالحها في الخليج وبحر العرب.
- السودان وفي ظل أزمات سياسية مستمرة وضعف مؤسسات الدولة حيث يعتبر السودان أرضا خصبة للتدخلات الخارجية خاصة عبر النفوذ الاقتصادي والأمني.
ومن هنا فإن منطق المستعمر يفرض استراتيجية تقضي بتفتيت هذه الدول إلى مناطق نفوذ منفصلة أو خلق كيانات هشة تعتمد كليا على الدعم الخارجي بحيث لا تستطيع هذه الدول استعادة سيادتها الكاملة، ولا أن تشكل تهديدا لمصالح القوى العظمى.
هذه العملية تستخدم فيها أدوات متعددة؛ الحروب بالوكالة، الضغط الاقتصادي، التحريض الطائفي والعرقي، والتدخلات السياسية المباشرة وغير المباشرة.
وفي هذا السياق ليس الهدف فقط السيطرة على الأرض بل إضعاف أي قدرة لهذه الدول على العمل كوحدات مستقلة ذات سيادة مما يضمن استدامة الهيمنة وتقاسم النفوذ بين القوى الكبرى دون مواجهة مباشرة.
وهذا يخلق حالة مستمرة من عدم الاستقرار تعيد تشكيل المنطقة وفقا لمصالح تلك القوى مع إغفال لمصالح الشعوب العربية وحقوقها في الأمن والسيادة والتنمية.
ومن منظور “سايكو-بيكو” فإن مشروع تقسيم النفوذ التي رسمها سايكس وبيكو قبل قرن تمكننا من فهم التنافس الأمريكي الصيني الروسي الأوروبي في سياق إعادة ترسيم خطوط النفوذ والجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط والعالم بشكل عام كاستمرار لعملية تقسيم مناطق النفوذ التي لا تزال تحكمها القوى الكبرى بأسلوب يمزج بين الاستعمار المباشر وغير المباشر.
إن الولايات المتحدة بوصفها القوة الغربية التقليدية التي ورثت الدور القيادي في النظام الدولي بعد الحرب الباردة تسعى إلى الحفاظ على تفوقها الاستراتيجي عبر شبكة تحالفات واسعة وتوظيف أدوات متعددة من القوة الصلبة والناعمة للحفاظ على مناطق النفوذ التي شكلتها عبر عقود.
حيث تسعى واشنطن إلى حجز قطاعات حيوية من العالم لضمان تدفق الموارد والحفاظ على المصالح الاقتصادية والأمنية خاصة في الشرق الأوسط الذي يظل محوريا في السياسة الأمريكية.
وتحاول الصين إعادة تشكيل هذه الخارطة من خلال مبادرات مثل الحزام والطريق التي تذكر كثيرا بمشاريع استعمارية تاريخية تسعى إلى تأمين طرق التجارة والسيطرة على نقاط استراتيجية متعددة. حيث الصين تحاول اقتسام الكعكة مع القوى الكبرى مستهدفة إعادة رسم حدود النفوذ بطريقة تلغي أو تقلص من الهيمنة الغربية التقليدية مما يشكل تحديا مباشرا للاستراتيجية الأمريكية.
إن روسيا التي تعيد تأكيد وجودها كقوة عظمى بعد سنوات من التراجع تستخدم أدواتها العسكرية والدبلوماسية لتثبيت مناطق نفوذها خاصة في سوريا وأوروبا الشرقية مستغلة حالة الفوضى والضعف في بعض الدول لإعادة خلق مناطق نفوذ واضحة المعالم.
وتسعى إلى إعادة إنتاج نموذج التقسيم الاستعماري القديم لكن بأساليب جديدة تضمن لها مصالح استراتيجية طويلة الأمد.
أما أوروبا فتعيش أزمة هوية في ظل هذا التنافس المتصاعد حيث تحاول دولها التكيف مع المتغيرات الجديدة عبر تعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي وفي الوقت ذاته تحاول الحفاظ على نفوذها التقليدي في مناطق النفوذ القديمة خصوصا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتبدو أوروبا وكأنها تسعى للحفاظ على دورها كقوة إقليمية متوسطة تتوسط بين طموحات القوى الكبرى المتنافسة محاولة الاستفادة من تنافسهم دون أن تتحول إلى ساحة للصراع المباشر.
إن التنافس الحالي ليس سوى نسخة حديثة من تقسيم النفوذ القديم حيث تحاول القوى الكبرى إعادة رسم خطوط السيطرة وفق مصالحها مستثمرة في الانقسامات والصراعات الإقليمية لتبقى هذه المناطق تحت تأثيرها المباشر أو غير المباشر.
و هذا الواقع يعيد إنتاج منطق الاستعمار بنسخته المعاصرة مما يجعل الشعوب في مناطق النفوذ عرضة للتقسيم والتجزئة ويؤكد على الحاجة الملحة لإعادة التفكير في آليات السيادة الوطنية والعدالة الدولية بعيدا عن منطق القوة والتقسيم.
نهاية الحضارة الإسلامية:
من منظور فوكوياما الذي يركز على مفاهيم التطور السياسي والتاريخي لنظام القيم يمكننا تناول موضوع نهاية الحضارة الإسلامية وتفكيك عمقها ضمن إطار نهاية التاريخ أو مرحلة صراع القيم التي تحدد مسار الحضارات و وفق هذا المنظور فإن الحضارة الإسلامية مثلها مثل حضارات أخرى تخضع لديناميات داخلية وخارجية تؤثر على قدرتها في الحفاظ على وحدتها وتماسكها.
فوكوياما يرى أن تطور الحضارات يصطدم بحتمية تفاعلها مع قيم الحداثة الليبرالية التي تتفرد بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والاقتصاد السوقي ومن هذا المنطلق فإن تفكيك عمق الحضارة الإسلامية لا يتم فقط من خلال الصراعات السياسية أو العسكرية بل عبر أزمة داخلية تتمثل في صراع القيم والتحديات التي تفرضها الحداثة على منظوماتها التقليدية.
إن الأزمة تكمن في مواجهة نماذج السلطة والتقاليد الثقافية التي تتعارض مع قيم العصر الحديث مما يؤدي إلى أزمة هوية وعجز عن التكيف.
كما أن التدخلات الخارجية والتي تحاول فرض نماذج سياسية واجتماعية واقتصادية معينة و تسهم في تسريع هذا التفكيك لكنها ليست العامل الوحيد بل هي جزء من عملية أوسع حيث تتصارع قوى التغيير والتمسك بالتراث.
و في هذا الصراع تفقد الحضارة الإسلامية عمقها الموحد عندما تتفكك إلى هويات طائفية وقومية متنافرة وهو ما يضعف قدرتها على التفاعل البناء مع تحديات العصر.
ومن ناحية أخرى فإن فوكوياما يشير إلى أن نهاية الحضارة ليست نهاية وجودها بل انتقالها إلى مرحلة جديدة قد تكون حضارة متجددة إذا استطاعت استيعاب قيم الحداثة والشورى والابتكار أو تظل متأخرة إذا تمسكت بنماذج تقليدية غير قادرة على التكيف. لذا فإن تفكيك العمق الحضاري الإسلامي لا يعني بالضرورة نهايته المطلقة بل يشير إلى تحدي وجودي يحتاج إلى إعادة صياغة العلاقة بين التراث والقيم الحديثة ومن هنا وفي هذه اللحظة تولد قيادة المرحلة لتعيد ردم السلبية بقيم إيجابية ويسبق ذلك وعي شعبي منظم تؤسس له نخبة حضارية تولد من رحم شعوبها لا تستوردها من الخارج.
ويمكن القول إن منظور فوكوياما يؤطر نهاية الحضارة الإسلامية كجزء من صراع أوسع بين نماذج القيم المتنافسة في العالم حيث يتوقف مصير الحضارة الإسلامية على مدى قدرتها على التكيف مع متطلبات العصر الحديث وتجاوز الانقسامات الداخلية في مقابل ضغوط التغير الخارجي الذي يسعى إلى إعادة تشكيلها وفق معايير جديدة.