اليمن بعد ثورة 26 من سبتمبر بين الخطابات والفراغ الاستراتيجي

اليمن بعد ثورة 26 من سبتمبر بين الخطابات والفراغ الاستراتيجي

د. جمال الهاشمي 

يحتفل اليمن بالذكرى الوطنية لـ26 سبتمبر في كل عام بخطاب واحد وقايد يمثل الشرعية الوطنية والثقافية وهي  مناسبة تاريخية تحي ذكرى تحرر البلاد من الانغلاق والتخلف بثقافة مدنية إنسانية تساوي بين اليمنين دون تمييز جهوي أو ثقافي، وعلى الرغم من الرمزية العالية لهذا اليوم إلا أن الخطابات الرسمية والاحتفالات التي تكتنفه سواء داخل اليمن أو خارجه تبقى في إطارا شكليا لا يلامس جوهر الأزمة اليمنية ولا تنظر إلى معاناة الشعب وفقره وخوفه وجوعه وتجهيله، فالخطاب، مهما بلغ من بلاغة  ومهما برزت فيه من رمزية شخصية يظل مرآة لما تراه النخب الحاكمة لنفسها ومصالحها وشخصياتها، أكثر مما يعكس هموم الشعب أو يجيب على أسئلته الملحة متى نخرج من دوامة الانقسام، والصراع على السلطة ؟ كيف يمكننا حفظ دماء أبنائنا من رحى الحرب بين مكونات تتقاسم المصالح وتعمل بالإيجار لقوى دولية تاركة الشعب وقودا لمصالحها؟ .

الشعب اليوم يتساءل عن كيف  كيف يمكنه  أن نعيش دون جباية ومحاسبة ورقابة وتقييد لحرية اختياره وتعبيره ؟ وكيف يمكن أن نكون مثل دول الجوار حكاما ومحكومين؟  .

وإذا تأملنا مضمون الخطابات الرسمية جميعه تذكره بالتحرير وهو مقيد بهروبها، وتدعوه للتماسك وهي متفرقة وتناديه بالوحدة وهو وحيد في أزماته ، وأحيانا تحمله الدور وهي التي تقيده بقرارتها المتناقضة، و تطلب منه القيام بمسؤولية التغيير وهي تمنعه من ممارسته حقه بالثورة والمشاركة والحرية والاختيار.

النخب الذي تريد منه الخروج من الأزمة هي نفسها التي توسعها وتمنعه من الخروج.

لكن الحقيقة العملية تقول إن الأزمة اليمنية لم تبدأ من الشارع ولم تحل بيده بل نشأت من تراكمات سياسية تاريخية ومن غياب العدالة الموضوعية ة من تقسيم الدولة بين شمال وجنوب إلى ضعف المؤسسات، والتدخلات الإقليمية، وصولا إلى فساد النخب وتنافسها على النفوذ والسلطة.

إن الشعب لم يكن إلا ضحية لهذا الصراع المستمر بين قوى الأزمات المحلية ، يعاني من فراغ قيادي يمنعه من تحقيق أي استقرار حقيقي، السلطة السياسية في المهجر ونصف الشعب أيضا بينما البعض الآخر مسجونا في الداخل، سجين الرأي والتعبير واجتمعت عليه استبداد أباطرة الظلم والجور والأنا والمصالح الشخصية.

إن الدور الذي يمكن أن يلعبه الخطاب بالنسبة للشعب اليمني في هذا السياق وفي هذه الظرفية محدود جدا، فهو يقتصر على تذكير المواطنين بهويتهم الوطنية وإعادة إنتاج سرديات الوحدة والاستقلال وربما توجيه سلوكهم السياسي والاجتماعي لكنه لا يملك قدرة تحويلية حقيقية، لأنه لا يواكبها عمل ملموس على الأرض ولا يخلق استراتيجيات قابلة للتنفيذ.

الأسئلة الأهم التي تتحرك في خواطري: هل يمكن للنخب التي كانت جزءا من الدولة والأمة أن تتوافق في مشروع يعيد للشعب اليمني كرامته وحقه في دولة تحميه وتؤمن له مستقبله؟ وهنا تكمن الحقيقة المرة، قد يكون التوافق ممكن نظريا وفي الخطابة التي جاءت من دول جغرافية مختلفة،  لكنه يتطلب تجاوز المصالح الضيقة ويتطلب أيضا التضحية الحقيقية، فالقائد يولد في الميدان ويموت فيه  أو يحيا عليه،  هل يمكننا خلق إطار استراتيجي يدمج القوى السياسية والاجتماعية بعيدا عن الانقسامات الإقليمية والنفوذ الشخصي؟

هذا التوافق، إذا تحقق  سيكون نقطة البداية لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وضمان الأمن الداخلي وخلق اقتصاد قادر على توفير الحد الأدنى من العيش الكريم، ولكل من سيكون نموذجا سيكون في نظر الشعب قائدا، فالشعب اليمني بحكمته يحتاج حكيما محنكا في قيادته، يرسم الواقع بخطواته، ولا يصور الواقع في حروفه.

أما الخطط الاستراتيجية لما بعد الخطاب فيجب أن تنطلق من واقع الفراغ القيادي الذي يعانيه الشعب اليمني اليوم،  فالتحركات العفوية أو الشغب مهما كانت مشروعة لا يمكن أن تحل الأزمة بمفردها. إن المطلوب وضع  خريطة القيادة الشرعية الواضحة من خلال فتح المجال للترشيح وللشعب برعاية أممية أن يختار قائده، ما دامت الأمانة والشفافية قد تركت أخلاق العربي وسكنت في غير أرضه ، وأن تقدم استراتيجية وطنية شاملة تعالج جوهر الأزمة من خلال انتخابات محلية تسمح للشعب باختيار ممثليه وتسمح لأي مواطن يمتلك الكفاءة أن يرشح نفسه، وأن توضع آلية عملية محايدة لتأسيس مؤسسات قوية. هذه الخريطة يجب أن تشمل إعادة بناء الدولة و الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي و إطلاق حوار وطني شامل  وتعزيز الهوية الوطنية بعيدا عن الانقسامات السياسية والطائفية والعرقية والجهوية.

إن اليمن اليوم أمام مفترق طريق بين قوى محلية متنافسة وتنافسات إقليمية ودولية وبين الفراغ الاستراتيجي الذي يعمق الأزمة ، والحلول لن يأتي من الخطابات وحدها ولن يأتي من الشارع دون قيادة استراتيجية، إن  الحل يحتاج إلى التزام النخب بتوافق حقيقي وتجاوز مصالحها الذاتية والاعتراف بأن الشعب هو محور العملية السياسية وليس جمهور للاستعراض الرمزي ومهرجانا للخطابات الاستعراضية.

وبهذه الرؤية تصبح 26 سبتمبر فرصة لبناء الدولة بخطوات استراتيجية واستراتيجية إعلامية لتسليط الضوء على الفراغ القيادي ومظلومية الشعب اليمني ومحاسبة للضمير  واستدعاء للعقل السياسي الوطني لبناء دولة قادرة على حماية شعبها وإعادة رسم مستقبل الدولة وكرامة المواطن.

ولتحويل الخطاب من فلسفة سفسطائية الى استراتيجية بنائية يتطلب منا الوقوف على عدة نقاط  منهجية أهمها:
1- تشخيص الواقع ومعرفة مكامن الأزمة:

إن الخطوة الأولى في أي خطة استراتيجية هو في فهم الواقع بعمق وهذا يتطلب تحليلا شاملا للأزمة اليمنية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وتحديد الجهات الفاعلة داخليا وخارجيا وتوصيف النخب الحاكمة بمعايير القدرة والكفاءة وكذلك القوى المسلحة والمجتمع المدني، والجهات الإقليمية والدولية المؤثرة والنخب الأكاديمية.

كما يجب تقييم أثر الخطابات السابقة لمعرفة أي خطاب نجح في توجيه الرأي العام وأي خطاب بقي شكليا، ومن ثم توطين الخطاب بتحويله الى قيمة ثقافية وأخلاقية وإنسانية,.

ومن المهم رصد الفراغ القيادي والمناطق التي تحتاج الى قيادات موحدة تكون جسرا بين الشعب واختياراته.

2- إعادة صياغة الخطاب من شعارات إلى أدوات توجيهية:

المرحلة الثانية تتعلق بـتحويل الخطاب إلى أداة استراتيجية حيث يجب أن تستبدل اللغة الرمزية والفضفاضة بلغـة عملية واضحة ومباشرة و على الخطاب أن يحدد رسائل أساسية مرتبطة بالوطنية والاستقرار وإعادة بناء مؤسسات الدولة  والأمن الاقتصادي والاجتماعي ويجب أن تشير كل كلمة في الخطاب إلى إجراء أو خطة قابلة للتطبيق مدعومة بأمثلة واقعية من المناطق المتضررة حتى يشعر الشعب بأنها ليست شعارات وإنما هي خطوات ملموسة .

3- الربط بين استراتيجية الخطاب و إدارة الأزمة كأداة تنفيذية

إن الخطاب لا يجب أن يكون منفصلا عن الواقع وإنما هو جزء من أداة إدارة الأزمةو هذا يتطلب وضع جدول زمني للإصلاح والتنمية بالتوازي مع الرسائل السياسية وربطها بقرارات ملموسة مثل تشكيل لجان لحل النزاعات ، ولجان دعم نفسي للشعب، ودعم الأمن الغذائي  وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار.

كما يجب تحديد مؤشرات قياس نجاح الخطاب و مدى التزام القوى السياسية و استجابة المجتمع  وتحسن مؤشرات الأمن والاستقرار كما أن التواصل المستمر مع الشعب يجعل الخطاب قناة للحوار وليس توجيه أو تعليمات.

4- التفعيل والرقابة و ضمان الفاعلية

لضمان أن الخطاب لا يبقى شكليا يجب إنشاء هيئة أكاديمية وعسكرية مستقلة للمتابعة ولتقييم نتائج الخطاب مقابل الواقع كما يجب إصدار تحديثات دورية لإعلام الشعب بما تحقق من خطوات وتصحيح ما لم ينجح و تعزيز المساءلة داخل النخب السياسية  وأن يكون الخطاب أداة ضغط وشفافية يحول الكلمات إلى مسؤولية عملية.

ثم تدريب الإعلاميين والقادة على الخطاب العملي الموجه نحو الحل بما يعزز من فاعليته ويضمن وصوله إلى جميع شرائح المجتمع.

5- التوافق الداخلي والخارجي وأن يكون الخطاب لبناء الإجماع

إن قيمة الخطاب أن يتحول الى أداة استراتيجية لبناء توافق داخلي بين جميع القوى السياسية والاجتماعية وربطه بالمجتمع المدني ووسائل الإعلام لتوسيع قبوله و يمكن للخطاب أن ينسق مع الجهات الإقليمية والدولية للحصول على دعم لإصلاح مؤسسات الدولة وتحقيق الأمن والاستقرار وهذا التوافق يجعل من الخطاب خارطة طريق وطنية قابلة للتنفيذ.

إن التحول من خطاب سفسطائي إلى خطاب استراتيجي عملي يمثل فرصة لإعادة بناء الدولة و ضمان كرامة المواطن وتحقيق الاستقرار وإذا أصبح الخطاب أداة يمكن أن يكون البداية الحقيقية للخروج من أعمق أزمة يمر بها الشعب اليمني في تاريخه الحديث.  أما إذا لم يحدث ذلك فستظل الاحتفالات مجرد شعارات والخطب مجرد كلمات بينما الأزمة اليمنية تتعمق يوما بعد يوم.

 

 

Comments (0)
Add Comment