المواطن اليمني بين أزمة الضمير وأزمة الثقة بالذات
د. جمال الهاشمي
من يتأمل في المشهد اليمني الراهن لا يمكنه أن يغض الطرف عن مأزق مزدوج يعاني منه المواطن اليمن كظاهرة فردية كرسها الواقع الاجتماعي من جهة واستغلال القوى لعفوية وفطرة المواطن اليمني النقي.
لقد تعرض المواطن اليمني لاستغلال المثقف المنفصل عن واقعه وعن ثقافته وعن قيمه وتاريخه وحضارته.
لقد أخرجت المؤسسات الإعلامية والحزبية والتعليمية مخرجات تناهض القيم أو تتطرف بها وهي أزمة عظمى أغلقت المتطرف القيمي في قالب الانغلاق والخوف القلق، فأحزاب الأسلمة أغلقت أفرادها في قوالب مصطنعة لا ترى من المعارض لها من الإسلام وتحول مفهوم الطابور الخامس الذي كان أداة بيد قومية أحادي الحزب لمواجهة المعارضين إلى مفهوم الآخر المعادي للدين.
وهنا وقع الدين تحت وصاية الحزب وأصبح الحزب متطرفا كالمعتقدات إلا أن المعتقدات أكثر وضوحا من التحزب بالاسلام وأكثرها ثباتا في مواقفها .
وغالبا ما يتطور الحزب في إطار المعتقد ثم يتحول الحزب المتأسلم تحت مفهوم الدور السياسي إلى هندوسية التنظيم بحيث تندمج تحته المعتقدات الإسلامية والقوميات الحزبية بل وحتى الأديان تحت مظلة الإله الأكبر براهما، ويعد الدين الإبراهيمي تطورا عن نظريات الاسلمة السياسية.
هنا نجد المواطن اليمني قد تعرض لتناقضات ثقافية متطرفة بين أحزاب تتطرف وقوميات حزبية منطرفة وجميعها وافدة ومخالفة للسياق التاريخي والثقافي .
وهذه الإشكالية هي من موروثات التاريخ حيث كانت اليمن موطن الشمس والأديان وموطن الصراع والهجرات.
ومع هذا فقد كانت الحكمة فيها منذ فجر التاريخ حتى اكدها الإسلام ولذلك اطلق عليها اليونان البلد السعيد وهي في التراث النبوي نفحات الرحمن .
أما اليوم وبعد أن أصبحت اليمن مستوفدا للمعتقدات بعد أن كان مصدرها ومستقطبا للافكار بعد أن كان مصدرها تضرر اليمني تضررا كبيرا في فهمه وسلوكه وخلقه ومكانته .
لقد وقع بين أزمة ضمير وأزمة الثقة بالذات وهما أزمتان متداخلتان متشابكتان، لا تفهم إحداهما دون الأخرى ولا يتعلق الأمر بصراع سياسي أو تدهور اقتصادي فحسب بل هو انهيار في التمثلات الرمزية التي كانت تؤسس للفعل والتماسك الاجتماعي والوحدة اليمانية.
أزمة الضمير كما نفهمها هنا ليست أخلاقية محضة بل هي وعي شقي تولد عن الانفصال بين الخطاب والممارسة.
وأصبح المواطن اليوم يرى أن ما يقال باسم الوطنية والدين والكرامة و الثورة لا ينعكس في الواقع إلا كقناع للمصلحة وللاستغلال أو للسلطة.
لهذا نجد تهافت التهافت الجميع يريد أن يقود والكل يريد أن يكون مشهدا والكل يريد أن يُرى تاركين خلفهم قوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ..).
من هنا تنشأ فجوة مؤلمة بين ما يفترض أنه حق وما يمارس كقهر و في هذا السياق يصبح الضمير عبئا لا مرشدا، إذ كلما ارتفع الوعي بالمثال ازداد الشعور بالخيبة واللاجدوى.
أما أزمة الثقة بالذات فهي نتيجة طبيعية لذلك الانفصال .كيف يثق اليمني بذاته وهو يسحق يوميا بين خطاب يدعي البطولة وواقع يعيد إنتاج الهزيمة؟ كيف يثق بثقافته وهو يراها سبب تخلفه؟ كيف يثق بمستقبله وهو يخير بين منفى الجسد ومنفى الروح؟ هنا تتجلى المفارقة الكبرى أنه من دون ثقة بالذات لا ثقة بالآخر وانعدام الثقة متولد عن أزمة الضمير ومن جهة أخرى أنه ومن دون ضمير حي لا يمكن استعادة الثقة بالذات.
في الواقع المعاصر هناك أزمة بين المفهوم والواقع و بين المثقف والسلطة و بين الحلم والتاريخ. واليمني اليوم يعيش كل هذه الفجوات دفعة واحدة فإذا أردنا تجاوز هذا المأزق فعلينا أولا أن نصارح أنفسنا بهذه الانقسامات الداخلية.
و أن نعيد تعريف الضمير لا كمجموعة من الشعارات بل كقدرة على قول الحقيقة وممارستها وأن نعيد بناء الذات لا كصورة تاريخية مغلقة بل كمشروع مفتوح على التحول يتسم بالدقة والتنظيم والمكاشفة.
إنها ليست مهمة سهلة لدعاة التغيير الإيجابي بل هي مشروع طويل المدى يتطلب من اليمني النابه أن يكون ناقدا ومؤمنا في الآن ذاته؛ ناقدا لما تراكم من أوهام ومؤمنا بقدرته على تجاوزها، ناقدا للمكونات التي تهيمن على مصير الشعب ومؤمنا بخلق قيادة يراقبها ويحاسبها على الخيانة والاخفاق الممنهج ويحاسبها على تولي القيادة دون وعي بالمسؤولية ودون كفاءة في الإدارة ودون قدرة على أداء المهام.
فاليمن ليست جغرافيا منكوبة بل جغرافيا مثقوبة وإمكانيات معطلة وإنسان تأزم بالضمير وأزم الثقة، هنا تكمن إشكالية التأزم ومن ثم فإن التحرر من الأزمتين لن يتأتى بشعارات الخارج بل بإرادة من الداخل ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا أن يجعل اليمني مصلحة إلشعب بكل مكوناته فوق مصالحه الذاتية.
وهنا يجب على النموذج القدوة أن يدرك قيمة الشعب اليمني ومكانته في سلم التاريخ والدين والأخلاق.
ليست مأساة اليمن ناتجة فقط عن قصف أو حصار أو انقلاب لأن هذه أعراض وجذور الازمة أعمق وأشد رسوخا في البنية الذهنية خصوصا لمن تصدروا المشهد.
إنها أزمة تاريخية بين مشروع الدولة وميل غريزي نحو الزعامة .. بين منطق المؤسسة ومنطق الامتلاك.. بين المصلحة العامة والمصلحة الشخصية التي لبست لبوس الوطنية.
حب الزعامة في السياق اليمني ليس مجرد طموح سياسي وإنما هو تعويض عن نقص تاريخي في بناء الذات.
الزعيم لا يرى نفسه خادما للدولة بل بديلا عنها ولا يرى الآخرين شركاء بل أدوات لنزواته ولأن الدولة لم تترسخ كفكرة، ظل اليمني ينجذب إلى الفرد والقبيلة و المادة والتحزب المصلحي لا إلى النظام ومفهوم الدولة والعدالة والمواطنة المتساوية ..إلى الصوت العالي لا إلى القانون والقيم الأخلاقية والدينية .. إلى الزعيم لا إلى العقد الاجتماعي والانتماء للوطن والشعب والتاريخ والثقافة.
من هنا تتضح العلاقة الوثيقة بين حب الزعامة التي ترى من الشعب عبيدا لها في الصفقات والتصفيق والعسكرة وحب المصلحة الشخصية التي استمرأها الاتباع أو تمردوا عن المصلحة العامة تحت مظلة الظن والوهم والتزعم.
لذلك تتفكك كل محاولة إصلاح وكل تنظيم لاخراج اليمن من أزماته كل حزب يريد أن يكون هو الأول وكل فرد يريد أن يكون الزعيم .
لهذه وغيرها تُجهض كل مبادرة جماعية لأن الأفراد يتحركون بدافع الامتياز لا بدافع المبدأ.
أن الخلل في التاريخ العربي المعاصر هو غياب الوعي التاريخي أي غياب القدرة على ربط الحاضر بمسار عقلاني طويل المدى.
وهذا بالضبط ما يعانيه اليمن والعراق وليبيا وفلسطين والسودان نخب تتحرك كرد فعل لأوهام الذات لا كمشروع حضاري وطني يقوم بالجميع .
نتقدم باسم الثورة،ثم تتراجع باسم القبيلة و نصرخ باسم الحرية ثم نحكم باسم الضرورة.(مالكم كيف تحكمون).
هكذا أصبحت المصلحة الشخصية مقدسة ومقننة ومحمية بخطاب أخلاقي يستغل فينا القيم والدين والأخلاق والبراءة اقصد بذلك استغلال المساحة الكبرى من الشعب اليمني النقي الذي لم يعرف غير اليمن بلدا إلا طريقه إلى مكة والمدنية فقط .
إن حب الزعامة تحول من طموح فردي إلى مرض جماعي فالكل يريد أن يكون الأول حتى لو انهار الوطن فوق الجميع .
إن خلاص اليمن لا يكمن في تغيير الوجوه وأنما في تغيير المنطق وهنا لا بد من تأسيس ثقافة سياسية جديدة تعتبر الزعامة وظيفة مؤقتة لا وراثة دائمة وتربط المصلحة الفردية بنجاح المشروع الجماعي لا بانهياره فالزعيم الحقيقي هو من يضحي من أجل الدولة لا من يعيش على أنقاضها.
ولكي تنهض اليمن تحتاج إلى رجال مرحلة يتخذون من المسؤولية طريقا للإنسانية والعدالة والحقوق لا يتخذون من ألم اليمني ومواجعه سلما لجذب الجمعيات الخيرية والمساعدات الدولية .
اليمني غني بثرواته وإيثار ابناءه وصبرهم وأنفتهم فقط يحتاج إلى قائد أنيف يرى أن ذل اليمني ذل له وهوانه إهانة لليمن .
إن القائد المتسول لن يكون يوما قائدا ومن يكون تبعا بالفتح لن يكون تبعا بالضم .