المصالحة اليمنية بين سؤال الضرورة وشظايا الخراب: تحليل في الديناميات الداخلية والتقاطعات الإقليمية لمستقبل السلام في اليمن
د. جمال الهاشمي
منذ اندلاع الحرب اليمنية في العام 2014 بعد سيطرة سلطة الأمر الواقع على العاصمة صنعاء دخل البلد العربي الأفقر في المنطقة واحدة من أكثر الحروب تعقيدا وتداخلا حربا جمعت بين الانقسامات الأيديولوجية والطائفية وصراعات النفوذ الإقليمي وانهيار الدولة المركزية وسط صمت دولي مشغول بمصالحه القومية، ومع كل جولة تفاوض فاشلة بدا أن المصالحة تحولت إلى شعار مستهلك، تكرره الأطراف ومكونات الشرعية دون قناعة وتعلقه القوى الدولية لتبرير سياستها وتنفيذ مصالحها من خلال اليمن وبأدوات تابعة لها.
وتعد هيئة التشاور والمصالحة اليمنية التي تأسست بقرار عبد ربه منصور هادي من أكثر أدوات التخدير الشعبي والتي من خلالها ومكوناتها المتصارعة يعيش اليمن أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ الحديث والمعاصر لا سيما في ظل غياب الصحافة الحرة أو استغلال مساحات الفقر لتنفيذ أجندة بعض المكونات على حساب الآخر، بالإضافة إلى انجرار النخب الأكاديمية ضمن مكونات النفوذ والأحزاب خارج إطار مفهوم الدولة المدنية وقيم الجمهورية والديمقراطية والإنسانية لتشريع الولاءات الضيقة باسم الشعب اليمني المغيب كليا عن المشهد السياسي بأزماته الإنسانية الممنهجة.
لكن هل ما زالت المصالحة اليمنية ممكنة؟ وإذا كانت كذلك، فما شروطها؟ ومن يقف ضدها؟ وهل المصالحة المطلوبة تسوية” بين أمراء الحرب، أم مشروع وطني جامع يتجاوز البنية المتصدعة للدولة اليمنية ما بعد الوحدة والانفصال والانقلاب؟
أولا: الأزمة اليمنية بين تعدد مراكز النفوذ وغياب الهوية السياسية
بعكس النزاعات الثنائية الكلاسيكية حكومة و معارضة فإن الأزمة اليمنية تشكلت عبر بنية متداخلة من الصراعات:
- صراع سلطوي شمالي–شمالي بين الحوثيين من جهة، وحزب المؤتمر وبقايا الدولة المركزية من جهة أخرى.
- صراع بين الشمال والجنوب حيث تطالب قوى جنوبية بالانفصال أو الفيدرالية بعد تجربة وحدة 1990 التي فشلت في صناعة هوية وطنية تاريخية عادلة.
- صراع مناطقي وقبلي في تعز، مأرب، شبوة… وتغذيه الولاءات المحلية و استغلال الموارد الجهوية ضمن خطط جهوية منفصلة عن الهوية العامة لمفهوم الدولة.
- صراع النفوذ الإقليمي بين السعودية والإمارات وإيران، حيث تحولت اليمن إلى ساحة حرب بالوكالة تغذي الانقسام وتفرمل أي مشروع مصالحة لا يمر عبر حساباتها الخاصة.
هذه التعدديات جعلت من المصالحة أكثر تعقيدا من مجرد توقيع اتفاق لأنها تحتاج إلى إعادة صياغة الدولة اليمنية من جذورها لا فقط تقاسم السلطة بين متحاربين.
ثانيا: المصالحة كمفهوم مشوه في السياق اليمني.
الخطورة الكبرى تكمن في أن كثيرا من المبادرات التي تسمى مصالحة في اليمن هي في الواقع مجرد تسويات فوقية بين أطراف مسلحة أو نخب ممولة دون إشراك الشعب الحقيقي أو إعادة بناء المؤسسات؛؛ فالحوثيون على سبيل المثال، يطرحون مصالحة مشروطة بقبول أمر واقع سلطوي في صنعاء، والمجلس الانتقالي الجنوبي يتحدث عن تسوية مع الشمال لكنها مشروطة بانفصال جنوبي كامل أو شبه كامل، والحكومة المعترف بها دوليا باتت ذات شرعية هشة ومزدوجة ولا تملك قوة فعلية على الأرض.
وبالتالي فإن ما يطرح لا يرقى إلى مصالحة وطنية بل هو إعادة تدوير للنزاع تحت عناوين مصالحة هشة عرقلت مصالح اليمن بنفوذ ومصالح القوى الحزبية والعسكرية والقبلية والجهوية بمساحة 1 في المائة من المصالح الضيقة تماهت فيها أو ضاعت مصالح 99 في المائة من مصالح الأغلبية العظمى لسكان اليمن .
ثالثا: العوامل التي تعيق المصالحة الحقيقية:
- تخلف السياسة اليمنية: إن ضعف النخب المدنية وسيطرة القبيلة والمذهب والسلاح على الحياة العامة حول الفاعل السياسي إلى زعيم عسكري أو شيخ لا رجل دولة.
- الانقسام الإقليمي والدولي: وتدخل السعودية والإمارات وإيران وقطر والولايات المتحدة وجعل من كل خطوة نحو السلام مرهونة بموافقة الخارج.
- انعدام المشروع الوطني الجامع: غياب نخبة تمتلك رؤية مدنية وحداثية للدولة اليمنية قادرة على مخاطبة الجنوب والشمال بلغة واحدة وطمأنة كل المكونات.
- الإرهاق الشعبي والتطبيع مع الحرب: بعد سنوات من الحرب، بدأت قطاعات واسعة من الشعب تفقد الإيمان بإمكانية التغيير مما ولدد بيئة يائسة بائسة وغير متفاعلة سياسيا.
رابعا: ماذا تعني مصالحة يمنية حقيقية؟
المصالحة الحقيقية لا تعني فقط وقف إطلاق النار لإعادة الاستعداد له من خلال استغلال المواطن تحت مسميات الدفاع عن القيم والوطن أو مفاهيم المجهود الحربي أو تجنيد الشباب الإجبار من خلال استغلال الظروف المادية وغياب التنمية، وهو ما يتطلب الانطلاق من الواقع لا من المخيال كما يلي:
- الاعتراف بتعددية الهوية اليمنية: شمال جنوب و زيدية وشافعية وحضر وقبائل ومدن وقرى دون فرض مركز واحد بالقوة.
- نزع سلاح الفصائل المسلحة تدريجيا وتحويلها إلى قوة أمن وطني موحد لا أذرع حزبية وقبلية وطائفية.
- فتح المجال السياسي أمام النخب المدنية والمجتمعية وليس فقط الأحزاب التقليدية المتحاصصة.
- العدالة الانتقالية و توثيق الجرائم وتعويض الضحايا وعدم تسويق النسيان على أنه سلام.
- نظام سياسي لا مركزي فيدرالي أو لا مركزي موسع يمنح الجنوب وحضرموت ومنطقة الجند وتهامة ومناطق الشمال صلاحيات حقيقية ضمن رؤية وطنية شاملة وقيادة مركزية موحدة.
خامسا: ملاحظات نقدية
- الطابع الفوقي للعملية: رغم تأكيد وثيقة الحوار الوطني على شمولية التمثيل الشعبي إلا أن التصميم العام للعملية الانتقالية يبدو متمركزا في النخب السياسية والقانونية وتمثيل أقلية الأقلية في تقرير مصير الشعب والنخب الأكاديمية المستقلة ، مما يتطلب ضرورة مشاركة المجتمعات المحلية و النساء وضحايا الحرب والفئات المهمشة في مراحل القرار لا كمستمعين بل كصناع للمسار.
- غياب ضمانات التنفيذ الصارمة حيث تعاني الوثيقة من غياب آلية تنفيذية ملزمة تجبر الأطراف على الالتزام بالجدول الزمني وتجارب عديدة أظهرت أن الجداول الزمنية تفشل حين تكون مرهونة بحسن نية الخصوم دون أدوات ضغط.
- الاستنساخ الميكانيكي للتجارب الدولية حيث تستند بعض الملاحق والمقترحات إلى نماذج جنوب أفريقيا و رواندا وتيمور الشرقية على الرغم من أهميتها فإن استنساخ هذه النماذج دون مواءمة دقيقة مع السياق اليمني قد يؤدي إلى نتائج سطحية لا تحدث تحولا حقيقيا في البنية السياسية أو الثقافية.
- التشظي الأمني غير محسوم رغم وجود ملحق أمني إلا أن الإشكال الجوهري المتعلق بدمج الجماعات المسلحة والمليشيات المرتبطة بالخارج لم يعالج بما يكفي مما يتوجب من إدراج شروط صارمة وضمانات دولية لتجريد القوى غير الشرعية من السلاح تدريجيا وربطها بمؤسسة أمنية وطنية واحدة .
- التكلفة الاقتصادية غير محددة تقدم الخطة وكأنها مجانية أو تلقائية بينما تحتاج العدالة الانتقالية وحدها إلى مئات الملايين من الدولارات لم توضح الوثيقة ما إذا كانت الحكومة القادمة قادرة على إدارة التمويل بشفافية دون انهيار.
- تأجيل ملف العدالة بشكل عملي رغم ذكر’عدم الإفلات من العقاب إلا أن الوثيقة تميل إلى تغليب المصالحة على المحاسبة ما قد يخلق بيئة لإعادة إنتاج النفوذ السياسي للمجرمين السابقين باسم الاستقرار.
- المؤسسات البديلة والمؤسسات المستقلة مثل محكمة دستورية أو مفوضية وطنية لحقوق الإنسان مما يجعل الفترة الانتقالية مكشوفة قانونيا أمام التجاوزات.
- الشرعية الدولية كوسيلة لا غاية حيث نلاحظ اعتماد الحكومة الشرعية واتكاليتها المفرطة على الدعم الدولي دون تحديد طبيعة هذا الدعم وحدوده مما فتح المجال لتدخلات خارجية سياسية تحت غطاء قانوني.