الكذب السياسي والمجتمع بين بنوية عرقوب واستراتيجية مسيلمة

الكذب السياسي والمجتمع بين بنوية عرقوب واستراتيجية مسيلمة

د. جمال الهاشمي

في سياقنا المعاصر ومع تسارع الأحداث وتداخل الخطابات تظهر ظاهرة الكذب السياسي كعرض لا يمكن فصله عن البنية الكلية للمجتمع الحديث  ذلك المجتمع الذي تحول فيه الإنسان من كائن حامل للقيم إلى كائن وظيفي يقاس بمعايير الكفاءة والفاعلية لا بمعايير الصدق والعدل والحق.

واذا اردنا أن نفكك هذه الظاهرة، فعلينا أن نحرر انفسنا من الرؤية التبسيطية التي ترى الكذب السياسي مجرد انحراف أخلاقي فردي، فالكذب في هذا السياق ليس خطأ بل جزء بنيوي من منظومة تعيد إنتاج نفسها من خلال خداع منظم.

منذ قرنين أو أكثر ونحن العرب ندور في حلقة مفرغة نلهث خلف الحداثة والخلافة كما نتصورها لا كما هما، نتمثلهما رمزا ميتافيزيقيا لا مسارا معرفيا و في كل منعطف نعيد إنتاج التناقض، إعلان الإيمان بالمبادئ من جهة وممارسة مناقضة لها من جهة أخرى، هذا العطب البنيوي هو الذي يحكم خطابنا منذ النهضة مرورا بما بعد الاستعمار ووصولا إلى شعارات الإصلاح والرؤية والتحول.

إن الحديث عن القيم الحداثية والخلافة الراشدة  في السياق العربي أشبه ما يكون ببنوية عرقوب؛ يقدم الوعد ضمن أطر المنظومة الأخلاقية العربية السائدة ويسلبها كممارسة أخلاقية، أي يجيد فلسفة التلاعب بالقيم والوقت وتعطيله وهو بذلك يخالف النمط العام لقيم المنظومة العربية التي كانت انموذجا معرفيا ومجتمعيا بين القول والفعل في الجاهلية.

ولإننا ضمن هذه البنية  نبشر بالحرية والتنمية و نمارس القمع والسلب باسم الأمن والكرامة الإنسانية، نهلل للعقل والعلم ونحن نسلم زمامنا للخرافة والجهل ونقر بالديمقراطية والشورى، ونحن نمارس الاستبداد والقهر.

كأنما نخشى أن تتحقق الحداثة فعلا  أو يقام الدين فعلا، لأن كلاهما يلزمنا بنقد الذات و بهدم الأصنام وبالخروج من الأدبيات السياسية والثقافية التي ألفناها إلى الحرية التي عبر عنها ربعي بن عامر في تاريخ مفصلي بين حرية وإنسانية تدافع عنها مبادئ إسلامية، وبين عبودية قهرية تمارسها قوى استبدادية.

في هذه المفارقة يبرز وجه مسيلمة هو ليس شخصا بعينه بل نمط من الخطاب البنوي الذي يمثل اليوم نموذجا عربيا بامتياز على مستوى الفرد والمجتمع ..العامة والنخبة.. والدهماء والواعظ .. ؛ الكل يعد بالتنوير فلا ينتج إلا مزيدا من الظلام، ويعد بالعدل فلا يجيد سوى الظلم، ويعد بالإصلاح فيعمم الفساد، ويعد بالتحديث لا يحدث شيئا.

هذا هو المسؤول والمثقف و الزعيم والمعارض والعالم الذي يدبج خطابات الحداثة بلغة مقدسة ويستخدم أدوات الحداثة والمعتقدات لتكريس التقليد وتقيد الحرية والدين.

مسيلمة لم يكذب كفرد فحسب بل أسس لبنية الكذبة السياسية تحت مفاهيم النبوة والرسالة وانخرط معها مجتمعا ماديا ، تحررا من مبادئ العدالة والمساواة والقيم النبوية في بنوية جديدة سلبت حريته بعبودية تبعية للاستبداد السياسي، إن هذا النموذج هو الذي ادمججنا ضمن منظومته بكل مكوناتنا الدينية والقومية والوطنية والسياسية، هذا النموذج  أعاد انتاج المجتمع على التواطؤ وجعله دستورا جديدا لاستباحة القيم بالمادة والمبادئ بالمصلحة .

ولعل أسوأ ما في هذا المشهد هو أن مجتمعاتنا باتت تقبل هذا الازدواج العليل بأن تكون مع الحداثة ولخلافة وضدها في الآن ذاته، مع التقاليد الجاهلية والايمان  بأقماع الحداثة تارة والمعتقدات تارة أخرى،  هنا غدت الحداثة أداة كالدين وقشرة رقيقة تغطي خواء فكريا وأخلاقيا لا مشروعا تأسيسيا يعيد بناء الإنسان والمؤسسات والوعي.

ما ينقصنا ليس تعريفا جديدا للحداثة والدين بل شجاعة الالتزام بمقتضياتهما و أن ندرك – كما قال هيغل – أن ما هو عقلاني هو واقعي، وأن لا حداثة دون مساءلة و دون قطيعة معرفية مع بنيات التقديس الأعمى للجهل المقنع بلباس المقدس و دون تفكيك لأوهام الذات المتضخمة.

إن الحداثة كما هي الخلاف فعل منهجي لنحت ذاتية الإنسان وتحريره من القيود المضللة والخوف المستبد،  ونحن، إلى اليوم ما زلنا نخاف من الحرية و من المرأة، ومن السؤال ومن الحداثة ومن الآخر ومن الخلافة ومن الدين و من المختلف ونخاف حتى من أنفسنا لأننا في دائرة مغلقة من المعارفة الزائفة، لم نتحرر بالاسلام بقدر ما سعينا لتقييده وتشويهه وتعطيل عالميته بسلوكنا، لعل أسوما تعطيل لانتشار القيم الدينية منذ سقوط دولة بني أمية والخلافة الراشدة هو ما انتجه  إسلام المعاصرة وثقافة الأسلمة.

ولعلنا نجد جذور هذه الرؤية عند بعض الفلاسفة. نيكولو مكيافيللي على سبيل المثال- لم يكن سوى شاهد على تحول السياسة إلى مجال مستقل عن الأخلاق حيث تصبح الغاية تبرر الوسيلة نموذج تفسيري شامل فتح الباب أمام تصور الإنسان السياسي ككائن ماكر يتحرك في عالم تحكمه القوة لا الحقيقة.

أما هوبز فقد نظر إلى الإنسان كذئب لأخيه الإنسان، ليسوغ الحاجة إلى الدولة القوية الجائرة وهنا أيضا، يصبح الكذب ضرورة لان العقد الاجتماعي نفسه كما لاحظ بعض المفكرين مبني على خرافة عقلانية افتراضية تخفي وراءها طبقات من الهيمنة الرمزية والمادية ثم يأتي نيتشه ليفكك الحقيقة نفسها ويخبرنا أن الحقيقة ليست سوى كذبة أريد لها أن تنسى وفي هذا السياق يصبح الكذب السياسي تعبيرا عن إرادة القوة، وليس انحرافا عن مسار الحقيقة.

ولكن ما الذي يجعل الكذب السياسي مقبولا بل ومطلوبا في المجتمع المعاصر؟

هنا يجب أن ننظر إلى البنية الكلية لما اسميه المجتمع التشييئي، لقد تم تفكيك الإنسان إلى أجزاء؛ ناخب و منتج ومستهلك ورأي عام ومع هذا التفكيك، لم يعد للإنسان مرجعية داخلية أخلاقية بل بات يتحرك ضمن شبكات من الصور والإشارات كما وصفها بودريار، حيث التمثيل يسبق الحقيقة بل ويغني عنها.

الكذب السياسي في هذا السياق لا يواجه بالرفض لأنه جزء من لعبة الرموز حيث الحقيقة تختزل إلى ما تقوله وسائل الأعلام، وما يقاس بنسب القبول الجماهيري.

وهكذا يتحول السياسي من صانع قرار إلى مدير يعمل على إعادة تشكيل وعي الناس لا على أساس الحقيقة بل على اساس ما يراد لهم أن يصدقوه، إن ما نحتاجه ليس كشف الكذب السياسي بل تفكيك المنظومة المعرفية الكامنة وراءه، والتي فصلت السياسة عن الأخلاق، وحولت الإنسان إلى كائن بلا ذاكرة، بلا مرجعية ولا قيم إنسانية أو قيم جاهلية.

علينا أن نعيد وصل ما انقطع و أن نعيد الاعتبار للإنسان بوصفه كائنا أخلاقيا، وليس مجرد ترس يدور في آلة بيروقراطية عملاقة، وربما كما قال بعض الحكماء، فان مقاومة الكذب السياسي تبدأ برفض الاختزال والتمسك بالحقيقة، لا باعتبارها معطى جاهزا بل كجهاد معرفي دائم.

وإلا سيبقى التجديد عندنا وعدا مؤجلا والتغيير وهما يسوق له في مواسم الخطابة لبيع أو شراع السلع الزائفة لا سيما عندما تبدأ عجلة الوعي بالنهوض فتواجهها أمواج عاتية من القيم السائدة والمعادية لقيم إنسانية الوجود .

إننا بأمس الحاجة لقطع علاقتنا مع  مسيلمة وميكافللي ونيتشه ولا يكون ذلك إلا بإعادة تعريف علاقتنا بالزمن  والحقيقة والذات.

 

 

 

Comments (0)
Add Comment