الفراغ الاستراتيجي في العقل السياسي العربي–الإسلامي وانعكاساته على الفكر والمجتمع

إن الدبلوماسية الغربية لا تتعامل مع القادة العرب بوصفهم فاعلين مستقلين بل كعقد تشغيلية داخل منظومة نفوذ أوسع؛ يمنحون هامشا من الحركة دون امتلاك خرائط اللعبة ويمنحون وهم التأثير ليخيل لشعوبهم قوتهم السياسية لضمان تبعية القطيع هو أسوأ من غياب التأثير ذاته، ولذلك نجد العقل العربي الفاعل خارج السلطة أو في المعارضة.

 

الفراغ الاستراتيجي في العقل السياسي العربي–الإسلامي وانعكاساته على الفكر والمجتمع

د. جمال الهاشمي

إن المعلومات في العلاقات الدولية ليست قيمة في حد ذاتها بقدر ما هي مدخل معرفي لإنتاج التأثيرات، إذ أن الدول الكبرى تبني قراراتها على منظومات تحليلية معقدة تتداخل فيها أدوات الرصد و مراكز التفكير و خوارزميات الاستخبارات والمصالح المتراكبة.

و في المقابل فإن العالم العربي – والإسلامي الأوسع  ما زال يتعامل مع المعطيات بعقلية تقليدية  حيث يستند القرار إلى المعلومة الرسمية أو الخطاب الإعلامي أو التقديرات الدبلوماسية، دون أن يمتلك آلية منهية لاختبار الواقع بطريقة محايدة مستقلة؛ فالعربي يعاب الصمت عندما يجب الكلام  ويستلذ القول عندما لا ينفع الكلام

وهنا تقع المعضلة الكبرى ليس في نقص القدرة  وإنما في ضعف الهيكلة الإدراكية للمصلحة، فالقادة العرب يميلون إلى تصديق ما يقال لهم ويتناسب مع أمزجتهم، ويتجاهلون أو يجدون المشقة في فهم ما يخفى عنهم ويحاك عليهم.

لذلك يتعاملون مع العالم كما لو أنه كيان أخلاقي–صادق بينما هو في جوهره ومنذ معاهدة وستفاليا بني على موازين قوى تتغير حسب الضرورة لا القيم، وتتغير مع ذلك أدواتهم السياسية والدبلوماسية وحتى القيمية والفكرية.

أما الدول الإسلامية فتتصرف في المحافل الدولية كما لو أن الآخر يشاركها نفس مرجعيات الفهم والنية وهو سوء تقدير استراتيجي قاتل أو قد يندفعون لتبني قيم الآخر بثقافة مدنية تقدمية ويتبنون القيم الإنسانية التي تصنع لهم من مدخل أصوليات المعرفة الإنسانية الفلسفية التي جسدها الغرب، بينما أكثرهم التزاما يسعى لأن يوفق بعقليته التوفيقية المعطلة بين قيم العالم الغربي وقيم الإسلام لتفسير معالم مفاهيم وصفات الإنسانية وهنا تكمن  الإشكالية حينما تتوارى القيم الإسلامية خلف القيم الغربية ويدرس الإسلام أو يفهم من خلال مداخل الغرب المنهجية ومناهجهم العلمية، وهو ما أدى إلى تضيق القيم الإسلامية وحصرها تحت مظلة القيمة الإنسانية، وهذا يضرب حقيقة الإيمان الفردي في مقتل.

عندما نحاول أن نتمثل بالإسلام لا يحب تجريده في خطاباتنا المسجدية والسياسية ولا في جدليتنا التي شكلت نخبا جدلية متعصبة تجيد المناطحة ولا تجيد لغة الحوار في أسوأ صورة حيوانية جسدها المسلم المعاصر في علاقته مع القيمة والإنسان.

أما الغرب فهو على خلاف العالم العربي لا يعمل بوحدة ثقافية لكنه يمتلك كفاءة تنظيمية فوق–وطنية، تمكنه من تجاوز اختلافاته الأيديولوجية نحو إنتاج سلوك موحد حين يتعلق الأمر بالمصلحة، وما توصل إليه الفكر الغربي التجريبي من إنسانية يعمل على تجسيدها لضمان حيوية المنهجية في الربط بين الفكر والممارسة والنظرية والتطبيق، وهو ما اعطى للمنهج قيمة حيوية متطورة ومتغيرة على عكس العالم العربي والإسلامي الذي يتعامل مع المنهجية سواء الغربية أو التي تتطور في الحضارات الإسلامية القديمة كقيمة مرجعية ثابتة لا تتغير.

ومن خلال مؤشرات الخطاب الدبلوماسي العربي وكذلك متابعة مجريات وأحداث جامعات الدول العربية ومنظمات المؤتمر الإسلامي والخطب السياسية على مستوى السلطة والمعارضة وجدت النظم العربية–الإسلامية بكل تفاصيلها ما تزال تدار بعقلية الفتوة لا بعقل المؤسسة ويصاغ القرار من فوقية متعالية وينفذ بسرعة ولا يراجع مطلقا “ما أريكم إلا ما أرى”.

من هنا يبدأ التلاعب الدولي لأن القرار فردي وشخصي وليس مؤسسي فتكون الهيمنة على الفرد أقوى من الهيمنة على المؤسسة وكلما صار في مؤسسات الدولة مركزية كان من السهولة الهيمنة عليها على عكس النظام الغربي حتى ملك بريطانيا لا توجد جبرية مؤسسية بل عقلانية مؤسسية ساهمت في نمو الثقافة المدنية والقرارات الرشيدة.

إن الدبلوماسية الغربية لا تتعامل مع القادة العرب بوصفهم فاعلين مستقلين بل كعقد تشغيلية داخل منظومة نفوذ أوسع؛ يمنحون هامشا من الحركة دون امتلاك خرائط اللعبة ويمنحون وهم التأثير ليخيل لشعوبهم قوتهم السياسية لضمان تبعية القطيع هو أسوأ من غياب التأثير ذاته، ولذلك نجد العقل العربي الفاعل خارج السلطة أو في المعارضة.

إن عقلية الحاكم العربي والمسلم هو انعكاس للعقل المجتمعي الذي تشكل عبر تراكمات  تاريخية وأفكار قومية وليست قيمية أو إسلامية لأن الإسلام تحول مع فقهاء السلطة إلى آداب سلطانية مقفعية جسدت بيروقراطية الثقافة الأسيوية والغربية في نفسية وعقلية وتفكير المجتمع العربي الذي كان قد تميز بحضارة وثقافة سياسية وخصوصية فريدة عبر التاريخ حيث كانت اليمن معمل جغرافي سكاني لانتاج الحضارات العربية الخالصة بينما أخذت الدول اليمانية على أطراف الجزيرة العربية بثقافة كسروية كالمناذرة، وثقافة رومية كالغساسنة ومن هنا توطن العقل العربي في هذه الأطراف بثقافتين متصارعتين كانوا وقودا لها في حماية إمبراطوريتين استعماريتين وأخذ بهذه الثقافات بعض قبائل ودويلات الجزيرة العربية حتى جاء الإسلام وطمس معالمها لتتجدد من جديد من عبر بوابة الانفتاح العالمي الإسلامي وانصهار الشعوبية في العالم العربي ومن ثم جاء بنو أمية والعباس ليعيدوا احياء هاتين الثقافتين؛ تجديد العباسيين لثقافة المناذرة وغرس قيم الثقافة والفكر والمعتقد الأسيوي في العالم الإسلامي، وتجديد الأمويين لسياسة  وإدارة الثقافة الرومانية في العالم الإسلامي ونحن هنا نتحدث عن النصف الثاني لامتداد الدولتين إلا أن امتداد دولة بني العباس كان أكثر تأثيرا وأوسع انتشارا على مستوى السلطة والفرد والمجتمع وخلالهم انتشرت المعتقدات والطائفية والصراعات القبلية والعرقية، بينما كان التأثير الأموي محصورا في عقلية النخبة السياسية على مستوى إدارة السلطة فقط ثم جاءت الدولة الفاطمية وما يزال فكرها مؤثرا في كثير من الدول العربية والإسلامية لتعمق الثقافة الأسيوية ومعتقداتها وجاء المماليك بكل ثقافاتهم وأسلموها سياسيا وعسكريا وعقديا وفلسفيا ثم انفتحت الدولة العثمانية وفصلت العالم الإسلامي بين عدة لغات وهو ما وسع الفجوة ، بينما كل الدول السابقة لم تختلف في الثقافة العسكرية وهو ما جعل العسكرة نظاما تاريخيا معتقا لبناء الدول العربية المعاصرة حيث انفصل العقل العسكري كأداة ميدانية عن العقل السياسي كقيمة شرعية ومن ثم هيمنت الأداة على الفكر وهيمن النظام العسكري على العقل والإدارة وتطور بعد ذلك بعقلية الفتوة العقائدية وعقلية المعارضة المعاصرة. مع أن عقلية الفتوة لها مرجع قرآني “نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد”  إلا أن بداية تشكلها في اليمن ضمن حضارة عميقة وئدت بمعارضة ملكة سبأ ومن ثم تطورت الفتوة إلى ثقافة الجندية التي تتلازم مع العقل السياسي في أداء رسالة كاملة سواء كانت إنسانية أو دينية.

وهذه العلاقة الطردية المنسجمة بين الثقافة المجتمعية والثقافة السياسية هي انعكاس لهذه التطورات وهو أدى إلى تشكيل معوقين:

– الثقافة السياسية المعوقة لأرادة الشعب وطموحاته وقيمه .

– الثقافة المجتمعية المعوقة لتحولات الثقافة السياسية نحو التماهي في ثقافة الآخر.

هاتان المعوقان من جانبين؛ أحدهما أن المجتمع الإسلامي انفصل عن قيمه الإسلامية عمليا بينما يزال منتم إليها لمواجهة الآخر كرصيد تاريخي للدفاع عن الذات المهمشة، فما يزال المجتمع يفصل بين “نحن وهم” والذات والآخر، وهو ما اسميه الانتماء المنفصم.

أما السلطة السياسية فقد انفصمت نفسيا وعمليا عن القيم، ومن ثم فهي تراعي القيم مراعاة لوجودها في النفسية المجتمعية، وهذه الانفصام الكلي للسلطة مع الانفصام العملي للمجتمع تسبب في خلق صراعات محتدمة اتخذت من القيم شعارا أكثر من كونها قيمة فعلية.

ومن مؤشرات الانفصام غياب القرآن الكريم والسنة النبوية عند دراسة العلوم السياسية والعلوم الإنسانية برمتها، وهيمنت الفلسفة والمناهج الغربية على هذه العلوم وهو ما أدى إلى عرقلة فاعلية هذه العلوم وتحولها إلى فلسفات إسقاطيه ومقولات إخبارية، لأن الأساس المنهجي أساسا غربيا، لهذا كانت كل المقررات الإنسانية في الجامعات العربية هي مقررات ثقافية لا علمية، وقد ترتب على فشلها فشلا في العلوم التجريبية وتراجعا في الصناعة والزراعة والموارد البشرية المدربة.

بينما هي علوما في العالم الغربي لأنها من أسها إلى أساسها ورأسها لها قاعد ثقافية قيمية وتاريخية غربية، وهو ما جعلها علوما عملية تتقارب مع التجريب وكانت مدخل لتطور العلوم التجريبية.

ما لا تفهمه هذه الأنظمة أو لا تريد أن تفهمه، هو أن الغربي لا يصدقهم  ولا يحتاج أن يصدقهم لأن كل ما يريده هو أن يبقيهم ضمن هندسة وظيفية تخدم الاستقرار الذي تحتاجه مصالحه ويضمن لها استمرار وجوده فاعلا في الساحة العالمية والمعرفية والمحلية وعندما تنتهي الوظيفة يتم تحييد الأداة دون إعلان بخلق متغيرات جديدة وفواعل جدد ليكملوا مشاهد أخرى من الخرائط المرسومة.

عندما استخدم صدام حسين في حرب الخليج الأولى، استغني عنه تماما في حرب الخليج الثانية، والذين ساهموا في إسقاط العراق بدأ الدور عليهم تباعا أولها إضعاف مصر وثانيها ضرب ايران وثالثها تفكيك تركيا والاستغناء عن السلطة الفلسطينية وهكذا ستتوسع الدائرة وفقا لعقلية الفكر الاستراتيجي فماذا يعني هذا عمليا؟

المعنى الأول أن لا مكان في القرن الحادي والعشرين لحكومات لا تمتلك عقلا تحليليا مستقلا عن إعلامها ودبلوماسيتها.

والثاني أنه لا يمكن أن تكون فاعلا دوليا دون منظومة معلومات استراتيجية تعمل بتقاطع الأمن و الاقتصاد والرأي العام العالمي.

وثالثها يجب أن تتحول الدولة من بنية سلطوية إلى بنية مؤسسية تستوعب الفوضى وتعيد تشكيلها و لا تهرب منها.

والرابعة يجب الانتقال من رد الفعل إلى استراتيجية التفعيل و من منطق التلقي إلى منطق الهندسة الجيوسياسية.

إن الدول لا تمحى من الخارطة لأنها ضعيفة وإنما لأنها تتصرف كما لو أن الآخرين سيحترمون ضعفها وأن المكان الذي لا تنتج فيه الأفكار يصبح ساحة لتنفيذ أفكار الآخرين.

وما زلنا ننتظر بشغف أن يغير عرب اليوم العرب منطقهم في فهم العالم أو سيبقون أدوات في مشروع لا يفهمونه ويتكلمون في مسرح ليسوا فيه أكثر من أدوات للتطبيق أو التمثيل وإن خيل إليهم أنهم في الصدارة ، لأن الصدارة تتطلب مشروعا توظف له إمكانيات وليس توظيف الإمكانيات لتنفيذ مشروع الآخر بعقلية بلدية.

وحتى لا يكون المقال من أجل الكتابة والمهنة، فحن نكتب باستقلالية لا ربح فيه بقدر ما نوجه رسالة لأمتنا لعلها تعي الدور وتعطل الأدوار وتعيد إنتاج ذاتها فدعونا لننظر موقعنا ضمن مجالات متعددة في الرؤية الغربية.

أولا: رؤية العالم الغربي للصحافة العربية.

يمكننا تلخيصها ضمن مقاربة براغماتية صارمة تغلفها نظرة استخباراتية–اتصالية أكثر منها احتراما لدور إعلامي مستقل و هذه الرؤية لا يفصح عنها بشكل مباشر لكنها تمارس بوضوح في مراكز القرار ومراكز البحوث والدوائر الإعلامية الكبرى.

فالغرب لا يتعامل مع الصحافة العربية كأداة للتحقيق في الحقيقة أو الرقابة الديمقراطية وإنما كباروميتر سياسي يقاس من خلاله مزاج السلطة  وتوجهات المجتمع.

بمعنى أوضح فإن الصحافة العربية ليست مرآة للواقع في نظر الغرب بقدر ما هي انعكاس لمدى التحكم بالواقع.

ولا تعتبر وكالات الاستخبارات الغربية والدوائر التحليلية الصحافة العربية مصدرا موثوقا للمعلومة وإنما كأداة لرصد ما تسمح الأنظمة بنشره، ومن هنا تتم قراءة العناوين لا لفهم الحقيقة بل لفهم حدود الخط الأحمر.

ويعي الغرب تماما الفجوة بين الصحافة الرسمية و”الصحافة المتمردة- المنفية-الممولة خارجيا ويرى في هذا الانقسام فرصة لاختراق المجال العام العربي واستثماره في حروب التأثير الناعم وعمليات التضليل أو التجنيد المعاكس –

وحتى عندما تكون هناك محاولات مهنية من قبل صحفيين عرب فإن الصحافة العربية كجسم مؤسسي تفتقد لثلاثة معايير مركزية في التقييم الغربي:

  • الاستقلال التحريري الحقيقي.
  • الحوكمة المؤسسية
  • المساءلة القانونية للسلطة

ولهذا السبب تصنف معظم المنصات العربية وحتى الكبرى منها على أنها منصات دعائية أو تابعة إيديولوجيا سواء لأنظمة أو تيارات ومن ثم تستخدم كمدخل لمعرفة العمق وأعادة توظيفه أو تفككيه بحسب المصالح الاستراتيجية.

وفي الحالات النادرة التي يتعاون فيها الغرب مع صحفيين عرب فإنهم غالبا ما يعاملون كمخبرين ميدانيين أو مزودي محتوى محلي وليس كزملاء في منظومة إعلامية عالمية لأن الثقة المهنية شبه منعدمة والاستغلال الاستخباراتي حاضر بقوة وفي كل مشهد يشهد تفاصيل معادية أو مهددة أو موافقة ومنسجمة.

إن الغرب لا يرى في الصحافة العربية ركنا رابعا للسلطة وإنما مرآة مشروطة للسلطة نفسها.

وما لم تتحول الصحافة العربية إلى جهاز مؤسسي مستقل يتقن لعبة المعلومة لا مجرد تداولها فستبقى موضوعا لتحليل غربي لا طرفا فيه.

ثانيا: الرؤية الغربية للدبلوماسية العربية.

هذه الرؤية لا تبنى على الاحترام المتكافئ  وإنما على مقاربة أداتية نفعية ترى في الدبلوماسي العربي ممثلا لنظام رد الفعل لا لصناعة القرار، ومن منظور النخب الغربية فإن الدبلوماسية ليست فاعلا استراتيجيا وإنما هي وسيلة للتنفيس أو التهدئة أو التفاوض المؤقت على أوضاع لا تحددها الدول العربية، ولا يرى في الدبلوماسية العربية حاملا لمشروع سياسي متكامل أو رؤية إقليمية مستقلة بل ينظر إليها كأداة تواصل مع نظام الحكم وليست قناة حقيقية للتأثير أو المبادرة.

إن  الدبلوماسي العربي غالبا ما يجسد وظيفة التبرير أو التلطيف لا التفاوض على قاعدة قوة أو موقف تفاوضي ومن وجهة نظر غربية أن الدبلوماسي العربي يجيد تبرير ما لا يمكن الدفاع عنه ويطلب ما لا يمتلك أوراقه لهذا نجد تعامل المجتمع الغربي مع مكونات السلطة والمعارضة في كل من اليمن وليبيا والسودان وفلسطين من منطلق الرؤية المعمقة عن هذا العالم المكشوف الذي يستمد شرعيته من الغرب قبل ليضمن شرعية بقاءه في الحكم نظرا لانفصال الشعب عن القيم العملية وانفصال السلطة عن قيم المجتمع النظرية أو التاريخية.

إن النظم الغربية تدرك تماما أن معظم السفراء العرب لا يمتلكون تفويضا حقيقيا لاتخاذ قرارات أو إطلاق مبادرات مستقلة و أي تفاوض معهم غالبا ما يتوقف على خطوط حمراء وضعتها دوائر ضيقة في العواصم مما يفقد الحوار أي مرونة استراتيجية.

فالغربي لا يتحدث مع الدبلوماسي العربي بحثا عن حلول بل ليقرأ مزاج النظام الذي أرسله.

لهذا كانت المؤسسات الدولية وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والتعاون الإسلامي وغيرها من المنظمات الإقليمية من الأدوات المؤسسية المعطلة للمشاريع الجماعية.

هنا ندرك أن الغرب يتعامل مع الدبلوماسية كفن لإدارة التوازن بين المصالح والحقائق الصلبة و في المقابل يرى في الدبلوماسية العربية أدبا خطابيا تقليديا مليئا بالتاريخ والهوية والرموز لكنه يفتقر إلى أدوات القوة الفعلية؛ أوراق الضغط، التحالفات، الجغرافيا السياسية المدروسة بمعنى آخر فإن الخطاب العربي حماسي وتقمص أخلاقي لا يقنع ولا يخيف.

إن الدبلوماسية العربية في التصور الغربي لا تتحرك إلا في إطار الانفعال العاطفي أو طلب الوساطة أو مساعدة وهو ما يضعها في خانة التابع الدائم و هذا التصور يجعل الغرب يتعامل معها كحالة إدارية يجب احتواؤها لا كشريك يمكن البناء عليه، ويمكننا النظر معرفة ذلك من خلال ردود الفعل العربي مع سوريا وفلسطين واليمن فإنهم لا يبادرون أو يتحركون إلا تقليدا للدبلوماسية الغربية أو بعد إذنها.

وحينما ترسم خرائط الشرق الأوسط في الدوائر الغربية لا تكون العواصم العربية صاحبة الكلمة الأخيرة لأن اللاعب الحقيقي  هم من يتحكمون في اللعبة، بينما الدبلوماسية العربية تتنقل بين المواقف دون القدرة على تثبيتها.

فالدبلوماسية عندما تفقد القدرة على صناعة الوقائع تتحول إلى حفل بلاغي وأن الدبلوماسية العربية في أعين الغرب لم تنتقل بعد من مهمة إبلاغ المواقف إلى هندسة المواقف.

ثالثا: الجامعات العربية.

لا يرى الغرب في الجامعة العربية مركزا لإنتاج المعرفة أو توليد الابتكار إذ يتم تصنيفها في الغالب كمؤسسة إدارية أكثر منها بحثية لأن الاهتمام ينصب على الشكل الخارجي: المباني، التصنيفات الشكلية، والعلاقات الدولية، لكن المحتوى البحثي والعمق العلمي يعتبران ضعيفين وهامشيين فالجامعة العربية من هذا المنظور تصدر شهادات لا أفكارا.

ما أن النظام الأكاديمي العربي في نظر الغرب واقع تحت سيطرة سياسية أو أمنية أو بيروقراطية خانقة أو تقاسمات حزبية، وأن الأكاديمي لا ينتج بحرية لأنه يتحرك عبر ضوابط الرقابة والتوجيه ويعاقب على ما يكتب، وهذه البيئة، من منظور الغرب تفقد الأبحاث مصداقيتها وتجعلها مسيسة أو عقيمة.

إن الجامعة التي تخضع لقرار وزاري في كل ندوة لا يمكن أن تنتج نظرية ذات بعد عالمي، حيث نجد النظم العربية مخترقة في دوائر القرار الضيقة والعليا، بينما تهيمن على الجامعات خشية من صعود نخبة أكاديمية تعيد تجديد قيم الشعب وتاريخه وحضارته، لهذا يعاني الأكاديمي العربي من أزمة الثقة بعلمه وبرسالته وقيمه ومجتمعه وثقته بنظامه، لا يستطيع أن يفكر أو ينتج لكنه في المقابل يستطيع أن يكرر.

إن المؤسسات التعليمية العربية تعد خارج التيار الفكري العالمي و معظمها لا تساهم فعليا في المؤتمرات المؤثرة وتدرس مناهج مستوردة دون نقد أو تحديث ولم تغير في واقعها مطلقا ولا في بيئتها الجامعية.

ومن ثم فإن الغرب يرى هذه المؤسسات كمستهلكة للمعرفة لا مساهمة فيهاوحتى عندما تنشر أبحاث فإنها تفتقد للصرامة المنهجية أو الأصالة المفاهيمية.

وعندما يهاجر الأكاديمي العربي إلى الغرب بشرط أن يدرس مراحله الأولى يحقق في كثير من الحالات أداء علميا لافتا، وهذا ما يدركه الغرب حيث تبين له أن العقل العربي قادر لكن النظام الأكاديمي العربي عاجز لذلك فإن الأكاديمي العربي يعتبر في سياقه المحلي كفاءة مهدورة أو مقموعة ويُستثمر فقط حين ينتزع من محيطه لا ليجدد في المحيط المنزوع منه بل ليساهم في خدم المحيط الذي وجد فيه تعليمه ومكانته.

إن الغرب لا يرى التعليم العربي أداة لتشكيل النخبة المعرفي وإنما أداة لتثبيت السردية الرسمية والسلطوية والمجتمعية لا يمتلك القدرة على التغيير والإنتاج فلديه مناهج موجهة  وكتب مدرسية محنطة وغياب التفكير النقدي واجترار للماضي على حساب التفكير في المستقبل.

ولهذا، فالنظام التعليمي العربي ينتج موظفين لا مفكرين وينشئ طلابا مطيعين لا باحثين متسائلين.

وحينما يصبح التعليم وسيلة لتكرار النظام بدلا من مساءلته يتحول الأكاديمي إلى بيروقراطي والجامعة إلى سكن لامتهان كرامة الطالب وتقطيعه ضمن إقطاعيات أو قطعان مشردة

فالعالم الغربي لا يعادي التعليم العربي لأنه يتجاوزه ولا يراه فاعلا معرفيا قادرا على إنتاج التوازن أو زعزته.

لهذا نجد الترابط الأكاديمي المعرفي بين النخب والعلاقات اشبه بعلاقات الطيف أو خيوط العنكبوت.

 

 

 

 

Comments (0)
Add Comment