العقل المؤسسي وإدارة المؤسسات بين ثقافة النظام وروح القيادة

 

العقل المؤسسي وإدارة المؤسسات بين ثقافة النظام وروح القيادة

د. جمال الهاشمي

في مؤسسات اليوم، تتسابق العقول المؤسسية على ضبط النظام قبل بناء الرؤية، وعلى تقنين الأداء قبل تحفيز الإبداع و كأن القيادة تحولت من قيمة ضرورية  إلى وظيفة إدارية، ومؤسسات كثيرة وفاعليتها قليلة، وزارات متعددة لكنها لا تكاد تنتج شيئا، موظفي العوالم المتخلفة يرون الوظيفة ضمانا اجتماعيا وغلولا متغلغلا أكثر من كونها مسؤولية ورعاية، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته، هنا تكمن قيمة الوظيفة العامة، وتقاس بمعايير الأهلية والقدرة والأمانة والأداء.

العقل المؤسسي في عالمنا العربي لا يصنع قادة، بل يُنتج مدراء يعرفون كيف يديرون الاجتماعات  لكنهم يجهلون مقاصدها، يتقنون التحليل ويخافون من المخاطرة.  يوزعون المهام ولا يملكون الجرأة على طرح السؤال.

في هذا السياق، تصبح الثقافة المؤسسية لافتة وأوسمة مفصلة، لا تجربة تعيش  تفاصيلها اليومية، تجيد كتابة القيم في كتيبات أنيقة بينما تغتال  قيمها على الأرصفة وفي الطرقات،  ترفع  شعار التمكين ويديرها العجز و إدارة الخوف تحت مبرر الانضباط.

أما القيادة، فتصبح معول على قمة الهرم  لا نبضا في قاع المؤسسة، تتحدث عن التحول  ولا تجرؤ على التحول، تدير التغيير كخطة عمل لا كفلسفة وجود،  نُشجع الإبداع في العروض التقديمية ونخنقه في واقع الاجتماعات والمتطلبات.

العقل المؤسسي في نسخته الجامدة هو عقل يخشى الخطأ أكثر مما يبحث عن الصواب، ويكمن في منطقة الأمان، ويخشى المخاطرة، إنه العقل الذي  يزعجه التحرر و لا يزعجه الجمود، يحب الفوضى السائدة  وترعبه الفوضى التي تسبق النهوض.

إن المؤسسات العظيمة لا تبنى بهذا العقل وحده بل بعقل نقدي يقف على عالم الأشياء و النظام و يُطل على عالم الأشخاص و الأفكار، قيادة ترى الإنسان من جميع جوانبه ، وترى في الثقافة الضبط والاتزان؛  فالتحول الحقيقي لا يبدأ من الهيكل  بل من الوعي، ولا يقاس بالاجتماعات بل بنوعية القرارات، ولا يحقق بالأنظمة وحدها بل بالمجازفة الواعية، والشجاعة الأخلاقية، والسرعة التي تقيم الأزمات، والاقتدار على خلق الاحتمالات،  وضبط المتغيرات، وتغيير الجمود.

إن إشكالية العقل المؤسسي في الدول والمجتمعات المتخلفة تكمن في أزمة التربية والأسرة والتعليم، فالفرد لا يولد مع مقتضيات الحاجة، بل يُربى على العادة، ويغلف بالطاعة، لا على مبادئ الإطاعة،  ويدرب على احترام النظام أكثر من احترام المعنى، وعلى إتقان الكيفية قبل أن يدرك الغاية، فهو يتخبط في عمه لا خلاص منه إلا بهلاكه.

في مؤسسات الجامعة والمؤسسات الإدارية يتشكل العقل  كما تتشكل الملفات، إنها الإدارة الحديثة بما فيها من شعارات صنعت عقلا يشبه الأداة.

لقد تحول إنسان اليوم  من كائن حيوي إلى كائن وظيفي أو كائن بهائمي، عقل يتقن حساب الوقت لكنه يجهل قيمة الزمن..  يدير الأزمات ويعييه الخروج منها،  يسير وفق لوائح السلامة ولا يشعر بالأمان.

وهنا تبرز المفارقة: فكلما ازدادت المؤسسة تنظيما استهلكت مساحات العقل وانكمشت مقومات الوعي،  وكلما ارتفع مستوى الأداء انخفض منسوب المعنى، واندرست مقاييس المبنى، لأن المبنى لا معنى له،  ولأن العقل في صورته المغلقة يقتل التساؤل باسم الانضباط، ويخنق الفكرة تحت مقود التخصصات.

إن ما تحتاجه المؤسسات ليس فقط مهارات إدارية بل وعيا وجوديا.. وعيا يجمع بين منطق الإدارة ومزية التفكير، ينتج بقدر ما يتأمل، ويغير بقدر ما يتغير، عقلا يدرك أن النظام وسيلة لا غاية وأن الإبداع لا يولد في قاعة الاجتماعات في مسؤولية القيادة والتدبير والوعي والتفعيل، والبحث والتغيير.

نحن لا ننتقد المؤسسة، بل ندعو إلى تحرير العقل من قيودها وتحريرها من الجمود، و في النهاية ما يميز المؤسسة ليس مدى التزامها بالقواعد واللوائح  بل قدرتها على إعادة اختراع نفسها دون أن تفقد روحها وحكمتها.

 

 

 

Comments (0)
Add Comment