العالم العربي من فسحة التغيير إلى حتمية الاستبدال

 

العالم العربي من فسحة التغيير إلى حتمية الاستبدال

د. جمال الهاشمي

على ضوء الأزمات التي ترقق بعضها بعضا وتنسي أخرياتها الأولى تتبدى أمامنا أزمات  متسلسلة ومتداخلة، كل أزمة تفتح بابا للأخرى ضمن نسق وظيفي وإرادة ساكنة.

هذا النسق الوظيفي المتهاوي يشير إلى أزمة إدراك وأزمة وجود حضاري وأزمة للاوعي والوعي معا.

غير أن هذه الأزمة كما يرشدنا القرآن أنها ليست نهاية المطاف بقدر ماهي فرصة ثمينة للتشخيص ولإعادة التموقع ضمن السنن الإلهية التي تحكم حركة التاريخ والإنسان.

لنضع المعالم الحيوية للنص ضمن سياقاتها المنهجية لا على أنصاب الواقع، فالتغيير إرادة قرآنية مشروطة تؤسس المسار على قاعدة قرآنية صارمة “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” وفي هذه الآية تتربع معادلة حضارية مشروطة ترشدنا إلى أن التغيير في بنية المجتمع يبدأ بتغيير في البنية الإدراكية والنفسية للإنسان نفسه، الإنسان الفرد كوحدة بنائية في نسق وظيفي يغير المجتمع أو يتماهى فيه، لأن مشروع التغيير يبدأ ببناء أمة، والأمة تبنى بالفرد “إن إبراهيم كان أمة” وهذه البنية تؤسس على أمرين:

الممانعة الجمعية للتغيير وهو ما يفرض على الفرد أن يغير المسار من النظر في قضايا الممانعة إلى العزلة أو الاغتراب بعيدا عن ممانعة التغيير “إني ذاهب إلى ربي سيهدين”

وهذا القرار الفردي يفترض وضع الأسس المنهجية لأمة المستقبل المنشودة بعد تحولات الاستبدال السنية الحتمية” ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا”.

هذا التحول حينما يكون استجابة التغيير ضعيفا أو ساكنا، وهو منعطف خطير يقضي على الجمع العام بسنن حتمية بينما يحفظ الأمة في الفرد والعائلة لمنع الأمة عن الانقطاع عن الملة.

ويقتضي التغيير نظرية العودة والأوبة بأن نبتعد عن الحلول الجاهزة والمؤسسات المستوردة ونعود إلى الداخل إلى الجذور أو البنى الأصولية الأولى التي غيرت الكون والنحل والعالم من خلال بوابة الأمة.

وهذا الباطن الجمعي هو محل العمل الحقيقي؛ ذلك أن التغيير يبدأ عندما يعاد بناء العقل الجمعي على قواعد التوحيد، العدل، الحرية، والكرامة لا على أطر مادية نفعية استهلاكية كما تفعل الحداثة الغربية.

إن القرآن لا يدع الإنسان في الظلمة تتخبطه الأهواء والمصالح  بل يمنحه الفسحة والنور لتنذره بضرورة التغيير من خلال رسائل كونية ممثلة بالآيات و الفتن والزلازل و الأزمات بوصفها منبهات إدراكية وهذه المنبهات لا تقاس بالشعور الذي يتساوى فيها الإنسان والحيوان وإنما جاءت في ضمن نصوص قرآنية؛ “وما نرسل بالآيات إلا تخويفا”  هنا تأتي ظاهرة الخوف إن وجدت في عاطفة المجتمع دفعته لإعادة تصحيح العلاقات مع القرآن والناس والواقع، ثم إن منطق الخوف يضع لبناء التجديد “ولعلهم يرجعون”

إن هذه الآيات ليست ظواهر كونية فحسب وإنما هي أيضا رسائل حضارية تستهدف زعزعة الجمود الإدراكي وكسر التبلد الأخلاقي وتفعيل الوعي بحتمية الرجوع وضرورة الأوبة فكل كارثة وفشل سياسي وكل انكشاف اقتصادي واندراس أخلاقي هو نداء إلهي يا معشر الناس هل آن أوان التوبة؟ وهل آن أوان العودة إلى العدل بعد أن ساد الظلم؟ وهل آن أوان إحياء البنية الأخلاقية بعد تغول الأنظمة اللاأخلاقية؟

لكن وحينما تهدر الفسحة والفرص المحددة للرجوع، وترفض النذر تتحول السننية الإلهية إلى طور آخر حيث لم تعد فسحة التغيير متاحة لتبدأ مرحلة الانتقال  إلى حتمية الاستبدال،

“وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم”

الاستبدال هو مرحلة الخروج من الدعوة الإلهية الصلبة إلى مرحلة الفناء بالغضب الإلهي “إنه ليس من أهلك” “وقيل بعدا للقوم الظالمين” “فخسفنا به وبداره الأرض”

لم يعد التغيير خيارا بل بات إزاحة قهرية، هنا يتدخل القانون الإلهي ليعلن فشل الذوات الجمعية في التغيير لتأتي سنة الاستبدال تمامًا كما في استبعاد عاد وثمود بالقوة والقهر والإذلال حيث لم تنفعهم القوة ولا الرخاء “ألا بعدا لعاد قوم هود”.

إنها لحظة سقوط النموذج الإدراكي بكامله و العقل الذي أفرزه والوجدان الذي تقبله واستمراه والسلوك الذي كرسه. ثقافة وفكرا وعملا.

إن البديل لا يصاغ بإحياء تراث حرفي ونظريات تملأ أقلامنا رسما وندواتنا استعراضا، و ولا بتبني نموذج استشراقي وإنما بتوليد نموذج قرآني إدراكي جديد يستند إلى قواعد كلية محورها التوحيد كمنظور للعالم والعدل كأداة بنوية والإنسان كغاية لا وسيلة وإعادة التمركز حول الإنسان بالرجوع إلى الفطرة الإنسانية كقيمة عالمية مشتركة.

ما نشاهده من تحولات لم يصنع بقرارات دولية ولا تخطيط منظم وإن كان كذلك، وإنما نمر في لحظة فرز سنني فرضه علينا عوائق التغيير الذاتي، فمن يستجيب للفسحة القرآنية يمنح النجاة  والتجديد ومن يعاند يدخل في طور الحتمية التاريخية بعدل الله “إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون”  أخيرا فإن الأمة التي تفشل في إصلاح ذاتها تستبدل و لا ظلم في ذلك  لأن هذا هو محور التوازن الذي يؤسس العدل الإلهي لإعادة الانسجام مع الكون بعد تطرف الإنسان وبغيه.

 

 

 

Comments (0)
Add Comment