الشرعية اليمنية من تمثيل الدولة إلى اللادولة : قراءة في أزمة التفكيك البنوي وانهيار الدولة
د. جمال الهاشمي
تعاني اليمن من أزمة وجود الدولة بينما المعاناة الأكبر تكمن من وجود قيادة مكونة من سبعة رؤوس تسمى بالشرعية ليس لها وجود حقيقي على جغرافية الدولة وليس لها حاضنة شعبية أو حضور دولي فاعل إلا على صفحات الإعلام وخطبها.
الشرعية ككيان هش لا يمثل دولة ولا يمتلك مشروعا وطنيا ولا يحظى بتوافق نخبوي أو شعبي، إنها بنية فارغة من الداخل تحولت من إطار تمثيلي إلى أداة تشغيل سياسي خارجية توظف ضمن توازنات إقليمية متغيرة.
كما أن الخلل في بنية الشرعية ليس طارئا بقدر ما هو انعكاس طبيعي لانعدام التماهي بين السلطة والمؤسسة و بين الشكل القانوني والمضمون السيادي؛ إنها لا علاقة لها بمفهوم الشرعية كمأسسة ديمقراطية أو مدنية أو تاريخية أو كخصوصية يمنية إلا من خلال الإعتراف الدولي من منظور سياسي مجردا من أية معايير دولية أو محلية.
وغياب هذه المعايير يضعف شرعية الشرعية إذا واجهناها بالقانون الدولي وذلك من خلال العمل على مرافعة دولية لمواجهة شرعية الشرعية ومواجهة سلطة الأمر الواقع في صنعاء وشرعية الإنفصالي في الجنوب وشرعية وأية شرعية تتناقض مع مفاهيم القانون الدولي وهذا ما سنؤسس له لاحقا في إطار العمل مع الشعب وبتفويض منه.
وإذا نظرنا إلى مكانة الشرعية من حيث ملامستها للواقع نجدها غير قادرة على احتكار القرار أو اتخاذه، وغير قادرة على فرض السيادة أو المصالحة وهذا كفيل بسحب شرعيتها بموجب القانون الدولي، أما إذا كانت غير راغبة أصلا في إعادة بناء المركز لأن وجودها في الهامش يعطيها الاستمرارية فإن ذلك يمنحنا الحق في محاكمتها دوليا ورفع دعاوي أمام المحاكم الدولية .
وهنا تبرز الأزمة في أزمتين؛ أزمة تسييس الشرعية وأزمة توليها أمر الشعب وهي غير قادرة على ذلك، إذ أننا إزاء بنية سلطوية لا تسعى للحكم لأنها تعرف مدى التكاليف التي ستدفعها، ومن باب آخر فهي غير مؤهلة فكريا ووظيفا وحضاريا ودوليا وإنسانيا ومدنيا ، وابسط الطرق التي تتبعها هو أن تحافظ على الوضع السائد لتضمن البقاء حتى وإن كان ذلك في وضعية انعدام الدولة.
هذه الشرعية لا تعرف معنى المسؤولية ولا تمتلك منها سوى صفة المسؤول بدعم دولي منحها الحق من غير استحقاق واضفى عليها أخد الأعراف الدولية التي لا يتناسب وصفا ولصقا على دولة ريعية لم تسعى لتغيير أنماط إدارتها ، فكيف يمكن أن تضفي هذه الصفة على نظام لا علاقة له بالدولة ليس في الداخل بل وعلى مستوى السفارات وحضورها الدولي الذي لا نكاد نسمع منه، بل إن هذه الشرعية بهذه الصفة عالة على المجتمع الدولي ودول الخليج الداعمة لها ، ومن ثم فإن ما ينفق عليها من أموال وقروض لا شك أن الأجيال القادمة ستدفع ثمنه وسيدفع المستقبل اليمني أثمان فشلها في إدارة المؤسسات وموارد الدولة والقروض الإقليمية والدولية.
إنها شرعية تعتمد على الشعب في دفع الضرائب والتحويلات المالية وعلى المبادرات المجتمعية في تأسيس البنى التحتية ورصف الطرقات وعلى صناديق الجمعيات والمساعدات الإنسانية والأعمال الاجتماعية الخيرية أكثر من صناديق التنمية.
هذه الشرعية لا تملك من مشاريع التنمية ولا حتى إدارة المساعدات الإنسانية شيئا لا سيما إذ نظرنا إلى تصريح رئيس الدولة وهو يتحدث عن دعم مائة ألف وجبة من الفول للأسر الفقيرة غير قادر على منافسة مخبز يقدم نفس الكمية لدعم الأسر الفقيرة.
وإذا نظرنا إلى معايير التغذية سنجد أن هذه الوجبات لا تعد من الوجبات الصحية وفقا لمعايير التغذية والصحة العالمية.
إن منح الشرعية وقتا إضافيا يعد إشكالية في الوعي الشعبي وأزمة في نخبه وقياداته المجتمعية لأن الشرعية اليوم تمثل مظلة هشة تتجمع تحتها قوى متناقضة لا يجمعها مشروع جامع ولا توحدها هوية سياسية واحدة وأن التعدد الذي يفترض أن يكون عنصر إثراء تحول إلى فوضى منظمة حيث تتعايش مشاريع الانفصال مع المصالح الجهوية والتحالفات القبلية والنزعات الطائفية داخل إطار واحد يفتقر للضبط والاتجاه والدولة والمدنية والمشاريع الحضارية أو الإنسانية.
هذه التعددية اللاوظيفية أنتجت مسخا من التحالفات المؤقتة والانقلابات الناعمة والتفاهمات المصلحية مما جعل القرار السياسي مائعا والسلطة التنفيذية معطلة والشرعية ذاتها غير قادرة على ضبط محيطها القريب، بتعبير آخر لم تعد هذه الشرعية قادرة على تمثيل كل وطني لأن هنا تراهن بتلك المفاهيم على انقسامه والمشكلة لا تكمن في الحكومة وإنما في السلطة المكونة من سبعة رؤوس متناقضة ، ولا اعتقد أن هذه السلطة ولو استبدلت مائة حكومة قادرة على تشكيل شبه دويلة ، وما هذا الاستبدال إلا وسيلة من وسائل التخدير، وهذا هو الأسلوب التقليدي المستخدم الذي لم يعد نافعا، فعندما تحركت الثورة المناهضة للشرعية من تعز اختاروا رئيسا للحكومة منها ثم اشتعلت في عدن فتحولت قيادة الحكومة إليها ولما انتفضت حضرموت بدأ للسلطة تغيير الحكومة بأحد أبنائها وهذا التغيير يدل على ضعف القيادة وعدم فاعليتها وعجزها في إدارة الدولة محليا وخارجيا.
إن أخطر ما يواجه أي منظومة سياسية هو فقدانها لقيادة قادرة على انتاج مشروع واستراتيجيات لتضمن وجودها ومن خلال استقراء تحركات وخطابات وقرارات الشرعية اليمنية المعاصرة أجدها تفتقر للرواية الوطنية الكبرى وليس لديها تصور واضح للمستقبل ولا خطاب تعبوي جامع ولا رؤية لهوية الدولة أو علاقتها بالإقليم والعالم.
غياب هذه القدرة جعل الخطاب السياسي مفككا يرتكز فقط على مفردات خارجية ويعتمد على الشرعية الشكلية لا السيادة الواقعية. وبدلا من صناعة رموز وطنية قادرة على الحشد والتأطير تحولت الشرعية إلى جهاز إداري يتحرك ببطء خلف الأحداث و لا يصنعها.
إن من نتائج هذه الهشاشة والتفكك البنيوي والفراغ الفكري والتعدد المأزوم تحويل اليمن من دولة إلى مسرح سلطات موازية كل منطقة أصبحت خاضعة لقوة مختلفة وكل قوة لها ممول وكل ممول له مشروع لا علاقة له بمستقبل اليمن.
هذا الوضع أعاد إنتاج نموذج اللادولة، حيث تنعدم السلطة المركزية وتفقد المؤسسات فعاليتها وتصبح السيادة سلعة تتداول على طاولة اللاعبين الدوليين و في هذا السياق لم تعد الشرعية جزءا من حل الأزمة بقدر ما تحولت إلى أحد أبرز عوامل تعقيدها بسبب عجزها، وتبعيتها وتآكل شرعيتها الواقعية.
إن أزمة مكونات الشرعية في اليمن غير قابلة للترميم بالأدوات التقليدية ولا إعادة الإنتاج ولا حتى قابلة للتحنيط لأنها تعاني من أزمة بنوية تكشف لنا عن عمق الانفصال والانقطاع بين الشكل والمضمون و بين السلطة والهوية و بين المشروع والدولة وما لم يتم تفكيك هذه البنية وإعادة هندستها وفق أسس سيادية وطنية وتشاركية واستراتيجية إقليمية ضمن منظومة الجزيرة العربية فإن اليمن مرشحة لمزيد من الانقسام وتكريس حالة اللادولة حيث ستبقى كأحد ملفات الأزمة الإقليمية لا دولة ذات سيادة.
وإننا من هذا المنطلق ندعوا الشعب اليمني للاصطفاف الوطني ضمن استراتيجيات إدارية جديدة قادرين على تأصيلها وتأسيسها لضمان الخروج من هذه الفوضوية والتشتت إلى إطار الدولة القوية الفاعلة التي تكون ضمن الاستراتيجية الإقليمية وعروبتها وأرومتها السامقة .