البند السابع وأزمة اليمن بين تدخلات الخارج وصمت الداخل: قراءة في سيرورة التحول التاريخي والسيناريوهات المتوقعة للخروج من الأزمة
د. جمال الهاشمي
منذ أن صدر قرار مجلس الأمن رقم 2216، والحديث عن البند السابع لا يزال يتصدر واجهة الجدل السياسي والقانوني حول طبيعة الصراع في اليمن، وموقعه ضمن معادلات الإقليم ومصالح القوى الدولية.
لم يكن دارج اليمن تحت هذا البند إلا تأطيرا قانونيا لشرعنة الصراعات الجيوسياسية والتدخلات الدولية لدول لم تجد فرصة للتدخل في شؤون اليمن من خلال الانقسامات اليمنية وغياب المشروع الوطني الجامع.
وبهذه التأطير القانوني فتح المجال للمجتمع الدولي في التعامل مع اليمن كمصدر لتهديد الأمن والسلم العالمي والملاحة الدولية، وهو من البنود الاستثنائية التي لم تكن مناسبا وصفا وقانونا على الحالة اليمنية حيث لم يكن التهديد اليمني على الخارج، وإنما من الداخل على الداخل من مكونات وطنية فقدت قدرتها على التوافق، واستسهلت الارتهان للخارج، فتحولت الأزمة اليمنية بين هذه المكونات إلى نزاع إقليمي تُرك ليتعفن على طاولة مجلس الأمن بينما يحترق الشعب اليمني في الداخل في أسوأ حالة إنسانية شهدتها اليمن.
كان هذه القرار انعكاسا لواقع اختلفت فيه موازين القوى، بين حكومة شرعية عاجزة وقوى نفوذ خارجة عن القانون الدولي، وبسبب هذا التباين بين شرعية الاعتراف الدولي والسيطرة على الأرض نشأ القرار يبرر استمرار الحرب وتكريس الواقع القائم، ومع مرار عقد من الصراع لم يحقق هذا القرار أي من بنوده الرئيسية، فلا انسحاب ولا تسليم سلاح ولا عودة للسلطة، بل أدى ذلك إلى تفكك الشرعية بمكونات زادتها تشظيا.
وتكمن خطورة البند السابع في تجميده لسيادة اليمن عمليا، وأصبح قرار الشرعية مرتهن لتوافق أقليمي ومباركة دولية، وهذا الاختلاف الإقليمي وسع من دائرة الأزمة واتسعت معه فجوة الاختلاف، وكل تفاوض أو مصالحة يجب أن يتم من خلال نيويورك وطهران ودول التحالف المؤيدة للشرعية، حيث تتناقض الإرادات ويصعب إدارتها، فتحول المشهد السياسي ومن أزمة إنسانية إلى حوارات تُدار من الخارج، بينما يعاد تدوير الداخل بالفوضى .
ومن ثم فإن االخروج من البند السابع لا علاقة له بالقانون، وإنما هو قرار سيادي بموجب سلطة نابعة من الداخل متصالحة مع ذاتها، جامعة لا مستثنية ومؤسسات مدنية قادرة لا شكليات مؤقتة لأنه انعكاس لواقع مـأزوم وليس قيدا قانونيا، فلا مخرج منه إلا بخروج اليمن من صراعات الداخلية وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية، لأن فلسفة القانون أقوى من فلسفة القوة، والتوافق الوطني خير من الوصاية.
كما أن الشرعية لا تمنح من مجلس الأمن، بل تنبع من إرادة الشعب اليمني، كما أن الدول لا تسس بقرارات دولية وإنما بمشاريع وطنية قادرة على الخروج من أزماتها واستعادة هويتها السياسية داخل حدود الجغرافيا.
ومن هنا تأتي تساؤلات عن كيفية الخروج من وصابة البند السابع واستعادة السيادة والخروج من الأزمة؟، وفي هذا المقال سنضع ترتيبا للحلول جميعها تشترك في الأسس وتختلف في الوسائل والأدوات .
وفي الحقيقة أنه لا يمكن لأي بلد الخروج من تحت البند السابع دون مصالحة وطنية شاملة بين كافة الفئات، وتحقيق إجماع وطني يوحد بين القوى السياسية والمدنية والقبلية يعكس طموحات الأطراف ويحترم خصوصيات الشعب اليمني بعيدا عن التأثيرات الطائفية والسياسية ، ومن ثم العمل على تشكيل تحالفات دبلوماسية مع القوى الدولية كالولايات المتحدة، وروسيا، والصين، ودول الاتحاد الأوروبي، بموجب ما سبق يتبنى مجلس الأمن رؤية جديدة للواقع اليمني، قائمة على التفاهم السياسي بدلًا من التدخل العسكري.
وهنا يأتي دور الوسيط المحايد في رعاية التوصل إلى حل سياسي يدفع باليمن نحو بناء المؤسسات الديمقراطية المستقلة والقادرة على إدارة شؤون البلاد بكفاءة وشفافية.
ومن متطلبات رفع البند العامل الأمني والإنساني حيث يتطلب استقرار الأمن وحماية المدنيين وفتح منافذ العبور للمدنيين واستعادة الحياة الطبيعية باعتبار ذلك كله من الركائز الأساسية التي تعكس مستوى الثقة بين الأطراف وتخلق بيئة مناسبة للمفاوضات السياسية،
وبعد تحقيق كل ما سبق سيكون على الحكومة تقديما طلبا رسميا لمجلس الأمن يتضمن رفع البند السابع مصحوبا بتطورات إيجابية على الواقع.
وفي حال فشل هذه الآلية وعجز هيئة التشاور والمصالحة عن القيام بوظائفها، يتوجب على السلطة تجاوز هذه الخطوة من خلال ممارسة الضغط على الأطراف الإقليمية لتغيير سياساتها التي تدعم أطرافا معينة في الصراع اليمني؛ سواء كانت داعمة للشرعية ومكوناتها أو للحوثيين، والتي ساهمت في إطالة أمد الصراع وتعميق الأزمة اليمنية.
ويتطلب من الحكومة الشرعية أن توظف علاقاتها مع هذه الدول لتوجيه سياستها لتحقيق تهدئة إقليمية تصب في مصلحة الاستقرار اليمني ومن جهة أخرى تفعيل الدور العربي المشترك لحل الأزمة لتحقيق السلام وإعادة بناء اليمن بعيدا عن التدخلات الخارجية من خلال تفعيل دور السفارات اليمنية تفعيلا وظيفيا مسؤولا.
وأن تكون لها استراتيجية واضحة للتواصل مع القوى الكبرى في العالم مثل الولايات المتحدة وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي والعمل على إنشاء تحالفات دولية مع دول مؤثرة في الملف اليمني وخصوصا الدول التي تدرك أهمية استقرار المنطقة وتأثيرات الصراع اليمني على الأمن الإقليمي والدولي وأن تسعى إلى توسيع نطاق المساعدات الإنسانية مع التركيز على خلق بيئة مستقرة للمفاوضات مما يعزز من فرص الخروج من البند السابع بشكل فعال.
ومن الحلول التي يمكن أن تعيد بناء الدولة واستعادة السيادة الحلول الاقتصادية والتنموية من خلال إعادة بناء البنية التحتية في المناطق المحررة، وتوفير فرص عمل للشباب، وتعزيز قدرات القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة، حيث أن هذا سيعزز من موقف الحكومة من الحصول على الدعم الدولي ووتقديم صورة جديدة عن اليمن بحيث تكون دولة قادرة على النهوض ولديها القدرة في السيطرة على منابع الفساد، وفي إطار هذا فإنه يجب أن تعمل الحكومة على إشراك القطاع الخاص والمستثمرين الإقليميين والدوليين في عمليات الإعمار مما يعزز من فرص إلغاء البند السابع.
ومع فشل كل الحلول السابقة يتساءل المجتمع اليمني ونخبه في الداخل والخارج عن مخرج بديل لليمن خارج اطار الشرعية لا سيما بعد تكرار اخفاقتها المتكررة، دون تحقيق أي تقدم ملموس على مستوى الأرض والأمن والاقتصاد والوضع الإنساني.
وهذا السؤال لا يعني بالضرورة الانقلاب على الشرعية بمفهومها الدستوري بل يدعو إلى تحرير القرار الوطني من الارتهان المطلق للنصوص الدولية المجمدة والتي أصبحت جزءا من إدارة الصراع لا سيما وأن المجتمع الدولي بدأ يراجع الكثير من أدواته في التعاطي مع ملفات السيادة الوطنية بعد فشل الأدوات التقليدية في صناعة السلام والأمن والاستقرار.
لا سيما وأن المجتمع اليمني ومنذ أن أدرجت دولته تحت البند السابع بموجب قرار مجلس الامن رقم 2216 أوجد سلطة شرعية تبرر وجودها من خلاله، وفي الوقت ذاته تعاني من انقسامات داخلية عاجزة عن اتخاذ أي قرارات سيادية، و لم تقدم لليمنيين أي ضمانة حقيقية للسيادة ولا انفراجه اقتصادية ولا مخرج آمن من نفق القرارات الأممية المظلمة.
وبهذا القرار الأممي لم تعد الشرعية قادرة على الخروج من الأزمة بل غدت جزءا من المشكلة التي تتمدد معها نفوذ التدخل الخارجي واتخذت بموجب القرار كغطاء قانوني لتمرير أجندات إقليمية ودولية عجزت عن إنتاج حلول يمنية خالصة
واذا ما نظرنا للمشهد اليمني سنجد عدة مسارات تخرج الأمم المتحدة عن جمودها، وتفتح أبوابا للخروج من البند السابع دون المرور عبر بوابة الشرعية الرسمية
وأول هذه المخارج يتمثل في توافق وطني بديل خارج الأطر الرسمية والتي تقوده شخصيات وطنية أو كيانات مستقلة غير خاضعة لسلطة التحالف أو الشرعية العاجزة، وهذا التوافق اذا نجح في لملمة الأطراف وتقديم مشروع جامع للسلام والسيادة سيكون قوة ضغط على المجتمع الدولي لإعادة النظر في بنية القرارات السابقة وفتح باب التعديل الأممي على ضوء واقع جديد يتشكل على الأرض يقوده المجتمع المدني باعتباره أحد الأدوات القوية التي يمكن لليمن الاستفادة من حركتها للخروج من طاولة البند السابع حيث لا تقتصر المعركة في اليمن على الساحات السياسية والعسكرية، بل هي أيضا معركة فكرية وثقافية يمكنها أن تعمل على إعادة بناء الثقة بين اليمنيين وتعزيز العيش المشترك في إطار دولة مدنية واعية بتحديات الأمن والسلم الوطني.
وندرك أن المجتمع اليمني رغم تحدياته الكبيرة إلا أنه يمتلك رصيدا حضارية وثقافة فكرية متجانسة تمكنه من تشكيل حوار شامل يتجاوز الانقسامات الداخلية، ويؤسس لبيئة حوارية تؤسس لمفهوم الدولة العادلة والعدالة الاجتماعية والتنمية والأمن والاستقرار بمؤسسات موحدة وقوية.
وهذه يتطلب من المنظمات المحلية والدولية أن ترفع من وتيرة المشاركة المجتمعية خاصة من النساء والشباب لتشكيل تحالفات من أجل السلام والاستقرار ومن ثم توسيع دائرة التدريب للكوادر المحلية وتعزيز قدراتهم على التفاوض والمشاركة في عملية بناء السلام.
وقد يأتي عبر الحراك الشعبي الضاغط لا سيما الشرعيات التقليدية لم تعد قادرة على احتواء الشارع اليمني ولا توجيهه وإذا ما تفجرت موجة غضب شعبية منظمة تطالب باستعادة القرار اليمني، والسيادة اليمنية بتشكيلات جديدة تقودها رؤية وطنية واحدة بعيدا عن الصراعات والانقسامات المحلية.
ومن جهة أخرى فإنه يمكن استعادة السيادة اليمنية عبر تقديم مبادرات إقليمية مستقلة خارج إطار التحالف تعمل على دعم مشروع سياسي يمني مستقل وغير تابع لأي من قوى الصراع الحالية من خلال دمجه مع المبادرات المقدمة خارج إطار الشرعية.
ومن عوامل الخروج من الأزمة التحول في موازين القوة المحلية، فاذا ظهرت قوة يمنية على الأرض تفرض سيطرتها وتثبت قدرتها على إدارة البلاد وتقديم نموذج بديل لحكم مدني مستقر وقابل للتفاوض فقد تجد بعض الدول نفسها أمام ضرورة الاعتراف بسلطة الأمر الواقع وهو ما حدث في تجارب كثيرة كأفغانستان وليبيا وغيرها مما يعيد صياغة العلاقات الدولية دون العودة للشرعيات الضعيفة.
ولعل المخرج الاكثر سلما والأقل تكلفة هو التحرك الحقوقي والقانوني الدولي من خارج مؤسسات الدولة اذا ما نشطت الجاليات اليمنية في الخارج والناشطون الحقوقيون في تقديم ملف قانوني ضاغط للمطالبة برفع البند السابع بناء على فشل السلطة الرسمية في إدارة البلاد وتحقيق الاستقرار وسيادة الدولة، وقد يتحول هذا الملف إلى رافعة قانونية جديدة تُجبر الأمم المتحدة على مراجعة موقفها، وهذا يدعونا لتفعيل دور اتحاد الجالية اليمنية في أوروبا أو الاتحاد العالمي للمهاجرين أو تأسيس اتحاد يتجاوز انقسام هذه الاتحادات في المهجر أو العمل من خلال المعهد الفرنسي لا سيما وأنه ينطوي تحت مظلته عدد من الشخصيات اليمنية في المهجر.
ومن خلال ما سبق لا يمكن أن يكون مستقبل اليمن مرهون بسلطة الشرعية وحدها ، بل أيضا مرهونا بقدرة اليمنيين على إعادة تموضعهم خارج النصوص الجامدة، وبناء شرعية بديلة من رحم الأرض لا من قرارات تتآكل مع الزمن.
كما أن الخروج من البند السابع اذا لم يتحقق عبر الدولة فيمكن أن يكون عبر الإرادة الشعبية والسياسية والحقوقية المنظمة فالعبرة ليست بموقع القرار بل بفاعلية من يحمله وإرادته.
وهنا نضع بعض السيناريوهات المتوقعة:
السيناريو الأول يتمثل بصعود تكتل وطني من القوى المدنية المهمشة غير المسلحة والتي تدرك أن السلاح وحده لا يصنع دولة وان غياب المشروع المدني هو الذي أطار الصراع والأزمة الإنسانية في اليمن، فإذا ما استطاع هذا التكتل أن يتحد في جبهة سياسية واجتماعية عابرة للمناطق والانتماءات فستكون قادرة على أحداث خلخلة جدية في البنية السياسية السائدة.
السيناريو الثاني: أن تبرز على الساحة قيادة شعبية ميدانية في المحافظات المحررة، بحيث تتمتع بشرعية اجتماعية ومصداقية ميدانية تستطيع أن تقديم نموذج بديل عن الفوضى القائمة بحيث تبدأ وجودها من خلال تأمين الخدمات وتوفير الحد الأدنى من الاستقرار وصولا إلى بناء قاعدة سياسية محلية تتحول لاحقا إلى نواة سلطة جامعة تفرض نفسها من القاعدة على القمة.
السيناريو الثالث: وهو الذي يتمثل في فشل السلطة الشرعية بالكامل وظهور فراغ سياسي تملؤه الكيانات المحلية الصاعدة حاليا في مناطقها المحررة، وهذا الفراغ إذا ما رافقه تنسيق ذكي بين هذه الكيانات فقد يؤدي إلى تشكيل جسم سياسي بديل يتمتع بإدارة مستقرة، ويقدم نفسه للمجتمع الدولي والمحلي كبديل واقعي وقابل للتفاوض، وهذا النوع من التحولات لا يحتاج إلى اعتراف مسبق بل يكتسب شرعيته من قدرته على البقاء في الواقع.
السيناريو الرابع: قيام مؤتمر وطني للمصالحة الوطنية خارج الاطار الرسمي ترعاه شخصيات مستقلة وأكاديمية وقبلية واجتماعية وتضع إطارا جديدا لشكل الدولة توضح خيوط العلاقة بين المركز والأطراف، هذا المؤتمر إذا ما وجد دعم شعبي وغطاء من بعض الدول الإقليمية غير المنخرطة في الصراع اليمني فقد يتحول الى لحظة مفصلية في إعادة إنتاج المشهد.
السيناريو الخامس، فهو من خلال المقاومة الناعمة المستمرة داخل المجتمع اليمني والذي يخلق وعيا وطنيا يوضح فيه خطورة الارتهان للنصوص الدولية والتعلق بشرعيات مسلوبة القرار، حيث تبدأ هذه المقاومة بالكلمة والوعي وتنتهي بتغيير موازين القوى على الأرض عبر تشكيل اصطفافات اجتماعية واقتصادية قادرة على تحريك الداخل نحو مشروع سياسي جامع ومستقل يؤسس لمصلحة الوطن وتأسيس الدولة المدنية.
وكل هذه السيناريوهات ممكنة إذ ما توفرت الإرادة الوطنية الحرة، والقدرة على التنظيم، والدعم الشعبي الصادق الباحث عن كيان سياسي لا يكرر أخطاء الشرعية ولا استبداد الجماعات المسلحة، عندها فقط يستعيد اليمنيون سيادتهم لا بالشعارات بل بصياغة واقع جديد تصنعه أيديهم على الأرض,
وليست السيناريوهات السابقة مجرد متعة أكاديمية أو فرضيات مثالية بل هي مسارات اقتبستها من تجارب شعوب كثيرة خرجت عن عباءة الوصاية الدولية وصنعت لنفسها واقعا سياسيا جديدا بعيدا عن القرارات المفروضة والتدخلات المستدامة وفي اليمن نفس التجربة حيث نجد إشارات واضحة ومتشابهة تحتاج فقط لمن يستطيع تنظيمها واستغلالها والعمل على تحقيقها،
لا سيما وأنه ومنذ بداية الحرب ظهرت مبادرات أهلية في عدد من المحافظات عملت على إدارة الشأن المحلي بعيدا عن مركز القرار الغائب؛ ففي تعز ظهرت نماذج لإدارات مدنية مستقلة حاولت رغم هشاشتها توفير الحد الأدنى من الخدمات، وفي مأرب برزت سلطة محلية قوية استطاعت لسنوات أن تنأى بنفسها عن الفوضى في مراكز الشرعية وخلقت نموذجا مصغرا لدولة مصغرة مستقرة إلى حد كبير، وفي شبوة والمهرة تتكرر المحاولات ذاتها في خلق شكل من أشكال التوازن بين المركز والمحيط مما يعني أن هناك بالفعل حالة نضج سياسي واجتماعي تتشكل خارج النسق الرسمي وتؤسس لشرعية بديلة قاعدتها الإنجاز على الأرض لا القرارات الدولية.
وعلى المستوى العربي تجربة تونس حين صنعت ثورتها خارج المظلة الأممية ودفعت المجتمع الدولي لاحقا للاعتراف بالأمر الواقع الجديد، أما النموذج الأكثر إثارة فهو ما حدث في أثيوبيا ورواندا بعد عقود من الحروب والتدخلات الدولية حيث استطاعت الإرادة الداخلية أن تنتج قيادة سياسية وطنية فرضت نفسها على المجتمع الدولي وأجبرت المؤسسات الدولية على التعامل مع واقع جديد ليس لأنه مثالي بل لأنه كان واقعا صلبا ومتماسكا.
وهذه النماذج تثبت أن الطريق للخروج من الوصاية لا يمر بالضرورة من بوابة الشرعية أو قرارات الأمم المتحدة بل يمر من قدرة الداخل على تنظيم نفسه وصياغة مشروع وطني عابر للصراع ومبني على الأرض وليس بعيدا عنها،
وفي اليمن تتوافر كل عناصر هذا التحول من تعب الشارع إلى ضياع الرهان على الخارج و إلى بروز نخب جديدة تسعى لصياغة معادلة سياسية تنطلق من أسئلة الواقع لا من أجندات الخارج وما ينقصها هو الإرادة الوطنية الجريئة التي تملك الشجاعة لكسر الصمت الجامد وإعادة كتابة مشهد جديد بلغة وطنية صريحة؛ فالشرعية ليست لافتة دولية بل عقد اجتماعي داخلي اذا ما سقطت هذه القناعة فسيفرض الداخل معادلته الجديدة حتما وسينتج مشروعه الخاص للخروج من البند السابع واستعادة الدولة والخروج من الأزمة كما خرجت دول وشعوب كثيرة من عباءات القرارات الأممية باتجاه السيادة والاستقلال الفعلي والإرادة الوطنية المدنية الصادقة.
إن كل ما سبق لا يمثل مجرد مقاربات تحليلية بل هو دعوة صريحة لإعادة تموضع الوعي السياسي اليمني خارج مسارات الاستنزاف والارتهان وان مرحلة ما بعد البند السابع ستولد من رحم الداخل حينما يدرك اليمنيون أن الشرعية الحقيقية لا يمنحها الخارج بل تبنيها الإرادة الجمعية على أرضية مشروع وطني متماسك، فالمشروع الوطني المنشود لا يحتاج إلى معجزات بل إلى قيادة مستقلة واعية ومجتمع بدأ يدرك أن البقاء في مربع الانتظار يعني مزيدا من الغرق ومزيدا من فقدان السيادة والمكانة والانتماء وان حالة التمزق القائمة ليست قدرا حتميا بل نتيجة لصمت طويل وتردد قاتل.
إن الخطوة الأولى تبدأ من الاعتراف بأن السلطة القائمة لم تعد تمثل طموحات المجتمع وان القرار الأممي صار عبئا اكثر من كونه مخرجا من الأزمة، وان موازين القوى الداخلية هي وحدها القادرة على فرض واقع جديد يعيد صياغة العلاقة بين اليمن والمجتمع الدولي. عندها فقط سيتحول الداخل اليمني من ملعب لصراع القوى إلى فاعل سياسي يفرض شروطه ويتحرك بثقة نحو بناء دولة لا تنتظر اعترافا دوليا بل تفرضه بواقع منجز وشراكة حقيقية بين مكوناتها.
وفي سياق هذا التحول التدريجي من الارتهان إلى الفعل ومن الصراع إلى التنظيم تبرز مبادرة مؤتمر الدولة اليمنية بين استراتيجية المصالحة والدور الوطني كخطوة بالغة الأهمية في إعادة رسم ملامح المشروع الوطني الجامع حيث تأتي هذه المبادرة بدعوة وطنية من شخصيات وطنية مستقلة ووازنة يتقدمها الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد والشيخ محمد أبو لحوم وعدد من الاكاديميين والشيوخ والوجهاء من مختلف مناطق اليمن في الداخل والخارج والمعهد الفرنسي والمؤسسات العربية والدولية الداعمة.
حيث تكمن أهمية هذا المؤتمر ليس فقط في محتواه بل في رمزيته فقد استطاع أن يجمع بين الحضور السياسي التاريخي والغطاء الاجتماعي الواسع والرؤية الأكاديمية المحايدة مما يجعله نقطة توازن حقيقية بين الحلم السياسي والواقع الاجتماعي المعقد.
فالدولة المدنية ليست خيارا ناعما بل ضرورة استراتيجية في ظل واقع أنهكته عسكرة الصراع تجميد القرار وفشل كل أشكال الحكم المؤقتة والتابعة، والمؤتمر يمثل فرصة لإعادة تعريف الدولة على أساس المواطنة لا المحاصصة وعلى أساس التعدد لا الإقصاء وعلى أساس التعاقد المدني لا الهيمنة العسكرية أو الطائفية أو الجهوية.
كما أن جمع الشخصيات الوطنية من مختلف التيارات والمناطق والمرجعيات في لقاء جامع يمثل بحد ذاته تمرينا عمليا على المصالحة الوطنية اذا ما تم تحويله من حدث رمزي إلى اطار دائم للحوار والتشاور وبناء الثقة.
ويقدم المؤتمر رسالة واضحة للمجتمع الدولي مفادها أن اليمنيين قادرون على إنتاج مبادرات ذاتية مستقلة تمثل الإرادة الوطنية الجامعة وليس مجرد رد فعل على القرارات الخارجية وانهم يمتلكون من الوعي والكفاءة والإرادة ما يكفي لإعادة ضبط البوصلة السياسية نحو الداخل، ومن المهم التأكيد على أن رئاسة علي ناصر محمد لهذا المؤتمر لا تأتي فقط من مكانته الرمزية كرئيس سابق بل من قراءته العميقة للتوازنات الوطنية وخبرته الطويلة في التعاطي مع مختلف مكونات المشهد اليمني.
أما الشيخ محمد أبو لحوم فحضوره يمثل همزة وصل بين النخبة السياسية والمجتمع القبلي الذي ظل حتى اليوم أحد اهم مراكز القوة المؤثرة في المعادلة الوطنية.
إن هذا المؤتمر اذا ما تمت إدارته بحكمة وتحويل مخرجاته إلى خارطة طريق وطنية قابلة للتنفيذ سيكون نقطة تحول حقيقية في مسار استعادة السيادة والخروج من البند السابع ليس عبر المواجهة بل عبر المبادرة البناءة، فاليمن لا ينقصه الرجال ولا الأفكار بل تنقصه اللحظة التي يقرر فيها أبناؤه أن يتقدموا الصفوف ويضعوا حجر الأساس لدولة لا تستورد مشروعها من الخارج بل تصنعه من وجع ومعاناة الداخل وتحقيق أمنيات الشعب بوطن مدني يستوعب الجميع.
إن هذا المؤتمر ليس فقط فعلا سياسيا بل هو لحظة وعي وطني اذا ما احسن استثمارها سيكون حتما مفتاحا لاستعادة اليمن من ركام الحرب والانقسام، ولكي لا يتحول مؤتمر الدولة المدنية إلى مجرد محطة رمزية عابرة أو حدث نخبوي موسمي من الضروري أن يتجاوز الحضور السياسي والاجتماعي اطار البيان الختامي وان يتحول إلى حالة وطنية مستمرة تنتج أفكارا ومبادرات عملية قابلة للتنفيذ وتؤسس لمسار وطني جامع يعيد تشكيل النظام السياسي من الداخل حيث ينشد المؤتمر إلى اعلان ميثاق وطني جامع يؤكد على مبادئ الدولة المدنية الحديثة وقيم المواطنة والعدالة والتعددية السياسية ويحدد الاطار العام لشكل الدولة القادمة بصيغة جامعة لا تقصي أحدا ولا تعيد إنتاج الهيمنة. ومن مقاصد المؤتمر إنشاء هيئة تنسيقية وطنية مستقلة تخرج من رحم المؤتمر وتتكون من ممثلين عن الشخصيات الوطنية المشاركة حيث تعمل على متابعة تنفيذ مخرجات المؤتمر والتواصل مع كافة الأطراف السياسية في الداخل والخارج وبناء مسارات تشاورية دائمة للعقل الوطني الجامع بعيدا عن الاستقطاب الفئوية، ومن ثم العمل على تحضير مؤتمر وطني تحت مظلة الهيئة التنسيقية التي تضم ممثلين عن كافة القوى والمكونات الاجتماعية والمناطقية لتوسيع قاعدة التوافق الوطني وخلق حالة زخم شعبي مصاحب للفعل السياسي ويضع لبنات مشروع انتقالي وطني حقيقي، ومن بين مقاصد المؤتمر صياغة رؤية اقتصادية وإنسانية انتقالية تتضمن أولويات عاجلة كإعادة الإعمار وإنهاء الانقسام الاقتصادي وتوحيد المؤسسات المالية ومعالجة الكارثة الإنسانية وتقديم هذه الرؤية كبديل عملي عن الفراغ السياسي والعجز الرسمي في مؤسسات الدولة ومن ثم مخاطبة المجتمع الدولي بلغة وطنية مستقلة تؤكد أن الحل في اليمن لن يأتي من الخارج بل من إرادة أبناءه وان أي دور دولي يجب أن يكون داعما لإرادة الداخل لا بديلا عنها وان البند السابع يجب أن يعاد النظر فيه على ضوء تطور الواقع الداخلي لا على أساس معادلات إقليمية تجاوزها الزمن، وفي نهاية هذا المسار يكون المؤتمر قد فتح بابا جديدا لإعادة تعريف الشرعية من منظور وطني جامع وأعاد الاعتبار لدور العقل السياسي المستقل واطلق دينامية وطنية متحررة من ثقل الاصطفافات الاقليمية والتبعية الدولية
هنا فقط حين يتحول الوعي إلى مشروع والمشروع إلى خطة والخطة إلى فعل يكون الداخل اليمني قد بدأ أولى خطواته الفعلية نحو استعادة قراره الوطني وبناء دولته المدنية العادلة.
طرح عميق ومدروس فيه توازن يؤسس لرسم استراتيجيات تدعمها سياسات وإجراءات تنفيذية جادة .. وهذا يتطلب فريق وطني وصناعة رأي عام ووعي بين النخب الوطنية المخلصة ولا يستثني القواعد الوطنية الفعالة وتفعيل ما هو خامل .. بمعنى يحتاج جهود جبارة وقيادة تؤسس لإدارة المرحلة وما بعدها .. ربنا يوفق لكل خير ان شاء الله