فلسطين بين أزمة الصراع وتفكيك البنية الحضارية
د. جمال الهاشمي
بعد أن ذكرنا فلسفة الصراع بصيغه واستراتيجياته المتعددة، والتي مهدت لزوال مفهوم القومية العربية ودول الطوق والممانعة ونشوء الدول القطرية بحدودها الجغرافية والجنسية ومفهوم السيادة الناقصة.
فإن أزمة الصراع الداخلي العربي ظهرت معالمة في ثورات الربيع العربي المتعددة المكونات، وهي من أهم مخاضات السياسة القطرية القومية التي تتنافس على مفهوم القومية العربية انطلاقا من مركزية الفكر القومي المختزل في قضية فلسطين والمسجد الأقصى.
أزمة الصراع من الداخل قسم الدول القطرية إلى سلطة ومعارضة انتهت بثورات الربيع، وقد ساهم الفشل الإداري والفشل في إدارة التعليم من تشكيل نخبا معارضة تبين لها أن معوقات التنمية والأخلاق والقيم الحضارية تأتي من السلطة السياسية، ومارست كردة فعل غير ممنهجة سياسات مضادة وسعت من أزمة الصراع، وتسابقت السلطات والمعارضة على تقديم مبررات للعالم الغربي عبر وسائل الإعلام وقنواته الإعلامية والمؤتمرات العلمية ومراكز البحوث المشتركة والمنظمات الحقوقية واللقاءات السرية والإعلام المجتمعي عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة.
وباستراتيجية الديمقراطية التي أصبحت محورا للصراع بين السلطة والمعارضة تشكلت أكبر قاعدة بيانية للعالم الغربي بنيت عليه قرارات استراتيجية مرحلية ولمائة عام جديدة قادمة، ومحورها الحالي هو ضمن سياق العولمة الأمنية والمالية نظرا لنجاح القاعدة المؤسسة لمفهوم العولمة الاقتصادية من الأسس العلمية لمفهوم التجارة الإلكترونية، ومن الواقع إلى افتراضاته المتخيلة تتشكلت مفاهيم أمنيه متعددة وقاعدة مالية واقتصادية أكثر مركزية، مما قسم العالم إلى قسمين: قسم ينتج وفق خطط الشركات المركزية العالمية بأقل ثمن وهذه القاعدة العامة لعولمة العبيد، وقسم يسوق لهذه المنتجات عالميا وهم السادة.
ولتبسيط ذلك فإن الفلاح العربي والمصري سيتلقى خطة سنوية يشرف عليها مهندسون يتقاضون الأجرة من الشركات العالمية، ولن يحتاج إلى تسويقه حيث تتولى الشركات مسؤوليتها ومن خلالها يباع ويصدر، وتحول قيمة المنتج إلى الفلاح البسيط بسعر القدرات التشغيلية بينما سيباع بعشرة أضعاف ثمنه إلى المستهلك الإلكتروني أو عبر التسوق الافتراضي والعملات الرقمية الجديدة، وهكذا ستتسع فجوة الثراء بين السادة والعبيد أو بين التجار والمنتجين، وستتحقق نبوة ماركس بالطريقة التي نظر لها، وليست بالوسيلة نفسها.
بمعنى آخر فإن المركزية الاقتصادية ستكون حقيقة ولن تكون بقيادة الدولة الشيوعية التي وضع قواعدها ماركس وتبعه في ذلك لينين وماوتسي كقوة مناهضة لرأسمالية الغرب، ولكن بأيدلوجية الرأسمالية الغربية المنفتحة التي نظر لها “فوكوياما”على مستوى التطور التاريخي.
ويرجع ذلك إلى أن النخب الشيوعية متصلبة ومنغلقة وترتكز على مفاهيم العنف و بينما تتسم النخبة الرأسمالية بالعنف الاستراتيجي والسياسة الناعمة، ودبلوماسية الإدارة المجتمعية وإدارة الفرد.
إلا أن الشيوعية إذا تطورت على الفكر الواقعي بما تمتلكه من أسس حضارية في روسيا والصين، فإنها تستطيع ردع العملات الرقمية والتجارة الافتراضية وقد تهيمن عليهما وعلى التكنولوجيا نظرا لوجود قاعدة شعبية متعلمة واعية بالتكنولوجيا وداعمة لشركاتها، وهذه التكنولوجيا تعمل لى تجديد مفاهيم المادية الشيوعية، لكنها ستكون أكثر تصلبا في مواجهة الرأسمالية الافتراضية التي بدأت بتحولات بطيئة في أوروبا وأكثر تسارعا في الولايات المتحدة واليابان والصين.
وتبقى المنظومة الإسلامية والعربية والإفريقية رهين هذه التحولات، وهي واحدة من أهم أهداف استراتيجية السوق الرأسمالية على مستويات الواقع والافتراض، وبذلك تتشكل مركزية العولمة الاقتصادية والعولمة المالية أو مراكز قوى متعددة لها، ستعيد استراتيجية الحرب الباردة التي سيذهب ضحيتها الدول الفاقدة للوعي الحضاري والمفاهيم الاستراتيجية العالمية والمستقبلية.
لأن مفهوم الحرب الباردة يعني صراع القوى المحلية مع بعضها والدويلات القطرية بدعم من القوى الدولية وكوسيلة من وسائل إعاقة هذه الدول واستنزاف مواردها الطبيعية والبشرية، ويبقى مفهوم العولمة الحضارية المتمركز بثلاث قواعد حضارية مركزيتها فلسطين وعمقها الاستراتيجي في أوروبا، وفي الولايات المتحدة القلب، وأطرافها بقية دول العالم المسيحي الآخر روسيا وأثيوبيا وجنوب أفريقيا والبرازيل …..
وقد أدركت الولايات المتحدة أزمة الشيوعية في أفغانستان وجاذبية الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وهو ما دفع بروسيا نحو تطوير المفاهيم الشيوعية ومعالجة خلل الأيدلوجية المتصلبة لكنها بطيئة مقارنة بسرعة التطور التي تبذله الصين لتطوير أيدولوجياتها الشيوعية الماتوسية بصبغتها الرأسمالية.
تعتبر أوراسيا وروسيا في الميثولوجيا الغربية والعسكرية التهديد المحتمل للغرب ويرجع ذلك إلى أن هذه الأيدولوجيات الأسيوية دموية، وتمزيقها أو تفكيكها وخلق صراعات عقدية ودينية وعرقية ضروريا لحماية الأمن الغربي من تهديدات الأوروأسيوية وخصوصا الإسلامية، ولذلك كان الصراع بالإسلام وتدميره وانتزاعه من تلك البقاع وغرس المسيحية من المفاهيم الاستراتيجية الأمنية للعقلية المسيحية، وأول الخطط الموضوعة لذلك خلق بؤرة صراع مركزية بين تركيا وإيران، وهذه وروسيا والهند والصين من جهة أخرى، لأن هذه المناطق كفيلة بخلق معتقدات مختلطة على غرار معتقدات السيخ في الهند، والصفوية في أردبيل، وجميعها ووفقا للاستراتيجية التاريخية سيكون توجهها نحو الدول الإسلامية في العمق، وهذه الاستراتيجية الاحتياطية ستكون داعمة لاستراتيجية أزمة الصراع القائمة حاليا في منطقة الشرق الأوسط.
استراتيجية أزمة الصراع من الداخل يعني خلق معتقدات وإثنيات وحزبيات وحتى جهويات لتفكيك الدولة على المستوى المحلي لأهميتها في تكفيك الدولة القطرية وتوزيعها إلى جهويات بنمط ومنطقية القبائل العربية شريطة أن تتشكل دول عربية ضعيفة وتابعة على التخوم والأحزمة الأمنية لحماية العمق الحضاري المسيحي في فلسطين مركزية العالم الحضاري.
وسيكون الضغط على مصر من إثيوبيا والصراع العسكري على الحدود الليبية وطموحات الدولة اليهودية في سيناء، إضافة إلى أزمة اقتصاد رأس المال الاجتماعي المصري وتدمير بنية الأخلاق الدينية كفيل بتدمير بنية الدولة الأمنية القطرية وتنمزيقها، كما أن تفكيك السعودية سيكون من الجنوب والشرق والشمال بالتزامن مع دعم الليبرالية المحلية كمقدمة وممهدة للديمقراطية وحرية المعتقدات وحقوق الأقليات.
أما اليمن كدولة عمق بشري وجيوسياسي يهدد خطوط الملاحة الدولية فهو على خارطة أزمة الصراع بين دول عديدة لتكون نهايتها انفصال الشمال عن الجنوب وإنما إعادة نموذج السلطنات في الجنوب وصراع المعتقدات والقبليات في الشمال.
وفي سوريا سيعاد نظام الولايات الممانعة للقيم الحضارية التي عوقت تحرير فلسطين ما يقارب القرن من الزمان وبلغت الحروب التي كانت بين الدويلات والدول المسلمة أضعاف الصراع الذي كان قائما بين دولة العمق الحضاري لإمارة حلب والاستعمار البريطاني، وسيزول نظام الأسد لأن نهايته بدأ باستخدام العنف ضد المعارضين وهو ما أدى إلى نمو فكر كامن وله بعض النزعات التحررية التي ترجمتها الثورة السورية، وأن هذه الثورة قد تعرضت للعنف من قبل النظام وكان مصير العنف توسيع الفجوة بين النظام والشعب وهو ما ينذر بزول هذا النظام على مدى عقد أو عقدين على الأكثر إلا أن الظروف الدولية ستعمل عكس مصالح النظام وبقائه واستقراره، وبعد زواله ستبدأ سلسلة من المراحل الهادئة التي سيعقبها صراعات محلية تنتهي بتدخلات إقليمية دولية بأطماع التمدد العضوي.
ويبقى التشيع العربي أزمة فعلية قد يهدد الفعل الحضاري اليهومسيحي في المنطقة قياسا على انموذج الدولة الحمدانية التغلبية التي كانت شاركت في الحروب الصليبية برؤية حضارية تجاوزت المفهوم العقائدي.
إلا أن التشيع المعاصر يعاني من تطرف ديني ونزعات عنف مسلحة كفيلة بنهاية هذا التمدد خلال السنوات القادمة لأنه لم يستوعب مفاهيم تأسيس الدولة الفاطمية التي استمرت عقودا في العالم العربي واستطاعت أن تؤلف القبائل بالأموال والهبات لتمرير استقرارها، وعلى العكس من ذلك فإن التشيع الطائفي يتجه نحو ممارسة القوة على غرار نموذج الدولة القرمطية وهو ما يشير إلى ان قدرته على تأسيس دولة معدوما وقد يستمر وجوده في استنزاف قدرات الدول والمجتمعات التي يتوطن فيها على المدى البعيد مما سيساهم في اضعاف المجتمعات ومن ثم تغيير حدودها بعوامل خارجية.
ويبقى الحل الأسلم للتشيع هو تشكيل نموذج الدولة الحمدانية التي ساهمت في الدفاع عن الدولة العباسية وكان بقاؤها ببقاء القبيلة التغلبية والدولة العباسية ومن ثم وبزوال عوامل البقاء زال وجودها.
لهذا فإن خلق صراع داخل التسنن بين السلفية والإخوان والصوفية، وخلق الصراع بين التشيع العربي والتشيع الأعجمي والجهوي كفيل بخلق صراعات أكثر قطرية داخل المكون الواحد، وقد برزت انشقاقات واقعية داخل التشيع ليس في الأعجمي فحسب وإنما داخل التشيع العربي، وكذلك داخل السلفية، والإخوان، والصوفية وبعضها.
وتمر الأمة العربية بنفس مراحل وأزمات فترات الحروب الصليبية لذلك كان صلاح الديني صانع النموذج الذي كان نموذجا ليس في الوسط الاجتماعي العربي وإنما على المستوى الدولي، هذا النموذج استطاع أن يحافظ على شرعية بقاء الدولة الفاطمية في مصر وبقاء الدولة العباسية في بغداد، وخفف وطأة التنافس بينهما وجعل التغيير ناعما وفقا للمبادئ الديمقراطية وحكم الأغلبية ومن ثم أسس دولة عسكرية دفاعية في الدرجة الأولى حيث كانت من متطلبات الواقع، وقد استلهم تعاطيه مع الاختلاف والمعتقدات والمكونات من النموذج الذي أسسه الخليفة العباسي عبد لرحمن الناصر.
وعلى غرار التفكك الذي أزم القومية العربية وأدخلها في صراعات وتنافسات قومية بين الناصريين والسوريين والعراقيين فإن أزمة الصراع داخل المكون أكثر تهديدا على التنمية وأمن المجتمعات واستقرار النظم العربية من الحروب النظامية الدولية والحروب الحضارية والدينية، وأكثر تهديدا لمفهوم الدولة المعاصرة.
فإن قيل أين موقع النظم العربية والمكونات المحلية من هذه التخطيطات، سنعيد الأزمة مباشرة إلى أزمة فهم القيم الحضارية، وأزمة الارتباط بها وأزمة فهم الواقع والمعايير التي تنظم الواقع.
فتركيا ترتبط بالعمق التاريخي والقومي لوجودها تحت دائرة القيم الحضارية الإسلامية وإيران ترتبط بعمقها التاريخي والجغرافي والحضاري تحت الدائرة نفسها، بينما وفي المقابل تبتعد الدول العربية تدريجيا عن قيمها الحضارية وتمارس سياسة إحلال القيم الحضارية العالمية دون اعتبارات لقيم الخصوصية العربية، وتحت دائرة القيم نفسها، مما يضعف شرعيتها في الداخل ، وضعف الشرعية في الداخل كفيل بتدمير النظام وإزالته.
وكل هذه السياسات المنفصمة بين مفهوم الحضارة والواقع ساهم ويسهم في تفكيك مجتمعات الشرق الأوسط وتذويب حضارته في قيم وثقافات وحضارة الأخر وقد ساهم في ذلك عدة عوامل أهمها:
- سيطرة الفكر الغنوصي على التفكير الديني وهو فكر يدرس النصوص بمناهج ومفاهيم وعقلانية الحضارات الأخرى حيث تعيش الأمة العربية أزمة منهجية أثرت في سياسة التعليم والتنمية والأمن والتقارب المجتمعي.
- سيطرة الأيدلوجيات الوافدة على التكوينات الليبرالية والحزبية، وهو أسلوب يعتمد القيم المادية القائمة على ما لدى الآخر من انفتاح وقوة وتمدن وتقدم.
- سيطرة التقاليد التاريخية، وهو أسلوب تقليدي تعتمده أكثر التيارات الإسلامية التقليدية، وهي على شكلين؛ الأول يعتمد سياسة العزلة واغتراب الذات في المجتمع (لا يضركم من ضل إذ اهتديتم)، والثاني يعتمد سياسة التجييش العاطفي والتعبئة دون رؤية عقلانية واستراتيجية تشكل النموذج الحضاري، وهذا التنظيم ينمو سريعا ويخبت سريعا ويتفكك ذاتيا إلى تكوينات صغرى متناقضة، وتتولد فيه التنظيمات الإرهابية نظرا لاستغلال العاطفة وحرفية النصوص دون قراءة سياقات المنهجية في إنزال النصوص، مما أدى إلى التوحش المجتمعي والفردي من التدين.
- غياب منهجية التجديد: وهي منهجية حضارية نابعة عن الخصوصية الإسلامية في جميع منظوماتها النفسية والمجتمعية والسياسة والتنموية.
ومن معالم أزمة الصراع انقسام مكونات الفصائل الفلسطينية إلى سلطات وجهويات ومعسكرات منفصلة عن بعضها، وغياب الرؤية المؤسسية الموحدة لوجود الدولة واستمرار المقاومة نظرا لغياب المحددات القومية بالنظر الى رؤية السلطة الفلسطينية، والمحددات الحضارية بالنظر إلى الحركات الإسلامية، والمحددات الإنسانية بالنظر إلى المكونات الدينية.
ولا تخلو الساحة العراقية من أزمة الصراع التي تسعى لتفكيك أصولية الدولة الحديثة إلى دويلات إثنية وعقائدية نحو رؤية استراتيجية مستقبلية موجهة، ولن تكون بمنأى عن ذلك دول المغرب العربي التي بدت فيه ظواهر فكرية متبلدة أخذت سياقات مجتمعية وجهوية تدار بأساليب السياسة الناعمة للقوى العالمية ومنظماتها الدولية.
أزمة الصراع تتوجه ذاتيا بإمكانيات وموارد الدول الإسلامية، وفي حال وضعت أسسا لتجاوز هذه المرحلة مع استحالة ذلك نظرا لانتشار المظلومية والسياسات الانتقامية، فإن الإستراتيجية الاحتياطية ستمارس الفعل ذاته.
وانطلاقا مما سبق فإن تشكيل محور قطبي للمفهوم الحضاري سيشكل قلعة جوهرية لاعادة تطوير وتفعيل وتوسيع وتجديد قيم الحضارة الإسلامية، انطلاقا من إصلاح الأسس البنوية التالية:
- البنى التعليمية الدنيا والجامعية.
- بنية القيم المجتمعية.
- بنية القيم التنموية.
أما التهديد الأكبر الذي يعمق من أزمة الصراع المحلي توظيف مظاهر الجهاد واستغلاله لإحياء المظاهرات الناعمة وتوقيع العرائض المؤيدة وثقافة السلمية والثورة التي تتحول بعد ذلك إلى عنف اجتماعي وتنظيمات إرهابية، فالأزمة البنوية للقيم الحضارية الإسلامية مختزلة في تنظيمات إسلامية وقومية وجهوية وقطرية.
تلك الشعارات التي تزج تضحي بالمجتمعات العزل هي أزمة مفاهيم التجديد والتمكين ومفاهيم العدل الإنسانية العالمية، وكل مفاهيم التعبئة العاطفية الدينية والقومية تهدد منظومة القيم الحضارية الإسلامية، وتزيد من تخلف المجتمعات والتنمية والأمن.
كانت فلسطين توحد العالم العربي، لأنها كانت من داخلها موحدة، وكانت فيها حركة سياسية واحدة وإن انقسمت إلا أنها كانت تخضع أحيانا للسلطة الفلسطينية الشرعية الممثل الوحيد عن الشعب، وهذا الممثل كان راعيا للفضائل الأخرى وتنقاد له ويلبي بعض رغباتها ، وكانت أحدهما تعمل على الأرض والأخرى تكاملها بالدبلوماسية والتمثيل السياسي، وجميعها ترجع إلى الحكومات العربية وتتشاور معها في كل القرارات والالتزامات، وكان ملف المقاومة بيد مصر وملك الأردن بالتشاور والتنسيق بينهما، مهما كانت السلبية إلا أن دول الطوق بتبنيها قضية فلسطين تحافظ على أمنها، حيث كانت فلسطين بالنسبة لدول العالم العربي حزام أمني جغرافي وسكاني، وقد أدى سقوط العراق إلى عدم فاعلية الحزام الأمني الدفاعي، لأن اختراق إيران لسوريا والعراق واليمن وتطعيم مساحاتها بالصراعات الجهوية والعرقية والعقدية، أدى إلى تهميش حزام فلسطين، وتمكين إسرائيل من اختراق المنظومات الصراعية في العراق وسوريا واليمن وتفكيك المنظومة العربية على المستوى السياسي والمجتمعي.
وتحولت فلسطين من حزام دفاعي أمني للبلاد العربية إلى حزام دفاعي مرتبط بالصراعات العربية – العربية في دول الطوق والعراق واليمن، وبسقوط هذا الحزام ستتراجع الأحزمة الدفاعية إن سلمت مجتمعات العالم العربي من التفكك إلى جغرافية مصر والأردن، وبذلك فإن مصر بسبب الفوضى في منطقة السودان تكون قد فقدت أحزمتها الأمنية من جهة السودان، وليبيا، ومن سينا، وما يؤدي إلى إرهاق المنظومة الأمنية من أجل ملء الفراغ الذي خلفه سقوط النظام في ليبيا، والسودان، وهذه سيكون له انعكاسات سلبية على أمن المجتمعات من الداخل، مما قد يودي نظرا للأزمات الاقتصادية إلى فوضويات مجتمعية وجهوية داخل الدولة المصرية.
ومن ثم فإن عدم قدرة الرئيس السياسي على فرض شرعتيه من خلال أدوات التنمية والقيام بالمصالحة مع المعارضه المصرية، جعله يتخذ من العنف منهجا في التعامل مع الآخر وهذا العنف هو الأخطر على الدولة في عالم متحول دوليا وإقليميا ومحليا مما يجعل شرعيته قائمة بالمؤسسة العسكرية لا بغيرها، وهذا من مؤشرات اضعاف الدولة وتفكيكها، وقد بررت الحكومات القومية لنفسها سياسة الاستعانة بالآخر ومحاربة الإرهاب بالتعاون الدولي، وهذا المفهوم المسيس سيتسخدم من نفس الجماعات الإرهابية أو المتهمة بالإرهاب لتبرير تعاونها بالقوى الدولية لمواجهة دولا كانت عميلة وأضافت إلى عمالتها فشل التنمية والاستبداد.
لذلك فإن زوال غزة ودمارها ليس انتصارا لحركة حماس والحركات الجهادية لأن الواقع يشير إلى أن التضحيات المعلن عنها على الواقع وفي الناس لا يعكس حقيقة الانتصار إن كان ذلك نهاية للحرب واستمرارا للسلام. أما إن كانت الحروب ستعود بعد البناء والاستقرار أو ستستمر فذلك أدعى بقول عكس ذلك.
وبالنسبة لمصر فإنها ستفقد ستفقد أمنها إذا اتجها الفلسطينيون إلى سيناء وبذلك لن تكون مصر قادرة على استعياب هذا العدد، ومن ثم فإن قدراتها الأمنية لإدارة هذه الأعداد التي تأثرت بالحرب ضعيفة وستكون المؤسسة العسكرية طاردة أو قد تفرض مصر سياسة الاجبار على التجنيد.
أما الأردن فإنها قد تكون المساحة الهشة التي ستتعرض لانهيارات محلية قبل أن يبدأ التوسع العضوي نحوها، ونؤكد على أن الحرب في فلسطين وعدم التوصل الى حلول إنسانية أو دبلوماسية سينقل الأزمة الى الدول المجاورة وستؤدي الهجرات الى اضعاف منظومتها التنموية والأمنية لا سيما وأن قدرات هذه الدولة من حيث التنظيم ضعيفة وغير استراتيجية وإنما تقوم على الفوضوية والعشوائية، ومن ثم فإن العراق بهشاشته وانقامه وضعف حكومته أكثر عرضة للتدمير والصراع والتطرف والإرهاب لأن الصراع سيأخذ عدة ابعاد عرقية وطائفية وجهوية.
وتشير المؤشرات إلى وجود فوضوية كامنة داخل الدول العربية، وهي الأخطر والأكثر تهديدا للمنظومة العربية، من الأحزمة الدفاعية الملتهبة والكامنة.
وبالنسبة لإيران فإن قوتها يكمن في عسكرة العقيدة وتوظيف القضية الفلسطينية مجتمعيا مما يمنحها بحكم دفاعها عن القضية شرعية الممثل عن فلسطين، لكن بقاءها وتمكين وجودها يرجع إلى أنها المنظومة العقدية التي تدخل في صراعات مباشرة مع المعتقدات السنية للسيطرة عليها، قد تمكنت من تجنيد بعض طوائف السنة ليس في فلسطين فحسب بل وفي اليمن والعراق وسوريا، من خلال تبنيها قضية فلسطين. التي كانت توحد العرب، إلى أن أصبحت تفككهم، إلا أن توسعها ممنهجا ومعلوما ولن تستمر أبدا لأنها لا تمتلك حاضنة مجتمعية وتتباين مع مجتمعات الدول العربية عرقيا وعقديا وهو ما يجعل وجودها في المنطقة تكتيكي أكثر منه استراتيجي ودفاعي عن جغرافيتها القومية الدينية.
وتركيا التي أخذت موقعها في سياسات المنطقة ستجد نفسها في صراعات انفصالية وأخرى إقليمية وسيكون للعامل الدولي دورا في اضعافها وتفيكها.
ويعد عامل التفكيك واحد من أهم الاستراتيجيات الأمريكية في العالم الأوربي والعربي والأسيوي.
وقد كانت السلطة الفلسطينية من قبل تشارك جميع الحكام العرب، في كل مواقفها وقراراتها، وتبقى الإشكالية من الداخل الفلسطيني، متعددة بين الولاء والسلطة والوحدة ، وقد حاولت بعض دول الخليج وكثير من الدول العربية التوفيق بين حركة فتح وحركة حماس، وسلمت ملفات المصالحة بعدها إلى مصر وقطر، حيث كانت المفاوضات الداخلية بين الفصائل الفلسطينية ضعفي المفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل، وما يزال الصراع على السلطة هو القضية الأولى لحركات المقاومة الفلسطينية، وبهذا التناقض المحلي الذي لم ينجح بالتفاوض، ولم يتمكن أحد الأطراف من توحيد الأطراف الأخرى تحت قيادته بالقوة، وفشل الوحدة لن يحقق أي مكاسب سياسية أو جغرافية مستقبلا.
وقد مكنت المفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل من توسيع الفجوة بين الفصائل الفلسطينية السياسية والعسكرية، ويعد التفكيك هو التكتيك الاستراتيجي لإسرائيل الذي يمنحها القوة الدفاعية والتفوق العسكري على الأرض، وتعد المفاوضات الدولية وسيلة من وسائل إضفاء الشرعية على العنف المسلح، وقطع المفاوضات يودي إلى فوضوية العنف التي قد يمارس من جميع أطراق الصراع مما يؤدي إلى إهدار حقوق الإنسان والذي يذهب ضحيها النساء والولدان.
إن فتح بيت المقدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، قد ساهم في إزالة الاستبداد الطائفي البيزنطي والتفكك الداخلي والتناقض بين مسيحي العرب، ومسيحي الدولة البيزنطية، حتى النبوات كانت تترافق مع السنن العقلية والواقعية، وليس الإيمان إلا سلام يسبق الفتح ويحقق الأمن ويحرر العبيد من طغيان الاستبداد والتناقض بين مسيحي العرب، ومسيحي الدولة البيزنطية، حتى النبوات كانت تترافق مع السنن العقلية والواقعية، وليس الإيمان إلا سلام يسبق الفتح ويحقق الأمن ويحرر العبيد من طغيان الاستبداد.
كما أن صلاح الدين لم يستطع أن يصل إلى ذلك إلا بالتفاف الشعوب خلفه وتوحيد البلاد العربية. وفي كتاب الخليج العربي بين إشكاليات التحولات الحضارية وصناعة العمق الاستراتيجية رؤية منهجية جمعت بين توجيهات التاريخ وتوجهات الواقع، واتجاهات المستقبل وطريق الأزمات حيث ستنتقل الأزمات من الأطراف إلى العمق في مصر والأردن، وسياسهم هشاشة الأطراف وضعفها من فرض تحديات أمنية كبيرة على المنظومة العسكرية.
أما تركيا فإن هذه الأزمات الموجودة كفيلة بتفكيكها من الداخل، وستتحول مساحات تركيا إلى صراعات فكرية وعرقية وصراع على السلطة، لأنها فقدت أحزمتها الدفاعية في آسيا الوسطى ، وتوسعت مساحات الصراع على أطرافها من جهة العراق وسوريا.
نحن اليوم ليس لدينا ثقافة الانتماء وإنما ثقافة الاستعلاء، وليس لدينا مساحات العفو والحلم وإنما ثقافة البطش والانتقام والتخوين والخيانة، نحن نتصيد السلبيات، ونعتقد أنه من السياسة أن نخدع بكلماتنا من يمنحنا ثقته وماله ويدعمنا، في أسوأ الصفات الأخلاقية التي ورثناها عن ثقافة “الحيل التي تتنافى مع قيم الطرق الحكمية والسياسية الشرعية والمبادئ الأخلاقية القبلية والقيمية”
ما يعاني منه العالمي العربي المعاصر هو فقدان القيم الإنسانية وضعفها على مستوى الفرد والقبيلة والدولة، وأن تخلفنا عن هذه القيم أضعف تاثيرنا سياسيا واقتصاديا وثقافيا، كما أن الولايات المتحدة التي أسست دولتها العظمى بالقيم المسيحية والإنسانية وجعلتها القوة التنويرية العالمية للدفاع عن الحقوق الإنسانية وأكثر مناطق الجذب للهجرة الإنسانية بدأت في تحولات أضعف مكانتها محليا ودوليا ، وهذا الضعف نتيجة لضعف المعايير الإنسانية مما قد يدفعها إلى استخدام العنف والقوة الصلبة وخصوصا على المستوى الدولي للتخلص من أزمانتها المحلية مما قد يعجل بانهيارها ولن تنهار حتى ينهار قبلها حلفاؤها أو تكون لهم سياسة مستقلة تنأى بهم عن هذا الانهيار لمشاهدة انهيار الولايات من الداخل الذي سياسهم مجددا بتدخلات قد تكون دول أمريكا الجنوبية أحد الدول التي تتدخل في شؤون الولايات المتحدة بالتحالف الدولي أو بسياسات مناهضة لسياسة أمريكيا التاريخية نحوها والأيام دول بين الدول والناس.