المجتمع العربي وصراع القيم
د. جمال الهاشمي
نظرا لردّ أحد القراء أن مجتمع مكة كان مجتمعا وثنيا ولا أخلاقياً، فالصورة التي قدّمها بهذا الخصوص تتناقض مع الحقيقة التاريخية التي شهدت لمكة بكثير من الفضائل وبشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
لم تكن الأخلاق كاملة، لكنها موجودة. والعربي يعشق الكمال وهذه طبيعة في مجتمعات العرب التي كانت تتنافس على الفضائل بحسب أفهامها، لم يكن العربي إلا كريما مضيافا ولكنه في جانب آخر كان يغزو القبائل الأخرى ويتحالف معها.
الصراع الذي ارتبط بالكرامة والتحدي هو الذي أباح الدماء، لأن العرب لم تكن لهم رياسة ولا سياسة، بل فضائل تمنح الرياسة، فمن كان شجاعا مقداما وحليما عالما، وكريما جوادا، كان سيدا مطاعا، بما يحوزه من فضائل ترفعه إلى الرياسة.
لم تكن الثروة دلالة على الوجاهة إلا بقدر ما تمنحها الفضائل كحمل الديات والإصلاح بين الناس، وإكرام الضيف وإطعام الفقراء.. وهناك نماذج فازت في المسابقة ولا يعني الأحادية، فهذا حاتم الطائي بلغ به الجود حتى أجاعه الفقر وأوخزه بإبره، فلم يطلب الناس إعانة وهو العوان، ولا كراما وهو الجواد حتى سمي “كريم العرب”، فأعطته العرب من غير طلب وقالت لا يذل كريم العرب، هنا في هذه الشهادة والإجماع بلغ الرتبة، فقد كان قوله فعل، وبه وبأمثاله ارتقى الشعر العربي إلى قمة الفضيلة وهو القائل:
خلقت أحب السيف والضيف والقرى ** وورد حياض الموت والموت أحمر
أضاحك ضيفي حين ينزل رحله ** وأبدي له البشرى ولا أتوعر
سأسعى إلى العلياء سعي ابن ماجد ** وأنجد في تطلابها وأغور
من لم يمت بالسيف مات بغيره ** وموت الفتى بالسيف أعلى وأفخر
حتى قال مفسرا ذلك السعي:
وليس افتخار المرء حسن ثيابه ** ولكن حسن الفعل يبقى ويذكر
ولا افخر في خال وأم ولا أب ** ولا نسب إن لم يكن ثم مفخر
العلاقة بين الشجاعة والجود علاقة توأمية لأن من يجود بالنفس فهو بغيرها أجود.
وإذا نظر الناظر إلى القيم العربية، يجد أن صناعة الفضائل تبدأ بفرد ثم يكون مفخرة المجتمع لأن صحة القيادة دلالة على صحة المجتمع.. وقد قال عمر بن الخطاب: لو لم يكن لليمانية من فخار إلا حاتم والصمصام لكفاهم بذلك فخرا.
إن اللباس والمنظر في ثقافة القيم العربية ليست مما يفتخر به لأن الزينة في الفعال أقدر على تزيين الفرد والمجتمع والقبيلة وحتى الدولة، ولم يكن الزواج من المرأة إلا على حالتين:
عشيقة: وهي التي فيها من الجمال والتغنج والترنم ما تشبع نزوات الحس المعنوي من حب وغرام وغزل وافتنان، فإن فاحت وانتشرت كما صار مع قيس بن الملوح صارت فيه ذما، وتحولت قيمة العشق المستتر إلى العار والقبح .. هذا هو الحب الممنوع لأنه يذهب بهاء الرجولة وشرف الأنوثة.
أوافق على هذه القيم العربية كثيرا، لأن الحب في عالمنا المعاصر أصبح مبتذلا متخيلا، و لأنه قد افتقد معانيه المعنوية وغرق في المعاني الحسية.. وأسقط قيم الرجولة بل والفحولة معا.
المرأة مهما تبذلت فإنها تحتاج لمن يغير عليها ويحبها، لكنها تتبذل حتى التفاهة، وتتحول إلى شواء منتن يلوث جمال الفكر بالنظر إلى الطبيعة إلى الصحراء والجبال، لأن العلاقة النفسية بين الإنسان والطبيعة والإنسان والكلمة أجمل من العلاقة بين الإنسان والصفة الأنثوية.
والفرق بين الصفة الأنثوية والزوجة والمرأة شاسع.. لهذا نستطيع القول إننا في عصر طغت فيه الأنوثة، والذكورة.. ويكاد تتلاشى فيه صورة المرأة والرجل ..
المرأة قيمة فضلى وإن كانت على غير دين صحيح لأنها أقرب في أكثر صفاتها إلى الفطرة السوية كامرأتي نوح ولوط ، وقد تكتمل فيها صورة المرأة كمريم وامرأة فرعون.
وعدم قدرة المرأة على التمييز بين صورتها الحسية كأنثى وصورتها المعنوية كزوجة، وصورتها المعنوية كامرأة جعلها مضطربة فكلما ارتفعت معايير الحس سقطت في التفاهة، وكلما زادت فيها معايير المرأة ارتقت في الفضيلة، لأن المرأة تجمع المعايير كلها وتضبطها وفق ضوابطها وحدودها.
ولهذا أقيمت معارك العرض في تاريخ العرب.. بينما حاول اليونانيون أن يصنعوا نفس الخصائص الموجودة في العرب فحاصروا المرأة كحصارنا لها في عالمنا العربي المعاصر.. وسقطت الرجولة.
فالسياحة الجنسية للرجل أفسدت الأنثى والرجل معا، ولهذا ترتفع نسبة الانتحار في العالم لأن القيمة المعنوية وفضيلة المرأة تماهت في مستنقع الحس الأنثوي أو الذكورية الحسية.
العربي اليوم يقاتل من أجل المادة ويمتهن الكرامة، ويغوص في أعماق الحس الجسدي، فهو بين رذيلتين وتفاهتين، أو قد يكون تحت سيطرة الأنثى؛ ممزق بين سيفين سيف مسلط عليه، وسيف متسلط به هذا الموضوع أكبر في رؤيتنا إن أردنا التعمق.
أما العربي في الجاهلية فهو الذي ينفق المال من أجل الذكر الحسن، لا تخمد نار ضيافته، ولا سحب فضائله، فهو الذي ينفق في الإصلاح بين الناس، وينفق نفسه في الحرب إذا رأى الكرامة تمتهن، وقد قاتل على سباق لأن مقاييس السباق كانت فيها فجوة ومغالطة.
لم يقاتل لآن الآخر سبقه بل لأن الجور في الحكم والحيلة في السباق جعله يقاتل .
لم يكن العربي إذا استوفت المعايير في الآخر ينتقصه أو يقلل من قدراته إن أخذها بعدل، بل يقاتل على ما وقع فيها من فساد وغدر، وهذا مكتنف في قصة داحس والغبراء.
ولم تكن ناقة البسوس مجرد ناقة يدفع عشر أمثالها، بل كانت تعني الكرامة لأن قتلها على بعض أعشاب في جوار المساوي له كانت تعني انتقاص للآخر، وفي نظري أن جساس هو صاحب الفضائل وخير الفريقين وأجودها، وفي ذلك من الاستدلالات ما يغير عواطف الناس الأسطورية الذين يحملون عواطف المؤرخ وليس موضوعية المحقق.
كانت التجارة دليلا على الشرف والسيادة، فهذه رحلتا الشتاء والصيف تترك للفقراء من أرباحها نصيبا، ولم تشهد الجاهلية المكية أن مات أحدٌ فيها جائعا، بل كان فرسي رهان سباق في البذل والعطاء في الشجاعة والإقدام الجود والكرم.
الحرب التي كانت تدار في الجاهلية تدفع غنائمها إلى الفقراء والمساكين من كل قبيلة فلم يكن فيها من يموت جوعا، ولم تكن قبيلة تجرؤ على قتل ناقة للآخر ناهيك عن قتل رجل منها.
هذه القيم الجاهلية لم تكن عامة بل كانت مفرقة بين القبائل المتنافسة، لم تكن الإنسانية ولا الدين يجمعها لأنها كانت تعبد أربابا متفرقة في جوف الكعبة وفي منازلها وفي مقدساتها.
كانت الثقافة الاندماجية الوثنية متساوية لم تحدث بينها أو عليها حروبا دينية بل جل حروبها على الكرامة الإنسانية على قيم الحرية والعدالة، وفريق آخر من المولدين يبحث عن المساواة والعدالة الاجتماعية، لم تكن قريش تقاتل العرب على أنسابها أو تحقرها، لأنها تعرف أن العرب أكفاء فيما بينهم وأن الفضائل بينهم تتفاوت.
كان الزواج مقدسا ومطهرا، وكان في المقابل يوجد من شواذ الأعراب والموالي من يسافحون بالإماء ويتاجرون بها، ولم تكن في العرب إلا من الرذائل الممقوتة.، والمقارنة كما هي في التفريق بين الأعراب، وفيهما تصرفات مشينة، والعربي الذي هو معيار القيم ونموذج الأيدلوجية الفردية وأحد مقاييسها المشهورة،
مع أن الأعرابي لم يتاجر بأمه ولا ابنته بل بالإماء المشتريات، وكان أكثر من يتاجر بهذه الطريقة الوافدون المستوطنون القادمون من خارج القيم العربية، ويتوطنون في الطرقات، وكانت محل تحقير الأعراب والعرب جميعا، هذه الشواذ صوره المؤرخون على أنه ظاهرة وهذه أزمة في النقل وأزمة في عدالة المؤرخ، ومن الظلم الذي لحق بالقيم العربية، وقد قالت هند بنت عتبة بالاستفهام الاستنكاري “أتزني الحرة”.
إن الفضيلة والعفة كانت أصلا في العرب ومحل إعجاب الفرس وغيرهم، ولم تكن في غيرهم كما هي فيهم من حفظ النسب لأنه عنوان العفة، وليس التميز، ولا يفاخر العربي إلا بطهرة من أبوين نقيين شريفين، وما سقط غيرهم إلا لأنهم لم يحافظوا على هذا النقاء.
وقد كان الفرد إذا وقع منه السوء عيرت به القبيلة كلها ونسب إليه قبحه ووقاحته، ومن هنا كانت القبلية تتبرأ من الأفراد المخالفين لقيمها، و لكل منتقص منها ولو كان من الموالي وهم كثر ومن دول شتى،
وقد رفض الموالي دمج المولدين خشية أن يحملوا ثقافة أمهاتهم فيقبحون فضائل القبيلة، وسيقطون من مكانها،
وكان في نظرهم أن حفظ هذه المعادن يقتضي رفض الآخر الذي قد يسقط قيم القبيلة ولا يدمجون ويعترف بهم إلا وفق معايير قيمية أخلاقية صارمة، وهو أن يأتي بصنيع عظيم يفاخر به العرب، وهذا ما فعله عنترة بن شداد وغيره من المولدين المشاهير، إذ كان هذا المقياس الصعب من دلائل طهر النسب الآخر المجهول.
وفي المقابل خرج الكثير من أحرار القبلية إلى الصعلكة عندما بدأت منظومة القبيلة تتجه إلى التملك، ورأوا أن الصعلكة وحريتها والقيادة الشوروية هي التي كانت في القبيلة، إذا أظهر المولدون -أغلبهم- أنهم رعاة القيم القبلية التي كانت تفاخر بها العرب قبل أن ينفتحوا على حضر الشام والعراق، وبدأت في نفوس بعضهم طموحات السياسة بالتملك والإرغام.
لم تكن العرب تلحق بأنسابها من ولد سفاحا، وهذا قمة الوعي في حفظ الأنساب النقية، وإن كان الطفل المولود ضحية، حتى يمتحن بالفضائل فإن رفعته ارتفع وإن كان مجهولا، ولكن العرب تعترف به لفضيلته وليس لنسبه.
لم يكن النسب في الوعي العربي إلا تعبيرا عن الفضيلة التي تتجلى في الزواج الشرعي والنقاء العرقي من المجون والسفاح الجماعي أو اللقاح بالآخر لتحسين النسل.
وهنا تأتي قيم النسب النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم” إن أبواي لم يجتمعا على سفاح قط” وهذا مطلق إلى آدم عليه السلام وهذا كله نسب قريش، والعرب على مقاييسها وإلا ما كان عبد المطلب من بني النجار اليمانية ولا عدنان من ولد جرهم اليمانية ولا ارتبط النبي صلى الله عليه بأنساب القبائل العربية كلها ..
القيم العربية كانت مقدسة في مطلق العموم من جميع جوانبها والجهل العقائدي لا يجعل فيها صفة التوحش مطلقة، لأن تعبير جعفر رضي الله عنه في خطبته للنجاشي لا يعبر عن تاريخ العرب قبل الإسلام بل بعد ظهور الدعوة الإسلامية وما تلقاه الصحابة في مكة من استضعاف وإساءة الجوار واستضعاف وهوان.
لنترك للقارئ البحث في أعماق الفضائل العربية العميقة، لكن عليه ألا ينسى حلف الفضول ولا حرب الفجار أيضا، فكلها كانت من الفضائل التي حفظت في العرب الأقحاح المروءة والكرامة، وطهارة اللسان. وليقارن واقعنا بما يظهر لنا من تفاهة معاصرة على وسائل التواصل الاجتماعي وقذارات تقاذفها الألسن المرضى.