العقل الأكاديمي بين إشكالية التحيز وشتات القيم الكلية
العقل الأكاديمي بين إشكالية التحيز وشتات القيم الكلية
د. جمال الهاشمي
تعد عاهة السمنة الأكاديمية من عاهات العالم المعاصر نظرا لارتباطها بمؤسسات رسمية واجتماعية تمارس نهجا لدرس المعرفة وليس لدراستها، وهذا من أهم مفاسد انتشار الكتابة دون محددات وضوابط وقواعد منهجية- عدلية، وهنا نطرح مفهوم الدور بعد أن نحوله إلى أداة ضبط وقياس منهجي استقرائي لدراسة بعض الفرضيات التي تربط بين الدور والغاية والواقع ومعها متغيرات جلية وخفية على سبيل المثال:
– دور الأكاديمي في تنمية المؤسسات الرشيدة فإن قيل أن له دورا مهما قلنا أن الواقع يشهد فساد المؤسسات وانفصالها عن معايير الحداثة الغربية وقيم الأصالة المعرفية وليس هذا فحسب بل يراها الكثير أنها أداة من أدوات تدمير بنية الدولة والمجتمع والتعليم والتنمية على جميع الأصعدة وأن خطورتها اليوم تفوق فوضوية عدميتها.
– دور الأكاديمي في تنمية القيم الإنسانية ونحن نرى طلابنا يذهبون الى الجامعات المعروفة بقيم الأصالة ويعودون مجردين منها، إذ أن السفاد داخل المؤسسات استشرى وتحول إلى ظاهرة متكيفة ليس في المؤسسات المدنية فحسب بل أصبح جزءا من ثقافة المؤسسات الدينية المقدسة وما نقد أئمة العلوم وسادتها في أزهى عصور تاريخنا القديم إلا دليلا على فساد الأكاديمي المؤسسي الذي يتقولب في مصانع المأسسة وفي أقماعها .
هذه بعضها والكثير منها شائع ومعلوم في كتابة الأكاديمي الذي يعجز عن تناول الموضوعات ويحولها في البحث عن عالم الأشخاص، وترك الأفكار ليس لأنها غير منهجية بل لأنها مرتبطة بمنهجية ضيقت مساحات الحكمة.
هذا الضيق في الفكر ينعكس بالسلب على النفسية، فكلما ضاق أفق الفكر زاد التعصب، وماج الجهل في فوضوية العامة، واستصعب على العيي المتعالم الحديث في عالم الموضوعات فيميل إلى البحث عن الذاوات وانتقاء النصوص ونقل الأقوال أو في الحديث عالم الأشخاص، كالحديث عن البخاري بدلا من الحديث عن منهجه بل يصل به الجهل إلى إنكار النصوص النبوية كراهية في مذهب أو جماعة، وقد يصل بالجاهل إلى البحث عن شرعية لا تصل أدلتها إلى درجة سند الموضوعات في علم الحديث .
فيميل إلى شخصنة كل شيء، تارة بالبحث عن الجدال العقيم، وتارة أخرى بالبحث عن أداة تسوقه بقوله قالوا، وتشير الدراسات، ولا يذكر دراسة واحدة أو مقول لإثبات مقولته، وتارة وقد ورد، في صور أسوأ صور التدليس المتعالم في عالمنا العربي المعاصر، بل إن مسيلمة في عصره كان يبني شرعيته على أدلة يدلسها، أما مسيلمة العصر فيزرع تدليس في موضع ويستشهد بموضع آخر، ولذلك لم نحتج في عصرنا الى مواجهة هذه الموجة بل تركها تمر حتى تتبخر في الهواء، ولا يعطيها زخما إلا جاهل بالمثل يسعى للدفاع عن القيم غيرة لا معرفة وحينها يتحول الى التطرف فيحقق المبتى ويساهم بجهله وغيرته في الدفاع عن قيم لا تموت عقلا ونصا وفهما، ولم يعد الأمر كذلك فقد أصبح الأعلام وسيلة من وسائل التسويق المعاصر وليس وسيلة من وسائل التوثيق المعرفي.
يفترض بالعقل الأكاديمي أن يكون مجالا للبحث الحر مرتفعا عن صراعات الولاءات الضيقة متجها نحو الحقيقة كتجل للكلية والمطلق.. غير أن الواقع يكشف لنا أن هذا العقل كثيرا ما يتورط في شبكات الانحياز فيتحول الباحث أو الأكاديمي من ناقد مستقل إلى حامل لراية أيديولوجية.
هنا تنشأ المفارقة كيف يمكن للعقل الذي صمم للكلية الأصولية أن يختزل في الجزئية المنفصلة عنها؟ وكيف للمعرفة التي تسعى إلى الانفتاح أن تنغلق في حدود التحيز؟ هذه المفارقة تفتح أفقا نقديا يمكن النظر إليه في من خلال فلسفة التوتر والانقسام اللتان تعدان شرطا لإنتاج التركيب الأعلى والوعي الأعمق.
إن العقل الأكاديمي، في صورته المثالية يتجه نحو الكلية، أي نحو ما يتجاوز الأهواء الفردية والولاءات المؤقتة؛ فالمعرفة لا تقاس بالبيانات أو تراكم معلومات أو المهارة في التحليل وإنما هي في جوهرها انفتاح على الروح الكلية أي العالمية الإنسانية التي تجعل من الحقيقة قيمة مشتركة بين العوالم وهذا سر انتشار ثقافة الإسلام والخوف منها معا.
وعلى أساس وظيفة العقل يصبح الباحث حاملا لرسالة عامة غير معزولة عن التاريخ والإنسانية بل ممتدة عبرهما لتؤسس إمكان ومكانا للحرية المقيدة بالمطلق لا بقيود المؤسسات والشخصيات والوطنيات والمعتقدات والتحيزات الضيقة.
إن الكلية في ذاتها لم تكن شعارا أخلاقيا بل شرطا أنطولوجيا للمعرفة نفسها، و فالفكر لا يكون فكرا إلا إذا ارتفع فوق التجزئة وإذا اتجه نحو استحضار الكل في مصدر الكينونة ومرادها في عالم الكون.
لكن المسار الأكاديمي لا يجري في صفاء مثالي، فالعقل الأكاديمي ينغمس في الواقع الاجتماعي والسياسي حيث الأحزاب والتيارات والسلطات، و هنا يبدأ الانشطار؛ فبدلا من أن يكون الفكر استحضارا للكل يغدو أداة لتبرير موقف محدد أو لمراكمة نفوذ استعلائي ضمن جماعة معينة، وقد قيل من تحيز بالمعرفة في عقيدة ضيقة أو في حزبية مؤدلجة أو في تعصب قطري أو جهوي لا يمثل من جهويته عالما إنسانيا إلا سقط من عقله قيراط في كل كلمة حتى يغدو لسانا طوالا من غير حاجب يحجبه أو عقال يربطه وهو ما تشهد به التفاهات العابرة للأثير .
هذا الانغلاق يخلق نوعا من الاغتراب، فالباحث الذي يمثل للحرية الفكرية يفقد ذاته عندما يتحول إلى تابع للأهواء الحزبية والقطرية والقومية، إنه يغترب عن مهمته الأساسية فينقسم بين ماهية يفترضها لنفسه والتي تعني البحث عن الحقيقة و واقع يسقط فيه وبهذا الطريقة فإن التحيز الحزبي لا يختزل القيم فقط وإنما يشتتها أيضا ويضعف قدرتها على الالتحام في وحدة كلية.
وبسحب المنطق الجدلي فإن التاريخ لا يقف عند حدود الانقسام، وأن التحيز الحزبي وشتات القيم ليسا نهاية العقل الأكاديمي، فلربما قد تكون مسار لارتقائه إذا أحدث تحولات في ذاته وسمح للمعارف من فتح مغاليق ذاته،. إذ من خلال مواجهة هذا الانقسام يكتشف العقل حدود ذاته ويدرك ضرورة الانفتاح من جديد لإدراك وظائفه الكلية التي تنظم جزئيات تفكيره في الواقع لأن العقل كلي الطابع من حيث البنية الأولى واستنباتاته على الواقع يشكل جزئيات متعددة إذا التحمت معا حققت إرادة الله في مخاطبة العقل.
وهنا تتحول الأحزاب والمعتقدات والجهويات والعرقيات من عائق إلى مرحلة جديدة ضمن حركة أوسع؛ إنها لحظات من الصراع تكشف نسبية كل انتماء وتدفع نحو صياغة قيم أكثر شمولا وقيما إنسانية، فالروح الأكاديمية الأصيلة لا تتجاهل التحيزات لكنها تستوعبها لتبني من تعددها تصورا أشمل للمعرفة والحرية.
وهنا يظهر ما يسميه هيغل المطلق العيني؛ أي الكلية التي لا تلغي الأجزاء بل تمنحها معناها داخل نسيج كلي يتكامل نحو الكمال.
إن العقل الأكاديمي يتأرجح بين المثال الكلي والانغماس في الحزبي و لا يظل أسير التناقض بل يتحرك عبره، فالتوتر بين الكلية والجزئية و بين الحقيقة والمصلحة هو ذاته الشرط الذي يفتح مجالا واسعا لتجديد الفكر الأكاديمي وإعادة بنائه على أسس منهجية راقية واعية تحترم المعرفة ويحترم حاملها بقدر الوزن الذي يحمل منها ويسجدها في سلوكه وأخلاقه.
ولا ينبغي النظر إلى التحيز الحزبي وشتات القيم كعدوين خارجيين للعقل بل كمرحلتين تكشفان ضرورة ارتقاء الفكر نحو كلية حقيقية، فالعقل الأكاديمي الحق ليس عقلا متعاليا معزولا ولا عقلا متحيزا منغلقا بل في نظري عقل جدلي يمر عبر الانقسامات ليؤسس وحدته ويستوعب الشتات ليعيد بناء القيم في صورة أشمل وأكثر إنسانية.
فإذا كان التحيز الحزبي قد أخرج العقل الأكاديمي عن أفق الكلية فإن النتيجة الطبيعية لذلك الانحراف تتمثل في ولادة عقلانيات منحرفة لا تسير وفق منطق البحث عن الحقيقة ولكنها تتكيف وفق نزعات مؤقتة أو مشوهة أو مفككة، إنها ليست عقلانيات بالمعنى الفلسفي للارتقاء بالوعي بقدر ما هي مظاهر لأزمات الفكر حين يغترب عن ذاته، ومن صورها المعاصرة الذي ابتليت بها أمتنا ونجا منها أسلافنا :
- العقلانية النزقية: وهي عقلانية مندفعة لا تعرف الصبر ولا البناء الجدلي و تميل إلى القفز فوق المقدمات واستعجال النتائج.
هذه النزقية انعكاس مباشر لتحكم اللحظة الحزبية والجهوية والعقدية في الوعي حيث تصبح القرارات الأكاديمية والسياسية مجرد ردود أفعال دون رؤية استراتيجية، إنها عقلانية تعيش في الآني ولا ترى في التاريخ إلا وسيلة لتبرير اندفاعها، وهكذا تتحول المعرفة إلى أداة للانفعال وتغدو الجامعة أو المؤسسة البحثية ساحة صراع أكثر منها فضاء لإنتاج الحكمة وبناء النفسية والشخصية الواعية المدركة والمسؤولة.
- العقلانية الانفصامية، تبرز هذه الظاهرة حين ينقسم الأكاديمي بين الانتماء إلى الكلية المفترضة والانغماس في تحيزات جزئية وهنا يتولد انفصام داخلي.
هذه العقلانية الانفصامية تجعل الخطاب الأكاديمي مزدوجا تتحدث في العلن بلغة القيم الكبرى وفي الممارسة تذوب في مصالح حزبيه أو جماعية ، إنها عقلانية مشطورة غير قادرة على التوفيق بين خطابها وممارستها فتصبح مثالا للاغتراب و الانقسام بين ماهية تدعيها وواقع تنكر عليه حقيقتها.
- العقلانية الريعية، وتظهر هذه العقلانية حين تتحول المعرفة إلى وسيلة للارتزاق فيصبح الولاء الحزبي بابا للترقي الأكاديمي أو السياسي و هنا يختزل البحث العلمي في منطق الريع والوظيفة وتأجير العقل، ريع يستثمر في السوق الحزبية والقطرية والقومية والعقائد المنغلقة التي لا تؤمن بالعالمية النبوية. الريع لا يفسد فقط استقلالية العقل وإنما يحوله إلى أداة طيعة في يد القوى المسيطرة وبذلك تستنزف الجامعات وتفكك الثقافة العامة عندما تتحول المشاريع البحثية إلى وسائط خدمة وليس إلى رؤى نقدية تحترم قدسية المعرف ومنطق العقل وموضوعية الأمانة.
- العقلانية العدمية، وهي التي تكرر الانقسام وتعمق الاغتراب حيث تظهر عقلانية عدمية لا تؤمن بأي قيمة كلية، حيث تبدأ بالتحيز في مسار الوعي ثم تحوله إلى قطيعة كاملة مع فكرة الحقيقة وهي مرحلة انصدام ذاتي بين تحيزها وذاتيها وهنا نجد تفرق الفرقة إلى فرق والمعتقدات إلى عقد والجهة الى جهويات والعرقية الى أعراق .
في هذا الأفق يصبح كل شيء نسبيا وكل قيمة أداة في صراع المصالح، هذه العدمية لا تدمر المعرفة وكفى وإنما تفتح الباب أمام انهيار الأمة ذاتها إذ تفقد القيم المشتركة معناها ويتحول الانتماء من جماعة سياسية أو فكرية إلى مجرد أداة لتبرير فردانية مبتورة.
إن أخطر ما تولد عن هذه العقلانيات المنحرفة هو الانقلاب في سلم المصالح، وقد غدت الأحزاب ذاتها تبرر وجودها بأنها تمثل الصالح العام وقنوات لتحقيق مصالح الأفراد.
ومع هذا التحول يتفكك الرابط الاجتماعي والسياسي وتذوب الأمة في مصالح شخصية مغلفة بالشعارات أي إنها الحالة التي يشهدها العالم العربي اليوم حيث تفككت عرى القيم الكلية، وتحول الحزبي إلى عقلية فردية مستبدة في سلم الوصول بعيدا عن الأصول، والعقل الأكاديمي إلى خادم ريعي لمنطق التجزئة والمصالح على حساب القيم الكلية والعالمية الإنسانية.
ن هذه الظواهر تبرز إذ انطفأت شعلة الوعي وحركته، وحينما ينكفئ الباحث العالم على ذاته وينغمس في تحيزاته، إنها لحظات اغتراب لا بد من المرور بها لكنها في السياق العربي اكتسبت طابعا مرضيا متكلسا فلم تتحول إلى محرك للتركيب الأعلى وإنما إلى معوق يرسخ الانقسام وهنا مكمن المأساة التي لم تستوعب التحيزات وظلت تدور في حلقة مفرغة لانتاج عقلانيات مغلقة تقود أمتنا بالفرقة إلى مزيد من الشتات.
إن العقل الأكاديمي في العالم العربي أسير للعقلانيات النزقية والانفصامية والريعية والعدمية مما يعكس أعمق أزمة بنيوية في عدم القدرة على تحويل الانقسام إلى وحدة تجاوز التحيز الضيق إلى الكلية، هذا الوضع يقودنا إلى واقع ملبد بالإخفاق المعرفي الذي يقودنا الى كارثة حضارية لأن انهيار القيم المشتركة يعني فقدان الأمة لمبدأ وجودها.
وأن سبيل الخروج من هذه الأزمة لا يكون بالعودة إلى المثال ولا في الاستسلام للواقع وإنما تنمية منهجية الوعي الجدلي الذي يرى في الانقسام شرطا لإعادة البناء غير أن هذا الوعي لن ينشأ ما لم يتحرر العقل الأكاديمي من استلابه الحزبي والعقدي والجهوي ويستعيد مسؤوليته التاريخية بوصفه حاملا للكليات التي جاء منها العقل والنص وراسما لأفق مشترك يرتقي بالواقع الى التمام باحثا بتكامله عن الكمال.