سقوط شرعية الحكومة اليمنية من منظور القانون الدولي

0 6

سقوط شرعية الحكومة اليمنية من منظور القانون الدولي

 

د. جمال الهاشمي

تثير الأزمة اليمنية أسئلة جوهرية حول مفهوم الشرعية القانونية في ظل انهيار الدولة المركزية وتعدد السلطات الأمر الواقع رغم استمرار الاعتراف الدولي بحكومة يمنية معينة، وهذا يتعارض مع نظرية القانون الدولي  التي تضع معايير صارمة للشرعية تتجاوز الاعتراف السياسي وتتمسك بالبنية القانونية الهرمية والفعالية الداخلية.

إن النظرية القانونية الدولية تقوم على جملة من القواعد الرئيسية :

القاعدة الأولى: أن الشرعية هي فكرة قانونية محضة تبنى على التدرج بين القواعد القانونية ضمن نظام قانوني موحد وليست أخلاقية أخلاقية أو سياسية وعلى أساس ذلك عبر هنري كسينجر عن أهم سمة من سمات الدبلوماسية المعاصرة القائمة على المصالح الدائمة للدولة وليست المبادئ الدائمة وفيها تفسيران الأول منها أن رعاية المصالح الدائمة للدولة يترجم المسؤولية القومية تجاه الدولة الأمريكية وهو مسؤولية شرعية تؤسس على مصلحة الدولة من خلال دبلوماسية إدارة المصالح بعيدا عن المبادئ الثابتة في العمل الدبلوماسي وهذا ما تفرضه القيم الدستورية والقانونية والدينية الأمريكية وهو أساس شرعية بقاء الحكام واستمرارهم انطلاقا من شرعية الداخل ومصالحه وليس من خلال الشرعية الدولية.

الثانية: القاعدة الأساسية  وهي الافتراض النظري الذي تستند إليه جميع القواعد الأخرى  ويفترض وجودها طالما النظام القانوني يعمل بفعالية.

الثالثة: الفعالية هي شرط جوهري لاستمرار صلاحية النظام القانوني و إذا ما فقدت القواعد قدرتها على التطبيق تفقد الشرعية تلقائيا.

الرابعة: أن انقطاع التسلسل القانوني يعني انهيار النظام القانوني نفسه وبالتالي سقوط أي شرعية مستمدة منه.

وعلى أساس ذلك نتحدث عن مخاضات تحول السلطة الشرعية في اليمن فبعد انتقال السلطة في 2012 ضمن مبادرة الخليج أنشئت حكومة انتقالية تستمد سلطتها من قرارات دستورية استثنائية لكنها فقدت منذ عام 2015  على إثر مغادرة الحكومة العاصمة صنعاء إذ أنها ومن ذلك الوقت انقطعت قدرتها على إصدار أو تنفيذ قواعد قانونية على الأرض مما أدى إلى تجميد التسلسل القانوني بين القاعدة الأساسية (الدستور) والسلطة التنفيذية.

والإشكالية التي أضرت بهذه القاعدة تكمن في انشغال سلطة عبد ربه بإدارة الحوار بدلا من إدارة الواقع وبنقد الآخر بدلا من تفعيل الذات، وبالسجالات الجدلية بدلا من تفعيل المنظومة القانونية سوى أنا ارتكزت على  الدستور كقيمة مجردة وهذه إشكالية في تثبت الشرعية مع أنها كانت شرعية بموجب الدستور، وهذا الخلل يكمن في عقلية إدارة المرحلة الانتقالية وسوء اختيارها، إذ أن الانتقال من مرحلة الصراع إلى مرحلة الحوار الدستوري يجب أن يأتي من خلال تنظيم شرعية القوة كضامن محلي دستوري صلب  تنطلق من الضمانات المحلية، لتعطي قيمة فعلية للضمانات الخليجية الضامن الرئيس والمسؤول عن مخرجات الحوار بموجب تفويض المكونات المحلية.

ورغم محاولة السلطة فرض وجودها مجدد من خارج العاصمة إلا أنها فشلت في تأسس عاصمة حرب أو عاصمة إدارية مما أدى إلى ظهور سلطات متعددة تمارس سلطة فعلية داخل اليمن حيث كانت سلطة الحوثيين بصنعاء تطبق نظاما قانونيا  خاصا بها والمجلس الانتقالي الجنوبي له تعاليم قانونية مغايرة للسلطة الشرعية، وقد سمحت الشرعية بتشكيلات أمنية وعسكرية محلية خارج إطار سلطاتها وقراراتها.

وهذا التعدد أدى إلى وجود أنظمة قانونية متوازية مع الشرعية بل هي أقوى منها ولم تعد الشرعية سوى مصدر من مصادر تمويل هذه المكونات المتمردة عن سلطتها بقرارات موازية، وهو ما يتعارض جوهريا مع مبدأ وحدة النظام القانوني وفقا للنظريات الدولية المؤسسة لفكرة الانتقال من المبادئ الأخلاقية الدولية إلى المبادئ القانونية الدولية لتجاوز الأطر الثقافية للمبادئ الأخلاقية من خلال تأسيس عصبة الأمم المتحدة ثم تطورت بعد ذلك ضمن منظمات ومؤسسات دولية قانونية.

ومما يفقد الحكومة اليمنية شرعيتها غياب الفعالية لأنها لا تملك أدوات فرض القانون ولا تسيطر على إقليم فعلي موحد ولا تملك جهازا قضائيا متكاملا أو أجهزة تنفيذية عاملة و هذا الفقدان للفعالية يفقدها الشرعية بموجب القانون الدولي.

ويميز كلسن  أبو القانون الدولي بين الاعتراف القانوني والاعتراف السياسي  فلو استمر الاعتراف الدولي بالحكومة اليمنية فإن ذلك لا ينتج شرعية قانونية إذا كان النظام القانوني الذي تنتمي إليه هذه الحكومة قد انهار فعليا واقصد بالنظام القانوني القاعدة الأساسية ممثلة بالدستور والفعالية التي تمثلها السلطة التنفيذية.

إن الاعتراف في هذه الحالة لا يعيد إنتاج النظام القانوني المفقود بل يتحول إلى غطاء سياسي غير منتج قانونيا.

وبما أن القاعدة الأساسية تفترض امتثال فعلي للنظام القانوني فإن الانقسام العميق في اليمن وغياب مرجعية قانونية موحدة وغياب طاعة فعلية للقواعد الصادرة عن الحكومة يعني ذلك أن هذه القاعدة الافتراضية قد فقدت وظيفتها وبالتالي، سقط البناء القانوني بأكمله.

وهنا نستخلص ما يلي:

  • أن الحكومة اليمنية فقدت الشرعية القانونية لأنها لم تعد تشكل جزءا فاعلا من نظام قانوني يعمل بفعالية.
  • أن استمرار الاعتراف الدولي لا يعيد إنتاج الشرعية لأنه صياغة سياسية مجرد عن الأطر القانونية.
  • أن تعدد السلطات وتفكك النظام القضائي والتنفيذي يخرج الحكومة من منظومة الفعل القانوني القوي والفاعل والذي يلامس مصالح الشعب ويحقق طموحاتهم.
  • أن غياب القاعدة الأساسية أسقط النظام القانوني اليمني الموحد وأسقط معه شرعية أي حكومة تدعي تمثيله حصريا.

وبهذه السياقات النظرية للقانون الدولي يمكننا  القول إن الشرعية القانونية للحكومة اليمنية أصبحت لاغية لأنها بدون تسلسل قانوني وبدون فعالية وبدون قاعدة أساسية فعالة وبدون هذا مجملا لا يمكن الحديث عن سلطة قانونية شرعية وهذا ليس  تأويلا سياسيا أو فكرة ادعائية لاستمرار شرعية توازن القوى التي كانت سببا في هذه الأزمة  بل نتيجة منطقية لنظرية قانونية لا تعترف بالرمزية حين تنهار البنية فالشرعية ليس ما يقال في سلطة المهجر  بل ما يطبق على الأرض اليمنية كاملة من خلال إرادة شعبية وقيادة شرعية  ومن لا يملك أدوات القانون لا يملك شرعية الدولة.

وفي المقابل نطرح تساؤلا قانونيا لملء فراغ الشرعية  بمعنى آخر كيف نؤسس سلطة شرعية جديدة في اليمن؟

هنا تأتي مرحلة أولية تنطلق من خلال مكونات المجتمع المدني وهي عملية إلغاء فكرة الشرعية بالقوة أو بالاعتراف الخارجي وخصوصا من دول الخليج التي تقود ملف اليمن بتفويض دولي باعتبار اليمن ضمن منظومة إقليمية وجغرافية واحدة.

ووفقا لهانس كلسن فإن  الشرعية ليست مسألة سياسية بل قانونية محضة، وأن  الحكومة لا تصبح شرعية بموجب الاعتراف الدولي بل لأنها تستند إلى نظام قانوني متماسك تقبل قواعده من قبل الشعب أو الإرادة المحلية.

ومن هنا تنشأ الشرعية الحقيقية انطلاقا أو تأسيسا على قاعدة قانونية تأسيسية يتفرع منها باقي النظام.

وفي الحالة اليمنية فإن القاعدة الأساسية القديمة ممثلة بالدستور اليمني لعام 1991  فقدت فعاليتها بسبب عدة عوامل أهمها:

  • تمزق الدولة بين مكونات موازية داخل الشرعية ومن خارجها واستمرار التمزق الى كيانات أصغر دون قاعدة مرجعية.
  • غياب احتكار السيادة بسبب غياب الحكومة الشرعية ممثلة بمجلس الرئاسة في المنفى وغياب فاعليتها على مستوى الدبلوماسية الدولية وخصوصا بعد متابعتنا لخطاب فخامة الرئيس العليمي في قمة بغداد وكذلك عدم قبوله دوليا وعدم فاعلية السفارات اليمنية وقبولها لدى المجتمع الدولي.
  • انهيار وحدة القانون وتعددها بين عدة مراكز ومكونات جهوية كالقانون في صنعاء وقانون الانتقالي وجهويات قانونية أخرى في مأرب وحضرموت والمهرة والساحل وأيضا قوانين واعراف قبلية لها سيادتها خارج إطار القانون الوطني الشامل.

وفي هذه الحالة نحتاج إلى قاعدة تأسيسية جديدة تقبل اجتماعيا وقانونيا لتكون  نقطة انطلاق لبناء سلطة شرعية وهذه القاعدة تكون عبر آليتين:

– إرادة ممثلي المجتمع اليمني في إطار وطني جامع  لتكون المصدر الأعلى للتشريع والسيادة.

– صياغة النظام القانوني من أعلى إلى أسفل

وبناء على القاعدة التأسيسية يتم:

  • وضع إطار دستوري مؤقت أو دائم تعتمده القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة.
  • ضمان تسلسل قانوني هرمي من القاعدة الدستورية إلى التشريعات ومنها  إلى الممارسة الإدارية ثم إلى تطبيق السياسات العامة.

وأي خرق لهذا التسلسل يبطل الشرعية القانونية وبهذه المنهجية نضمن أن الشرعية تستمد من القانون لا من القوة ولا من الاعتراف الدولي ولا يعني التخلي عن الاعتراف الدولي وإنما الهدف من هذا هو بناء التسلسل القانوني من الدستور المحلي الى القانون الدولي ليكون الاعتراف قانونيا وليس سياسيا .

وبحسب القاعدة الثانية فإن  التوافق الاجتماعي يعد مصدرا للشرعية القانونية

وهنا تكمن الفعالية كشرط أساسي للشرعية لأن القاعدة القانونية لا تكون شرعية فقط لأنها مكتوبة بل لأن الأفراد يمتثلون لها وهذا التمثيل يكون من خلال تشكيل إرادة شعبية فاعلة قادرة على دمج المكونات في إرادتها أو أزاحتها عن الساحة واستبدالها بقيادة شعبية موحدة تعبر عن رأي الأغلبية وهي الأغلبية الصامتة من خلال العمل على تشكيل حراك شعبي عام تمثله نخبة قادرة على نقل هذه الإرادة وتمثيلها أمام المجتمع الدولي.

وبالتالي فإن السلطة الشرعية الجديدة في اليمن لا يمكن أن تؤسس بالنخب فقط وإنما  يجب أن تنبع  من خلال:

  • عملية سياسية شاملة  من خلال مؤتمر وطني أو مصالحة وطنية أو تمثيل شامل.
  • أن يكرس في وثيقة دستورية مقبولة من الأطراف الرئيسية بما فيهم المكونات أو أغلبهم وتطبق فعليا على الأرض.
  • تمكين الاعتراف الدولي بالسلطة الجديدة من خلال الإجراءات القانونية السابقة.

فالأعتراف الدولي بطبيعته لا يمنح الشرعية بل يعكس وجودها إذا ما  نشأت سلطة تستند إلى قاعدة تأسيسية مقبولة وفعالة ومن خلال هذه الإجراءات القانونية فإن:

  • الاعتراف الدولي انعكاس لواقع السلطة الشرعية الجديدة التي تأسست من خلال القوانين والقواعد الدولية المعتبرة في نظريات القانون الدولي.
  • الشرعية تكون داخلية بالأصل وخارجية بالتبعية حيث تبدأ أو تتأسس هذه الشرعية من خلال القاعدة الأساسية والتطبيق اليمني الجديد، و إرادة وطنية توافقية جامعة تكرس مصدر السيادة وقبول القواعد القانونية من قبل الشعب أو معظمه في عملية استفتاء دستوري، والفعالية ممثلة بقدرة النظام على تنظيم السلوك واحتكار تطبيق القانون ثم أخير الاعتراف الدولي كتابع لواقع الشرعية الداخلية لا منشئ لها.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.