السياق الثقافي وإشكالية التفكيك المدني
إن المجتمعات العربية تعاني من أزمات التخلف في ثقافات منفصلة عن تاريخها وقيمها وثقافتها الأصولية مما أدى إلى انفصالها عن وظيفتها القيمية كحركة جماهيرية واعية تؤسس للتأريخ ولا تتصلب في التاريخية تؤسس لبنية نفعية ولا تعيد إنتاج منطق التسلط والنفعية.
السياق الثقافي وإشكالية التفكيك المدني.
د. جمال الهاشمي
نعاني كمجتمعات عربية وأقليات عربية مغتربة أو تعاني الاغتراب من أزمة العمل الطوعي الجمعوي، وأزمة المشاريع الجماعية، ونحن في هذا الواقع المتظلي نعاني من قراصنة الأفكار الذين يعوقون تقدمها ومن قراصنة الموارد الذين يعطلون إرادة المشاريع العامة.
إن المجتمعات انفصلت عن ثقافتها العربية والاسلامية بنفس العلل وإن اختلفت الجغرافيا وتباعدت أطرافها بأدواء معدية حتى حملنا الإسلام ما لم يحتمل ونبذناه بعللننا وانحطاطنا وجشعنا وانتهازيتنا وتخلفنا .
وهنا نجد اختلافا بين المجتمعات الغربية التي توازن بين منهجية العمل الجمعوي وبين الحرية الفردية توازن بين استقلالين لم يعلن أحدهما الانفصال المطلق أو القطيعة التامة، على عكس المجتمعات العربية ومنظماتها التي تتعامل مع العمل الجمعوي بثقافة ليبرالية متصلبة .
أنا لا أقول أن مجتمعنا العربي يتسم الفكر الجماعي وإنما يهمين على العمل الجماعي بما في ذلك القبيلة المعاصرة ثقافة المستبد بدلا من الشورى أو ثقافة الانغلاق الطبقي تحت مظلة القيم القبلية والتاريخية، وهنا نرى أن المجتمعات العربية قد تطرفت في الليبرالية والطبقية والعرقية تطرفا غير قيم المجتمع ونظامه وتاريخه .
واليمن الذي كان مجمعا لكل مكرمة وكان للقبيلة قيمها الخاصة أصابه داء الانفتاح والتماهي، وأخرج القبيلي أسوأ ما لديه من انحطاط التاريخ والمعاصرة، فلا يأخذ من الانفتاح إلا ما يسلبه المروءة ولا يأخذ من الأصالة إلا ما يستبد به غيره، فهو متطرف في حال التمكين إذ وضع للقيادة ومتطرف في حال الانقياد إلى درجة القن المهين.
هذه القنانة أزمة في المجتمع وهي أزمة في الفرد وإن تخلق بقيم السيادة والأصالة لأن العبودية اختيار ذاتي والحرية إرادة ربانية ، وهنا تعارض بين الإرادتين.
العبد لا يمكنه الاندماج في تفكير اجتماعي لأن منحه قليلا من الحرية يرفع لديه منسوب الذاتية فستتمر الذاتية فيه حتى يصل إلى مرحلة اللاعودة. أما الحر فهو الذي يمكنه العمل في إطار جماعي مبني على المراجعة والتقييم والتوازن، هنا نجد أن العبد دائما يردد مفاهيم الحرية بقوله لا استطيع العمل في الأنساق الجماعية ، كما أن العبد من نوع آخر يتماهي في الحزبية والعقيدة تحت مظلة التقليد والتقاليد ، والعبوديتان تتعارضان مع شروط التبعية المبنية في أصولية الفقه على منهجية الاستدلال كما تتعارض مع الضوابط وحدود المصلحة التي تنظم الفكر والواقع.
العبودية الأولى اسميه عبودية التعقرب والذي لا يتحرر فيه العبد إلا بالقضاء على التنظيم الجماعي. أما الثانية فهي عبودية التطويع وهاتان سمتان جينيتان في المجتمعات العربية بدون الإسلام ، لذلك لم تنشأ الفلسفة في البلاد العربية تاريخيا وإنما اتسمت هذه المجتمعات بصفة الاستقواء أو تضخيم القوة البدنية والهيكلية حيث نجد جنة عاد وأهرام الفراعنة وقوة سبأ ، وهي القوة الغاشمة التي انتجت الصراعات القائمة كتراث جاهلي حتى جاء الإسلام والأديان قبلة وأعادت تنظيم البنية المدنية والفكر والعقلانية .
لهذا لا يصلح أمر هذه المجتمعات إلا بالقيم ولا تستقيم إلا بهذه الخصوصية التي تفتح بها مغاليق العقل والتشيؤ وتنظم بها القوة السلبية، ولا اقصد أن هذه السمة فقط موجودة في العرب بل هي صفة شرقية تمتد حتى أقاصي الصين وصفة افريقية تمتد حتى ادغالها.
وإذا قارنا ذلك بالعالم الغربي مقارنة خاطفة سنجد العقل الغربي يؤمن بالعقل كأداة عملية في تشكيل المجتمعات والمدن، فإذا اجتمع لديه القيم تحول الى قيمة مدنية دنيوية تجيش الدين لبناء الحياة المدنية وتنظيم قوانينها بهدف السيطرة على التطرف العقلاني.
حيث أن لديهم خلل التمركز على العقل منفصلا عن القيم ولدى المجتمع الاستبدادي أو حاكمية الفرد خلل من نواع آخر، وهو خلل التمركز على القيم منفصلة عن العقل ، لهذا سمي العقل تنوير لأنه يبحث عن قيم يوظفها في حياته المدنية وهي خصوصية غربية، وسمي القرآن نورا لأنه يعيد تهيل العقل المعطل لإنتاج التنوير، والهدف من التنوير صلاح الدنيا والآخرة بالدين.
العقل الشرقي والعربي عموما يبحث عن الحلول الجاهزة في عدة سمات أبرزها:
– العقلية الوصفية “إن فيها قوما جبارين”
العقلية الاتكالية: “قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا”.
العقلية المتصلبة: “نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد”
العقلية العقيمة : فأمطر علينا حجارة من السماء”
العقلية التعطيلية: “هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء”
ولو أردت أن أوضح طبيعة العقل العربي من القرآن الكريم لأدركنا رقي الحيوان في وظيفته عليه، ولولا القيم النبوية التي تميزت بها مجتمعات الشرق لكان العقل العربي أحط عقول الأمم وأكثرها تخلفا.
ولو تخلت أوروبا عن قيم العقلية لكانت مثل مجتمعات الشرق في الصفة والمكانة.
اليوم العقل الغربي تخلى عن عقلانيته بالقدر الذي تخلى العالم العربي عن قيمه وبينهما أصبحت القيم الإنسانية موتى في شعارات أشبه بشعارات التسويق، لقد تساوينا في الانحدار ، ويبقى التساؤل أي منا أسبق في إعادة تجذير وتأسيس القيم الإنسانية بخصوصياته.
إن المجتمعات العربية تعاني من أزمات التخلف في ثقافات منفصلة عن تاريخها وقيمها وثقافتها الأصولية مما أدى إلى انفصالها عن وظيفتها القيمية كحركة جماهيرية واعية تؤسس للتأريخ ولا تتصلب في التاريخية تؤسس لبنية نفعية ولا تعيد إنتاج منطق التسلط والنفعية.
هنا يتوجب علينا معرفة الإعاقة الفردية كلبنة من لبنات التعويق المجتمعي، وهنا تكمن إشكالية التلازم بين الإعاقة والتعويق ولا يمن التحرر من المعوقات إلا باستئصال الإعاقة.
الإعاقة مرض مزمن في فكر وسلوك ونفسية الفرد لا دواء له ولا يمكن التخلص منه إلا باستئصال البدن من الوجود أو استئصال جزء منه ولذلك كانت الشرائع تؤكد على الحدود لتطهير المجتمعات من الإعاقات، أو القتل الرحيم الذي يعيد صحة المجتمعات بالترهيب في سياقات العدل وفي حالات استثنائية يكون الإحسان لمن أحسن والعفو لن أصلح مخرجا من العدل إلى العفو .
ونشير هنا إلى أنواع من الإعاقات المنسجمة :
– إعاقة الأناذية الفردية” ما أريكم إلا ما أرى” ، وهذا الإعاقة تولد مجتمعات الفسقة ومن سماتهم الخفة “فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين” والخفة هنا من سمات العقل في التفكير كحالنا اليوم وما نشاهده من أفكار الخفة ” واصدق ما قيل عنه بعد قول الله قول الشاعر:طار قوم بخفة الوزن حتى لحقوا خفة بقاب العقاب. وهذه الخفة العقلية على النقيض من عقلية الرسوخ ويؤدي ذلك الى الفسق من خلال قابلية المجتمع الذاتية أو قابلية جماعية موافقة لفسوقية الأناذية.
– إعاقة الإناذية السياسية: ” أمرنا مترفيها ففسقوا فيها” وهنا الفسق لا يأتي من خلال عقلية الخفة وإنما من خلال المتعة وهي آلية منظمة تتخذ أبعاد تنموية وشرعية مع قابلية الاستمراء المجتمعي والنتيجة واحدة تقود إلى نفس الغاية وهو الفسق لكن هذا من خلال أدوات تنظيمية .
– إعاقة الاناذية القهرية ” أنا أحي وأميت” حيث يتقدس المجتمع بالقهر وهو مجتمع المقهورين كإرادة إلهية مطلقة لا تنشد التحرير وتتخذ من بالمعاناة طقوسا مقدسة كالعقيدة الجهمية التي قبل بها بنو إسرائيل في مصر أو مجتمع بابل مع النمرود ومن أمثلتها المعتقدات البرهمية حيث يتخلى المجتمع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والبراهمة في هذا السياق هي عقيدة أخذت تسمية إبراهيم كإطار شرعي لشرعنة وتمرير ثقافة المجتمع البابلي الذي أبى التحرر بالدعوة الإبراهيمية وناهضها وطالب بإحراق إبراهيم كمتمرد على ثقافة القهر الاجتماعي وأحد مهددات المعاناة المقدس.
– إعاقة الأناذية التقليدية: ” قَالُوا۟ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا” وهي عقلية التصلب التاريخي والعقيدة التاريخية وهي أناذية جمعية ابطلت العقل الجمعي ، وهي أكثر العقليات المجتمعية وجودا في التاريخ وانتشار في الواقع.
هذه السمات في المجتمعات هي التي انتجت افرادا بسمتها ولا مجال لتحريرها إلا بالتحرر من أسبابها ، باستئصال أناذيتها كمدخل من مداخل بناء المجتمعات المدنية الأخلاقية.
وما نشهده في العديد من البيئات الثقافية هو انحراف بنوي في أسس أو بنية التأسيس للعمل المدني من خلال شيوع ثقافة كسيلة كسيرة تتمركز حول الذات؛ ذاتية المصلحة، وذاتية الوجاهة، وذاتية النسب المنفصل عن قيم وجوده، وجميعها تتلبس الدين و الحداثة والتنمية والمصالحة والسلم والنبوة وشعاراتها .
بمعنى آخر تجذر هذه السمات شكل من أشكال المقاولة المدنية لذلك نرى أنه ما أن يطلق مشروعا موحدا ينطلق من أسس فكرية ومدنية ومنهجية وأخلاقية حتى تبرز هذه السمات الأناذية في إطلاق مبادرات و كيانات أخرى تتخذ من سلوك مجتمعات البرهمية غاية من إبراهيم النبي مدخل لشرعيتها .. فتطلق مشاريع منافسة أشبه بمنطق المكونات والأحزاب المتنافسة ومن ثم تتحول القيمة الكلية إلى مصالح تفتيتية؛ جميعها تستبطن النموذج النيوليبرالي في التنظيم والتدبير والشرعية.
بمعنى آخر لم يعد هناك مشروع مجتمعي وإنما تتميز مجتمعاتنا بمجموعة مشاريع شخصية ذات طابع ريادي تبحث عن اعتراف دولي أكثر من سعيها لتحقيق التغيير الداخلي الجذري.
هذا الانزياح لا يمكن قراءته إلا كدور مرضي مزمن ومتعمق في صلب السمات الأناذية النفسية حيث تختزل المصلحة العامة في شخصية أو تنظيم أو عقيدة أو حزب يتم تسويقها بلغة الأداء و القياس والأثر.
إن الانتهازية تتشكل في آلية طموح فردي عبثي أو تنظيم نفعي انتهازي أومشروع نفعي استغلالي أشبه بثقافة الجمعيات التي يذهب كل خيرها أو معظمها للعاملين عليها تحت شعارات مجتمعية ودينية وأخلاقية وتنموية وهو انحراف نفسي فردي عن طبيعة الفاعلية السياسية ذاتها حيث تغيب الرؤية التاريخية الجامعة وتحل محلها ثقافة الإنجاز السريع والتأثير اللحظي.
وهكذا يعاد تشكيل المجال المدني كحقل تنافسي لا تحرري وتغدو منظماته أقرب إلى شركات خدمات اجتماعية تستمد شرعيتها من التمويل والترزق والتربص كتربص الأعراب بدلا من الارتكاز على التفويض الشعبي إن وجد مجتمعا خاليا من تلك السمات مما يترتب عليه تنظيم المجتمع برؤية قيادية صادقة تؤمن بإرادة المجتمع وتسعى من خلال التفكير الجماعي لتحقيق طموحاته أو لرفع معاناته.
إن ثقافة المجتمع العربي اليوم أشبه بثقافة الأعراب تارة بلغة قد انعم الله علي إذ لم أكن معهم وتارة يا ليتني كنت معهم .. أما التنظيمات الحزبية الضيقة فهي معتقدات مغلقة لا تسعى للتغيير بقدر سعيها للتظليل ..
وفي هذا التثاقف الحيواني تتحول القيادة إلى غاية لا وسيلة وتغدو الريادة والتصدر ها أنا ذا ” أو أنا ذا”” سميها ما شئت هناذية أو أناذية وكلما زاد المعنى زاد المبنى ومن أمثال هذه الصفات وصوروني وتابعوني في صور تعكس مدى شيوع هذه العلل وأدوائها.
بهذه النفسيات المتربة، المترددة ثقافيا تتكاثر القيادات المصغرة وتتشظى المبادرات حول أسماء وشخصيات لا حول أفكار وبهذه النزعات تفقد البنية المدنية قدرتها على الصمود أمام تغوّل السلطتين السياسية والاقتصادية لأنها أصبحت عمليا مرآة لهما لا نقيضا لهما ومثلما ما تكونوا في القاعدة يكون عليكم في السلطة .
لقد فشل العمل المدني لا لأنه يفتقر إلى الموارد بل لأنه يفتقر إلى النظرية والمنهج والرؤية والإخلاص والفكر الجماعي ولأنه غابت المرجعية الفكرية التي تندم الفكر في الواقع وحل محلها التنظيرات المجردة التي تشكل الهياكل وتقيم الاحتفاليات والمهرجانات والتكتيكات دون أي أثر في الواقع فالمصلي يشهد المسجد أربعين عاما ولا يجيد الصلاة بشروطها وضوابطها وأثرها وتاثيرها..ومثل الصلاة المعاصرة يكون العمل المدني واختزلت الممارسة السياسية في تقارير ومؤتمرات وعلاقات عامة بينما أهملت كل قضايا الهامش والمركز والطبقات والصراع والعدالة والمساءلة لصالح خطاب إنساني عقيم غير واضح المعالم ومجرد من أي مضمون سياسي فعلي.
هذا الفشل ليس فرديا في مجتمعاتنا بل فشل في التربية والمعرفة والتكوين والعمل الجماعي والسياق الثقافي وال بنيوي. هذا الفشل يستدعي من كل ذي لب إعادة بناء المشروع المدني على أسس ثلاث:
- فكرية: تستعيد دور الفاعل المدني كمثقف عضوي لا كموظف تنفيذي.
- سياسية: تعيد ربط العمل المدني بالصراع الاجتماعي لا بالمنافسة الريادية.
- استراتيجية: تنقل المبادرة من منطق الاستجابة إلى منطق المبادرة ومن التمويل إلى التعبئة الذاتية.
إن الرهان اليوم لم يعد على كم الجمعيات ولا على عدد المبادرات بل على القدرة على إنتاج حركة اجتماعية تشتبك مع البنية السلطوية القائمة وتطرح بديلا معرفيا وتنظيميا عنها. أما دون ذلك فنحن إزاء إعادة إنتاج محكم للفشل .