المواطن اليمني بين إشكاليتي التاريخ والجغرافيا
المواطن اليمني بين إشكاليتي التاريخ والجغرافيا
د. جمال الهاشمي
لا يمكن لأي باحث أو خبير أو أكاديمي فهم اليمن في أبعادها السياسية والتاريخية دون الانطلاق من خصوصيتها الحضارية، الحضارة التي همشها الكاتب العربي المعاصر وتجاوز التاريخ الإخباري القديم باعتباره أقرب من حيث القراءة المنهجية لفهم تاريخ اليمن وآثار ذلك التاريخ على واقعه المعاصر.
إن اليمن المعاصر اليوم لا يعاني من اختراق خارجي لمنظومته فحسب، وإنما يعاني أيضا من انحباسين؛ انحباس قيادي، أي افتقاره لقائد حضاري يتمثل عمقه وتاريخه وطموح شعبه الحضاري بخطوات منهجية عميقة وواضحة وتقدمية، هذه الرؤية كامنة في الشعب، شعب عظيم بفطرته وقيمه وأخلاقه وصبره وهذه الرباعية من أهم أسباب استغلاله من قبل تعدد النفوذ الضيق الأفق في مفاهيمه ورؤيته ومشاريعه و الذي بدوره أضعف طموحه الحضاري وثقافته المدنية.
إن غياب القائد الحضاري في اليمن من اهم أسباب تأزمه الأمني وصراعاته الأهلية منذ أن سقط اليمن في صراع الدويلات بعد خروجه عن قيادة الدولة العباسية التي أهملته بانشغالها بالمشرق عن هذا العمق، وهنا يكمن إشكالية غياب اليمن بعد الإسلام كمركز حضاري وإن ظهرت كقوة ونفوذ وعمق في كل تاريخ الإسلام، فقد كانت اليمن في بداية تأسيس تاريخ الإسلام أسها الأول ومرجعها الأكمل في أعظم مدينة مثالية عرفها التاريخ الإنساني وقصر عن تصويرها فلاسفة الدولة المثالية.
ظلت اليمن وستظل عمقا تليدا للتاريخ الإنساني والعربي والإسلامي، وأن تعثراتها اليوم لهو دليل على مرحلة جديدة من مراحل الانبعاث الحضاري الذي لا يتشكل إلا بصراعات نفوذ تتهالك فيما بينها أو مصالحة تعيد تشكيلها.
أما الانحباس الثاني فهو انحباس حضاري سببه التقاء الجغرافية الملتهب بأزمات التاريخ المتجددة، التهاب مزق الجغرافيا بتاريخ حمل أفكارا متباينة أضعفت وعيه الحضاري التاريخي والإنساني واستلبت وجوده بها.
وهذا التقاء لا يتم على مستوى الطبيعة وحدها بل على مستوى التحكم في السلوك السياسي العربي ذاته، التاريخ العربي الذي يتجدد باليمن بينما يؤثر بأزماته وصراعاته على اليمن، فاليمن هي بوابة الأمن الأول لمنظومة الأمن العربي والإسلامي خصوصا، ومن يتتبع آثاره يجد ثقافته قد أعادت تشكيل ملامح باكستان والهند وشمال أفريقيا والقرن الافريقي ومصر وحتى الأندلس.
وإذا اردنا المقارنة بين ثقافة اليمن كعمق عربي نجد فرنسا العمق الثقافي لأوروبا، ولذلك من الصعوبة أن أن نجد اليمني يتماهى بسهولة في ثقافة الآخر لأنه يجدد ممانعة ذاتية تمتد بأنساق قيمية وظيفية بتاريخه وإن غيب لكنه في الذاكرة الجمعية سلوكا ومحددا وضابطا.
إن الجغرافيا اليمنية بوعورتها وبتعددها القبلي و بتموضعها الاستراتيجي في عنق الجزيرة تشكل مفتاحا ومأزقا في آن واحد؛ فهي مفتاح لكل مشروع وحدوي عربي ولكنها مأزق إذا أهملت بصراعات بينية تعيق وجودها في حاضرها وتتعوق حضارتها، أقصد هنا الأفكار الحضارية التي تحتاج الى تجديد من داخلها وعبر ردود فعل يعمل على تحفيزها .
أما التاريخ فقد تحول في اليمن من أداة لتنمية الوعي إلى ترسانة من الاستدعاءات الانتقائية؛ هذا يختزله في الإمامة كمجال لشرعية أمة وجدت قبول وجودها، وذاك يعيد الملكية كرمز هوياتي لابتعاث الإمامة ووآخر يحن إلى الجمهورية لمواجهة مشروع الإمامة دون أن يعيد بنية الدولة، وهذا يريد الوحدة وذك يريد الانفصال وكل هذه الأزمات ولدت بقراصنة الأفكار المجردة؛ فالشورى وجدت في اليمن قبل تأسيس دولة الإسلام فكانت اليمن قبل الإسلام مرجعا لأفضل نظام سياسي عرفه الإنسان، وهذا لعمري في جوهره انقطاع معرفي بالزمن الفاعل وارتهان للنمط الانتقائي والانتقامي في فهم الماضي.
ما نريده اليوم هو استحضار الحيوية الوظيفة وليس الوظيفة الحية، الحيز الطبيعي لليمن وللشعب وليس الحيز الذي ضيقته الأفكار؛ فالجغرافيا ليس بالنسبة لي وللشعب الجبال والسهول والمضائق بل تعني القدرة على توليد فاعلية استراتيجية داخل ذلك الحيز الجغرافي وصناعة الوجود من الحضارية وليست تغييب الحضارة بالعدم.
هذه المشاريع الضيقة فرغت الجغرافيا اليمنية من فاعليتها؛ فمن باب المندب إلى صعدة ومن حضرموت إلى صنعاء تتوزع خريطة اليمن تحت سلطات متوازية ترتبط أغلبها بارادات غير وطنية وهي ابعد زمنا عن إرادة الحضارة الإنسانية حضارة اليمن السعيد الذي سعد بها اليونان والرومان وكان من أهم مراكز الصراع الديني والحضاري بين أقوى الحضارات بعد انحسار الحضارة اليمنية أو ضعفها.
لقد تحولت الجغرافيا اليمنية إلى ساحة تصادم إقليمي ودولي وأسقط فيها المواطن اليمني بارادته الحضارية من معادلة القرار وصار الحضور الخارجي أقوى من الانتماء الداخلي وهذا أخطر ما يمكن أن تصاب به دولة و أن تتحول أرضها وحضارتها وتاريخها إلى طاولة قمار وأهلها إلى أوراق مساومة ونخب تزعم أن اليمن إمامة وأخرى تزعم أنها جمهورية وأخرى تراها وعلا وثالثة تعبدها شمسا. وهنا يجب أن نعيد تصحيح المفاهيم في نسقها الحضاري لا في انساقها التوظيفية المثقرطة بالقومية والمقدس والجهوية. إن التاريخ في اليمن ليس صامتا لأن النخب السياسية حولت التاريخ إلى خطاب تبريري أو تعطيلي لا رؤية استشرافية ولا يرون من التنمية إلا الدوران حول السلطة كأداة من أدوات التسول واستجلاب الدعم والتوسل بالعشب وبأزماته الإنسانية بينما تعد جغرافية اليمن وثرواتها من الكنوز التي لا تتبدل بتبدل التاريخ ولا تنتهي، لقد شهد العالم مجاعات ولم تشهده اليمن إلا من خلال فساد السياسة والسلطة، وليس من شحة أرضها أو نزوها.
إن التاريخ اليمني زاخر بالتحولات السياسية وكلها تقدمية وإمامة وتنمية والشمس بين النجوم حتى كانت الشمس رمزها قبل أن يولد الوعل مع أعراب اليمن لتتحول اليمن من الاستقرار والتنمية الى الصراع الوعلي المأزوم وما تزال ثقافة الوعل تجسد هذه الثقافة الصراعية التي حولت اليمن من الحضارة إلى البادية.
إن المفاهيم اليوم ك سبأ، حمير، الإسلام، الأموية والعباسية والدولة الزيدية، الحكم العثماني، الاستقلال، الثورة، الوحدة، الحرب، تقرأ كسياق وظيفي واحد خارج إطار الوعي التاريخي لمفهوم بناء الدولة والحضارة كل ذلك يختزل اليوم في رؤى أيديولوجية مغلقة وهو ما أدى التحريف الوظيفي لمفهوم الذاكرة التاريخية
فالسلطة لا تستحضر التاريخ لبناء مشروع يعيد الحضارة وإنما لتبرير سيطرتها ونفوذها، والمعارضة لا تستلهم التاريخ لبعث المستقبل بل لاستنهاض صراعات قديمة، وهكذا تتحول الذاكرة من أداة استنهاض إلى وقود للانقسام، وفي كل مرة يعاد رسم حدود هذه الدولة ويتغير فيها الولاء مع كل حكم تتبدل فيها القيم الدينية والعرفية والأخلاقية سريعا، ويتبدل فيها الخطاب من قومي إلى طائفي إلى جهوي وكل ذلك يطرح لنا تساؤل مظن ما مصير المواطن ؟ المواطن الذي أرى في سحنته ملامح الحضارة على خارطة جغرافيتنا الضائعة؟ ما مصير ذلك المواطن الذي يحمل في جيناته قيما حضارية راسخة كرسوخ جبال اليمن وشموخها.
إن أخطر ما تواجهه الحالة اليمنية اليوم هو تآكل الدولة الاجتماعية؛ فالمواطن فقد الإحساس بالحماية وبالعدالة و بالمشاركة وهذا الفراغ أوجد شخصية سياسية ممزقة لا هي تثق بالداخل ولا تملك مفاتيح الفعل فيه، وحينما تنفصل السلطة عن الجماهير تنفصل الأمة عن التاريخ وتتحول إلى موضوع لا فاعل وهذا ما يحدث في اليمن؛ فالمواطن اليمني لم يعد صانعا للقرار بل موضوعا للقرار، ويوقع عنه بالنيابة من لم يخوله بالتفويض.
إن المخرج لا يكون في مزيد من التدويل ولا في المزيد من الخطابات الحزبية، وإنما يكمن المخرج في إعادة بناء الإنسان اليمني من داخل بيئته وبأدواته وبخصوصيته وبلغته وبفلسفة سياسية نابعة من روحه الحضارية، وإننا في اليمن نعمل على :
- استعادة الجغرافيا كحيز للفعل السيادي لا كساحة نزاع بالوكالة أو صراعات بالتوجيه والإملاء.
- تحرير التاريخ من التوظيف السياسي ورده إلى مجراه الطبيعي كمصدر للشرعية الجامعة لا القطيعة الطائفية.
- إعادة تعريف المواطنة بأن يكون المواطن في مركز السياسة لا في هامشها.
وفي في النهاية لا يمكن أن نحاكم اليمن بالجغرافيا وحدها ولا بالتاريخ وحده بل بقدرته على استعادة وجوده لحضاري في إنسانيته وشوريته ودولته وأمته وعالميته؛ فالمعركة ليست بين قوى سياسية بل بين من يرى الأمة رسالة ومن يراها صفقة، بين من يرى الملة محددا ومن يراها وسيلة.
فهل بإمكاننا أن نعيد لليمن وجوده وللإنسان اليمني معناه أم نتركه كما خطط له جغرافيا ممزقة وتاريخ ممزق ومجتمعات مشتتة؟