الأوليغارشية في اليمن بين تحولات النهب وإعادة إنتاج الهيمنة

0 21

الأوليغارشية في اليمن بين تحولات النهب وإعادة إنتاج الهيمنة

د. جمال الهاشمي

إن من سمات الأوليغارشية تسييس العنف وإعادة إنتاج الهويات المجزأة لاستدامة وضعها، حيث تستخدم الانقسامات الاجتماعية والقبلية والطائفية  في اليمن كسلاح استراتيجي لتبرير السيطرة والهيمنة، ولا يقتصر الأمر على استغلال هذه الهويات بل على تشييدها وتكريسها لتكون أداة لإضفاء الشرعية على الممارسات السلطوية والقمعية والاستغلالية، وهذا تحت مظلة الدولة الغائبة.

إن هذه الظاهرة ليست نتيجة أزمة حكم سياسي وفشل إداري وضعف معرفي فحسب وإنما هي أيضا انعكاس لضعف البنية المؤسساتية للدولة حيث يغيب حكم الشريعة و القانون وتنتشر شبكات الفساد التي تعطل أي إمكانية للتغيير البنيوي أو بناء الدولة المدنية العادلة.

وهنا نرى أنه و في ظل غياب مؤسسات الدولة القوية تصبح الأوليغارشية لاعبا أساسيا في إعادة إنتاج أنماط الهيمنة عبر أدوارها المتعددة التي تتراوح بين السيطرة الاقتصادية والعسكرية والسياسية.

وأن استمرار هذه الأوليغارشية اليمنية هو تعبير عن أزمات متراكبة في العلاقة بين الدولة والمجتمع حيث تحاصر مصالح المجتمع والشعب اليمني بين مصالح النخبة المتصارعة ومصالح القوى الخارجية.

وفي ضوء هذا التحليل يتطلب لمعالجة الأزمة مشروعا عميقا لتفكيك هذه الشبكات الأليغارشية ليس من خلال التفاوض مع النخب القائمة بل عبر بناء تحالفات اجتماعية جديدة شعبية توزيع السلطة والثروة وتؤسس لبنية دولة مؤسساتية تحترم التنوع الاجتماعي وتعلي من شأن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وتنتخب بإرادتها الواعية قيادة واعية تدرك مخاطر التحولات الدولية والمتغيرات المحلية على الدولة المنشودة حيث تكمن إشكالية الأزمة اليمنية في الصراع الطائفي والسياسي والتدخل الخارجي، وأكثرها وإنما يكمن في بنية سلطوية متجذرة تعيد إنتاج ذاتها عبر نخب متوارثة تتنازع السلطة دون أن تقوض بنيتها الطبقية، وهذه البنية هي ما يمكن تسميته بـ”الدولة الأوليغارشية اليمنية” وهي تطور تاريخي مشحون بالتناقضات من الدولة الإمامية إلى الجمهورية العسكرية إلى الأوليغارشية المسلحة ما بعد 2011.

وعبر هذه التحولات لم تتحرر اليمن من هذه النمطية القائمة وتكن تجسيدا للروح الأخلاقية  لأنه قد تكلس وعي الدولة في صور هيمنة مغلقة استبطنها المجتمع بوصفها قدرا لا خيارا، واستسلاما وتبعية لا مواطنة ومشاركة، وهو ما أثر سلبا في بنية الوعي المجتمعي ونفسياته  المتأرجحة بين القوى النافذة، وهنا نجد الفئة الصامتة أو التي تطالب بالتحرير  تعمل ضمن مشاريع أوليغارشية مدفوعة، وهو ما يجعلها توجه خطابا نقديا غير متوازن تارة بالهجوم وتارة بالدفاع المأجور دون مبادئ ثابتة تنطلق من مسؤولية القيادة والتغيير، كما نجد أن المثقف يعمل ضمن دوائر مغلقة من النفوذ الأولغاركي ويعبر في كتاباته عن توجهاته الأولغاركية المغلقة وإن كان في الحقيقة لا يعتد به ضمن هذا المكون وإنما أحد مزاميره  إن لم نقل طبلا يعكس صدى صوتها وهيمنتها بما يلقى إليه من فتات يتساقط من على موائدها.

وهنا نجد أكثر النخب اليمنية تميل مع مصالحها الشخصية والنفعية ويحاول البعض أن يقدم مشاريع المقاسمة بين النفوذ لا المشاريع التحررية والوطنية وهو ما ينذر باستمرار الأزمة وامتدادها لعقود قادمة،  ما لم يبدأ الشعب بالتحرر من أزمة الوعي وغيابه وأزمة الانقسام والعسكرة،  وأزمات الجهويات والطائفية وتعصباتها للعمل معا في بناء الدولة المدنية.

إن المؤسسة الحاكمة  سواء كانت إمامية أو عسكرية أو حزبية لم تتحول يوما إلى تعبير عن الإرادة الجمعية بل ظلت تعبيرا عن نزعة أبوية ذات بعد إقطاعي – طائفي – قبلي، تعيد تدوير نخبها وتغلق الباب أمام التاريخ والتغيير والتقدم.

لقد وصف هيغل الدولة بالكل الأخلاقي والدولة اليمنية من منظوره تعبر عن الكل اللاأخلاقي كونها جسدت الانفصال التام بين الحكم والشعب و بين الثروة والفقر و بين القانون والإرادة، وهو ما يمهد لثورة أكثر جذرية لأن بقاء الجذور يعني بقاء الأولغاركية في صور جديدة تعتمد على المساعدات الخارجية والموارد الطبيعية الريعية.

إن الدولة اليمنية لم تكن كيانا محايدا في بنيتها المؤسسية والفكرية وإنما كانت أداة طبقية لحماية مصالح الطبقة المهيمنة وتقاسم السلطة والنفوذ بين القوى الدينية والسياسية والقبلية والعسكرية، كما أنها لم تشكل طبقة رأسمالية صناعية ذات طابع إنتاجي وإنما استمرت بعقليتها الأوليغارشية الريعية؛ طفيلية، طائفية، وشبه إقطاعية.

هذه الأوليغارشية لم تنتج الثروة وإنما احتكرتها عبر العنف والتوريث والفساد وبنت حولها تحالفا من العسكر وزعماء القبائل ومشايخ الدين وشبكات تجارية مرتبطة بالخارج وبمثقفي الاستحمار الباحثين عن الاستعمار.

ونرى أنه كلما تعمق التناقض بين هذه النخب المتأرجحة وبين المجتمعات الصامتة والمهمشة والمستعبدة  لجأت إلى المزيد من القمع والانقسام وخلقت حروبا داخلية لإعادة تشكيل المجال السياسي والاقتصادي بما يخدم مصالحها؛ فالصراع بين الشمال والجنوب، بين الحوثي والإصلاح، بين الشرعية والانتقالي، ليس فقط صراعا سياسيا، بل هو تعبير عن صراع أوليغارشيات فرعية على الموارد والهيمنة داخل الدولة المفككة.

إن الثروات السيادية – النفط، الغاز، الموانئ، المعابر – لم تكن يوما ملكا للشعب بل تحولت إلى موارد تقتتل عليها العصابات السياسية التي تدعي تمثيله، وهنا، يعاد إنتاج العلاقة الاستعمارية  ليس بين الدولة والمستعمر فقط بل بين الدولة ومجتمعها الممنهج للفقر والعبودية والعسكرة الارتزاقية لا الجندية الوطنية المبدئية.

إن الدولة الاقطاعية كحال اليمن أو البرجوازية اللانتاجية لا يمكن إصلاحها مهما اتخذت من مقاربات ممنهجة لتحقيق ذلك، بل يجب تدميرها واستبدالها بدولة مدنية، واليمن لا يحكمه برجوازيون منتجون، بل أوليغارشية ريعية تابعة ومعسكرة لا يمكن إعادة تأهيلها.

إن محاولة القوى “الثورية” بعد 2011 للانخراط في مؤسسات الدولة لم ينتج شيئا بل أعيد امتصاصها وتفكيكها. والمهمة إذا ليست في اقتسام الكعكة ، وإنما تفكيك آلة القمع والنهب برمتها: الجيش، الجهاز البيروقراطي الفاسد، مؤسسات الريع، الشبكات القبلية التابعة، والتمويل الخارجي.

ولهذا فإن الرؤية المدنية تدعو إلى بناء سلطة بديلة من الأسفل  قائمة على المجالس الشعبية و اللجان الجماهيرية الجهوية و الهيئات المحلية المنتخبة والتنظيم الثوري الجماهيري خارج أدوات الدولة التقليدية.

إن مشروع اليمن ما بعد الأوليغارشية لا يكون بإعادة إنتاج مركزية قاهرة جديدة بل ببناء مجال عام أفقي يضمن مشاركة المكونات الشعبية في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي وهذا يعني:

  • توزيع الثروة لا تمركزها.
  • مشاركة المجتمعات المحلية في إدارة مواردها.
  • إنشاء نقابات حقيقية مستقلة تحمي حقوق العمال والمزارعين الذي يشكل المجتمع اليمني فيها تسعين في المائة من عدد السكان.
  • تأميم الموارد السيادية لصالح الشعب تحت رقابة شعبية لا بيروقراطية.
  • تعليم تحرري يعيد الوعي السياسي والاجتماعي للشعب ويفكك ثقافة الطاعة والاستكانة.

إن الأوليغارشية في اليمن ليست نتيجة للفساد بقدر ما بينها أنها بنية سلطوية عميقة تطورت من الإمامة إلى الجمهورية الشكلية إلى الحروب الأهلية وأن تفكيك هذه البنية يتطلب مشروعا ثوريا يدمج بين الوعي الشعبي والتنظيم الجماهيري والتفكيك الجذري لأدوات الهيمنة.

وأن اليمن لا يحتاج إلى دولة جديدة تبنى فوق الدولة القديمة وإنما هدم الدولة الأوليغارشية وبناء مجتمع سياسي جديد يحكمه الشعب ويديره مجالس الشورى وفق النمط الحضاري الإنساني ويعيد فيه الثروة إلى المنتجين لا إلى المنتهبين الاقطاعيين.

إنها ليست معركة سياسية فحسب بل معركة وجود و معركة بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون شيئا، إنها معركة تطهيرية بين الحلم والثورة ولا وسيلة إلا بالوعي، ولا سلاح إلا بالتنظيم، ولا طريق إلا بالتحرر الذاتي وبقيم سامية ومبادئ ثابتة ومشاعر نخبوية تتماهى وجدانا واندماجا بمشاعر الشعب وطموحاته.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.