اليمن بين القوى القبلية والمكونات المدنية: تأمل في إشكالية التكوين من مدخل الخصوصية الحضارية

0 16

اليمن بين القوى القبلية والمكونات المدنية: تأمل في إشكالية التكوين من مدخل الخصوصية الحضارية

د. جمال الهاشمي

ليست اليمن رقعة جغرافية تتنازعها قوى تقليدية وحديثة  بقدر ما هي حيز حضاري كثيف تتراكم فيه طبقات من الذاكرة والمعنى والتاريخ والقيم والمعتقدات حيث تتداخل القبيلة والمدنية والسيف والقلم و الكهوف القديمة والمطابع الحديثة  في معمار اجتماعي لا يخضع بسهولة لمقولات الصراع الكلاسيكي بين القديم والحديث.

إن فهم اليمن لا يتحقق من خلال القطيعة مع ماضيه ولا بالارتهان إلى نماذج مدنية مستوردة من خارج نسيجه وإنما من خلال الإصغاء إلى صوته الداخلي حيث تسكن القبيلة لا بوصفها نقيضا للعقلانية المدنية بل كحامل لرمزية اجتماعية عميقة تختزن منظومة من القيم والضبط والسلوك.

وفي هذا الإطار ليست القبيلة شكلا من التنظيم الاجتماعي فحسب وإنما أيضا تجسد تعبيرا لمبدأ فلسفي في العيش الجماعي يقوم على الشرف والانتماء والولاء والتوازن بين الحرية والانضباط.

لكنها حين تنغلق على ذاتها وتتحول إلى بنية سلطوية فوق القانون فإنها تكشف حدودها وتتحول إلى عائق أمام بناء دولة المواطنة.

وفي المقابل فإن المدنية في السياق اليمني ليست دائما تجسيدا للتحرر والتقدم، ففي غياب الدولة الضامنة وبتآكل الثقافة المؤسسية كثيرا ما تغدو المكونات المدنية مجرد قشرة هشة تفتقر إلى الجذور الاجتماعية أو المعنى الحضاري الذي يمنحها الشرعية في الوجدان الجمعي، فبعض المشاريع المدنية جاءت كجزر معزولة لا ترتكز على الفهم العميق لبنية المجتمع اليمني وقبائله لذلك تعثرت في لحظة الاصطدام مع قوى تقليدية أكثر رسوخا لا بفعل قوتها المادية وإنما بفعل عمقها الرمزي والثقافي.

من هنا فإن المعضلة في اليمن لا ينظر إليه كصراع بين القبيلة والمدنية وإنما كأزمة متعمقة في إدراك الذات الحضارية وتحديد وجهة التحول التاريخي، ولا يكفي أن نستنكر القبيلة أو نهلل للمدنية، لأن ذلك لن يعالج أزماتنا المعقدة وإنما يجب علينا مساءلة المفاهيم ذاتها:

ما المدنية في سياق حضاري كاليمن؟ وكيف يمكن تفكيك البنية القبلية ليس من خلال الهدم والحرب عليها أو تعميق الصراع معها وإنما عبر تحويلها إلى قلعة مدنية تجمع في رحابها الحضارة  والتاريخ والمعاصرة؟ وتساؤل آخر والإجابة عليها من خلال مشاريعنا الحضارية، فهل نستطيع بناء مشروع وطني يزاوج بين الموروث والحداثة دون السقوط في فخ الاستلاب أو الانغلاق؟

هنا يبرز دور النخبة الواعية لا كمجرد طبقة مثقفة بل كوسيط تاريخي يحمل وعي المرحلة ويعيد إنتاج العلاقة بين القبيلة والمدنية ليس على أساس التنافر وإنما على أساس التكامل الخلاق، التكامل الذي يعطي للقبيلة مكانتها وللمدنية قيمتها لكن من خلال موازين العدالة والقيم القبلية التي بها تشكلت قيم عربية خالدة ما يزال تاريخها مرجعا مقدسا يحكم حاضرها لأن القبيلة العربية بنية رمزية وتاريخية خلدها الشعر العربي في الحب والنجدة والأنفة من الضيم والظلم والحرية، القبيلة العربية لا تنقاد بالاستبداد وإنما تقاد بالقيم العدلية الدينية والإنسانية والأخلاقية وهي بذلك مكون مختلف عن مكونات العالم التقليدية والكلاسيكية لأنها ترتبط بضوابط تضرب أعماقها في تاريخ القيم الدينية الإسلامية وقبل الإسلام وهذا من خصوصيات المجتمع اليمني .

في صميم التجربة اليمنية لا يمكن تناول مفهوم القبيلة بوصفه تجمع سكاني أو إطار تنظيمي بدائي وإنما كبنية رمزية متجذرة في الوعي الجمعي ومتماهية مع أنماط العيش والهوية والانتماء.

إن القبيلة اليمنية ليست اختراعا طارئا على الجغرافيا السياسية وإنما هي أعمق تنظيما وسلوكا وأخلاقا من الدول القطرية التي تشكلت بقيم الاستعمار الحديث، فالقبيلة كانت تصنع دولا حضارية بقيمها الخالدة وما تزال مآثرها في روح التاريخ وفي مفاخر أحسابها، لذلك لم تنسجم قيمها مع قيم الدول القطرية الهجينة التي تتناقض بين شرعية القبيلة وشرعية الدولة المدنية الحديثة، وهذا من أسباب تخلف الدولة القطرية لم تحدد هويتها داخل البنية القبلية كما لا تنتظم في هوية الدولة المدنية الحديثة.

إن القبيلة امتداد لمفهوم أصيل للعيش الإنساني قائم على فكرة التساند الطبيعي والتكافل العرفي حيث يغدو “الناموس القبلي لا القانون المكتوب الضامن الرئيس للعلاقات والحقوق، وهو ما جعل اليمن من دون دول الأزمات الأخرى عفيفة عن انتهاك الأعراض أو انهاك حرمة البيوت لأن ذلك من العار الأسود الذي لا تقبله القبيلة اليمنية.

القبيلة من هذه الزاوية لم تكن عائقا أمام المدنية في جوهرها وإنما كانت إطارا تنظيميا عقلانيا ضمن شروطها الحضارية  التاريخية فهي نواة الدولة ولا قيام للدولة والحضارة اليمنية خارج سياقاتها العرفية وهذه المكونات القبلية أنتجت توازنات دقيقا بين الحرية والمسؤولية وبين السلطة والتفاوض.

غير أن المأزق يكمن حين تتحول القبيلة من نظام تماسك اجتماعي إلى مؤسسة احتكار سياسي تتماهى مع أدوات السيطرة بدل أن تبقى في هامش الضبط الاجتماعي.

وهنا مما يجب إدراكه أن القبائل اليمنية حافظت على نوع من الاستقلال السيادي عن مركز الدولة وكذلك عن الانتماء لقيادة قبلية واحدة، إذ ظلت متوازنة فيما بينها حتى حاولت الدول القطرية المعاصرة تشكيل قيادة قبلية جامعة أدمجتها في السياسة وحاولت تتبيع القبائل لمركزية قبلية واحدة، وهو ما أدى إلى تفكيك اليمن بين قبيلة حاشد وبكيل وظهر بينهما التنافس في قيادة القبائل وتحولت القبيلة بهاتين المركزيتين إلى أداة من أدوات الدولة القطرية المعاصرة وهو ما أدى إلى تفكك القبائل وتحررها من سيادة الدولة وسيادة مركزية الهيمنة القبلية .

وقد ينظر الى تفككها الحالي على أنها أزمة، وإنما هي  في الحقيقة حرك تجديدية لإعادة إنتاج قيم القبيلة التاريخية القائمة على مبدأ الشورى والسلطة الأسمية لا الاستبدادية الجبرية، إذ لا منظومة خارج القيم الدينية والأعراف القبلية التي تشكلت بهاته القيم.

 

وهو ما يجعلها  فاعلا مستقلا ومؤثرا في المسار السياسي أحيانا بوصفها سلطة بديلة وأحيانا كضامن للاستقرار. وفي كثير من الأوقات تكون الحاجز أمام تشكل الدولة المدنية إذا غاب العدل وفقدت ثقتها بالدولة المدنية أو تحولت الدولة المدنية إلى أحزاب سياسية نفعية أو مكونات عسكرية مصلحية، وفي هذه الحالة  ينمو الولاء القبلي ويتقدم على الولاء الوطني لإعادة التوازن إلى المدنية المتطرفة والقوانين الإسمية.

ومن الأبعاد العميقة في البنية القبلية اليمنية والتي غالبا ما تغفل في الخطابات السياسية الحديثة هو حضورها كشكل مبكر لممارسة الشورى ففي داخل كل قبيلة كانت القرارات الكبرى تتخذ في مجالس عامة يشارك فيها وجهاء القوم وكان الرأي الجماعي  لا الفردي هو الذي يوجه حركة القبيلة.

و بهذا المعنى، مثلت القبيلة إطارا تداوليا لا استبداديا تمارس فيه السياسة ضمن حدود العرف والرضى الجماعي قبل أن تتبلور فكرة الدولة الحديثة، وما دولة المدينة المنورة كأول مدينة تسمت بالمدنية إلا شكل من أشكال تطور الأعراف القبلية في دولة حضارية إنسانية هذبتها القيم الدينية فاعطتها بعدا إنسانيا تجاوز العرق والنسب إلى بعد أخلاقي نافع من أبعاد القيم الدينية والقبلية وهو بعد الحسب، الحسب الذي يزن قيم النسب بفعله لا بعرقيته.

ومن جهة أخرى كانت زعامة القبيلة تقوم غالبا على “الرمزية” لا على السلطة المطلقة؛ فـ”الشيخ” يمثل المهابة أكثر من الحكم ويقود بالتأثير لا بالإكراه، وليس في القبيلة توريث للمشيخة وإنما يعاد إنتاج المشيخة بالاختيار من داخل القبيلة وبالبيعة ولذلك فسدت القبيلة عندما تأثرت بأساليب حكم الدولة القومية القطرية المعاصرة.

وفي هذا التوازن يمكن فهم الزعامة القبلية كشكل من أشكال الملكية الاسمية حيث تفصل الرئاسة عن الحكم المباشر ويحاط القرار بسياج من الرأي والمشورة.

هذه البنية على ما فيها من محلية كانت في جوهرها تحمل بذور نظم تداولية عقلانية لكنها توقفت عن التطور بفعل العزلة والتوظيف السياسي لاحقا وتدخل الدولة القطرية في شؤونها.

ومن الأبعاد العميقة التي غالبا ما تغفل في تحليل البنية القبلية اليمنية علاقتها بالمعتقدات الدينية والرمزية، فالقبيلة لم تكن فسحب وحدة اجتماعية بل كانت في كثير من تجلياتها حاملة لشكل من أشكال التدين الجمعي ومجالا لتمثل المقدس ضمن بنية عرفية.

وقد لعبت القبيلة دور الوسيط بين العقيدة والتاريخ حيث اختلطت الأعراف بالفتاوى وتداخلت سلطة الشيخ بزخم الرمز الديني.

وهنا وظفت القبيلة باسم المعتقدات الحزبية وساهمت في تدمير بنيتها الأخلاقية تحت مظلة القيم الحزبية فانتجت شكلا من أشكال الهجين المدني السياسي القبلي.

لقد كانت في بعض مراحل التاريخ تضفي على نفسها شرعية دينية إما عبر النسب (كما في قبائل تنسب إلى آل البيت)  أو عبر احتضانها لعلماء ومتصوفة ومجاهدين فتتحول إلى وعاء للمعتقد  لا فقط للحماية والمصالح وإنما لتنظيم وجودها المدني للسيطرة على القبائل الأخرى من خلال تأثير القيم الدينية وفي حالات أخرى شكلت القبيلة حاجزا أمام أشكال التحديث الديني وظلت متمسكة بتفسير تقليدي للدين يخدم بنيتها السلطوية.

إن العلاقة بين القبيلة والمعتقد هي علاقة تبادلية لكنها محفوفة بالمفارقات، أحيانا يمنح الإيمان القبيلة بعدا روحيا يضبط سلوك أفرادها بقوة الرادع الغيبي وأحيانا تطوع الدين ليكون أداة من أدوات تكريس السيطرة لا وسيلة للتحرر.

ومن هنا فإن استعادة الوظيفة الإيمانية التحريرية للمعتقد في السياق القبلي تتطلب إعادة تحرير الدين من التأويلات السلطوية وإحياء البعد القيمي والروحي فيه بوصفه قوة للتحول الأخلاقي لا تكريسا للعصبية.

ومن هنا يمكن أن يصبح المعتقد عنصرا مكملا لبنية مدنية منسجمة تتكئ على الإيمان لا كإطار للانغلاق بل كجسر للمعنى والعدالة.

إذا كانت القبيلة تمثل الامتداد الأفقي للروابط الأولية في المجتمع اليمني فإن المكونات المدنية جاءت بوصفها وعدا عموديا بالتحرر من الانغلاق وبناء علاقات تستند إلى مفاهيم المواطنة والحق العام والدولة القانونية.

غير أن هذا المسار لم يكن سلسا  بل تعثر في أكثر من موضع نتيجة لعوامل بنيوية وثقافية حالت دون تبلور مدنية حقيقية ذات جذور اجتماعية.

لقد ظهرت البذور الأولى للمكونات المدنية في اليمن الحديث عبر التعليم والصحافة والبعثات الثقافية وتبلورت مع قيام الجمهورية ثم تجلت بشكل أوضح بعد الوحدة اليمنية مع انفتاح المجال العام لظهور الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني.

غير أن هذا التشكل كان غالبا فوقيا أو نخبويا لم يستطع أن يخترق القاعدة الاجتماعية العريضة التي ظلت أكثر التصاقا بالبنية القبلية والروابط التقليدية.

كما أن التوظيف السياسي للمكونات المدنية  من قِبل السلطة أو القوى الخارجية  أفقدها كثيرا من صدقيتها وجعلها في نظر العامة أدوات للنخبة لا أدوات للتحرر.

فالمدنية حين تنفصل عن قاعدة شعبية واعية تتحول إلى محاكاة شكلية للحداثة دون أن تتمكن من بناء مؤسسات راسخة أو ثقافة حقوقية راسخة.

وفوق ذلك فإن النزاعات المتكررة والحروب المستمرة قوضت فرص استقرار تلك البنى المدنية فباتت المؤسسات المدنية هشة وانهارت أغلب الهياكل التي كان من الممكن أن تمثل نواة للدولة الحديثة.

يبقى التحدي الجوهري هو كيف يمكن إعادة إنتاج مشروع مدني في اليمن لا بوصفه استيرادا لنموذج جاهز بل بوصفه خلاصة لتفاعل معقد بين الموروث الثقافي والتحولات السياسية بين الرؤية الفلسفية لمفهوم الدولة وبين الحاجات الواقعية لمجتمع متعدد ومتجذر في تاريخه.

إن استعادة الفاعلية الحضارية لليمن لا تمر عبر إقصاء أي من مكوناته بل عبر مشروع وطني يحتضن تناقضاته ويعيد صياغتها ضمن أفق تكاملي خلاق فبدلا من النظر إلى القبيلة والمدنية كطرفين في معادلة صفرية يمكن اعتبارهما بعدين متوازيين للتاريخ الاجتماعي اليمني؛ أحدهما يضمن التماسك الأفقي للهوية والآخر يرسم ملامح التقدم العمودي نحو الدولة.

ويتطلب هذا التحول وعيا مزدوجا من جهة إصلاح القبيلة من داخلها عبر تحريرها من التوظيف السياسي وتجديد أعرافها بما يتلاءم مع مفاهيم العدالة والحق ومن جهة أخرى إعادة صياغة المدنية بوصفها ممارسة جماعية منبثقة من المجتمع لا مفروضة عليه.

إن الرهان هنا نعول به  على عقل جمعي يتجاوز ثنائية الماضي والمستقبل ويعي أن المدنية لا تعني اقتلاع الجذور وأن التراث لا يكون فعالا إلا إذا تم تأويله في ضوء التحولات المعاصرة.

وحده هذا الفهم الجدلي العميق يمكن أن يضع اللبنات الأولى لبناء دولة يمنية حديثة لا تنفي القبيلة بل تهذبها ولا تفرغ المدنية من محتواها بل تغنيها بتجربة حضارية ذاتية.

وفي هذا الأفق تبرز الحاجة إلى حوار وطني فلسفي لا يقصر مهمته على المصالحة السياسية بل يسعى إلى بناء مشترك للمعنى يربط بين الذاكرة والتطلعات بين الانتماء والتعدد وبين سلطة العرف ومشروعية القانون.

هذا وحده ما يمكن أن يخرج اليمن من أسر التكرار التاريخي ويفتح أمامه أفقا جديدا للتكوين تتآلف فيه الحكمة القبلية مع روح الدولة المدنية في مشروع حضاري متجدد ومتجذر في آن واحد ومتوازن وفي مسارات هادفة.

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.