الشرعية السياسية بين تحولات العقل و الفكر والواقع

0 28

 

الشرعية السياسية بين تحولات العقل و الفكر والواقع

 

د. جمال الهاشمي – المعهد الفرنسي للدراسات والبحوث وشؤون الأوسط

حين نطرح سؤال الشرعية في زمن اختلطت فيه الأدوار وانقلبت معايير التنصيب فإننا لا نبحث فقط عن حكومة تنظم المرور وتسلم الجوازات وإنما عن مشروع حضاري تجسده الدولة في الواقع وعن تعاقد اجتماعي يحفظ كرامة الإنسان قبل أن يحصي عليه خطواته، فالشرعية في جوهرها ليست صندوق اقتراع وإنما هي قدرة الدولة على تجسيد إرادة الناس لا إرادة الشركات العابرة للحدود.

إن الدولة التي تدار بعقلية الموظف عند البنك الدولي لا تختلف عن تلك التي كانت تدار بقرارات الحاكم العسكري إبان الاستعمار، وإن اختلفت المعايير.

إننا اليوم أمام أشكال متعددة من إدارة الدولة أتت أو تشكلت من أزمنة متضاربة في خصوصياتها وتواريخها؛ حكومات تتحدث بلغة التحديث الرقمي و لكنها تمارس وصاية القرون الوسطى الأوروبية، ومؤسسات تستعير مفردات الديمقراطية، لكنها ترتعد من سؤال من انتم؟ ومن فوضكم؟

إن الشرعية لا تورث ولا تشترى بل تكتسب في معركة وعي مستمرة وأن الشعب إذا شعر أن الدولة أداة في يد الخارج، سيسحب منها الاعتراف وان استمرت في الحكم بالقوة.

والأخطر من ذلك أن كثيرا من الحكومات في العالم العربي اليوم، تدير الدولة بعقلية الطوارئ الدائمة، فكل نقد يعتبر خيانة وكل معارضة تقرأ كفوضى والنتيجة  مجتمعات محبطة، تائهة تبحث عمن يقودها بحزم نحو إثبات وجودها ومكانتها.

فأزمنة إدارة الدولة لا تقاس بمدة الحكم ولكن  بنوعية الإنجاز وعمق الرؤية، أن حكومة شرعية في زمن الرقمي يجب أن تحمي المعرفة لا أن تحاصرها و أن تحرر العقل لا أن تخدره و أن تربي على المواطنة، لا على الخوف.

إن المستقبل ليس تكرارا للماضي بل تجاوز له والشرعية لن تتحقق إلا تعود الدولة إلى الناس وليس إلى أوهام السلطة، وفي العالم العربي أصبح سؤال الشرعية جزءا من معركة وعي  تخوضها الشعوب مع أنظمتها في سبيل استعادة الحد الأدنى من الكرامة والسيادة؛ فالحكومة الشرعية في ابسط تعريفاتها هي التي تنبع من إرادة المجتمع وتعبر عن مصالحه وتخضع للمساءلة أمامه.

لكننا ومنذ عقود نعيش حالة من الفصام السياسي بين الدولة والمجتمع؛ فالدولة العربية التي ولدت في ظل الاستعمار أو على أنقاضه لم تكتمل كدولة مواطنين بل ظلت أسيرة لمنطق السيطرة والقوة والتضليل وليس لمنطق الشرعية ولم تكن إدارة الدولة إلا امتدادا لمنظومة أمنية ترى في المجتمع تهديدا دائما لبقائها في الحكم.

لقد اختزلت السلطة مفهوم الشرعية في الشكل المؤسسي؛ انتخابات شكلية و دساتير معلقة و برلمانات بلا صلاحيات ومجالس شورى معطلة ومراكز بحوث للدعاية في حين أن الشرعية الحقيقية لا تتأسس إلا على قاعدة التمثيل الفعلي والمشاركة الشعبية والتوازن بين السلطات والفكر المنهجي المتوازن، ما نشهده اليوم في معظم الدول العربية هو ازمه شرعية مستمرة تنعكس في هشاشة الإدارة والتنمية والأمن وانعدام الثقة وتفكك العقد الاجتماعي.

إن الدولة الحديثة لا تقاس بقوة أجهزتها القمعية بل بقدرتها على إدارة المصالح المتنوعة داخل المجتمع وعلى صوغ مشروع وطني جامع يدمج المواطنين لا يقصيهم ويحترم الحريات لا يصادرها ويوفر شروط العدالة الاجتماعية لا يتأسس على الفوارق والامتيازات التنافس والمحاصصات.

فالحكومة الشرعية كي تكون كذلك يجب أن تكون أداة لخدمة المجتمع لا غاية بحد ذاتها، ويجب أن تؤسس على فكرة السيادة الشعبية وان تكون خاضعة للمراقبة والمحاسبة. أما الحكومة التي تستند إلى شرعية الأمر الواقع أو دعم الخارج فهي حكومة مؤقتة مهما طالت لأنها تفتقر إلى الجذر الاجتماعي والأخلاقي الذي يربطها بالناس.

إن ازمه الشرعية في العالم العربي ليست فقط سياسية بل هي أيضا ثقافية ومؤسسية وتعبير عن فشل مشروع بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال وعن غياب رؤية تنموية حقيقية تضع المواطن في قلب المعادلة.

ولذلك، فان استعادة الشرعية لا تتم عبر إصلاحات تجميلية وإنما عبر إعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم وإعادة بناء الدولة من الأساس على قاعدة المشاركة والعدالة والاستقلال والسيادة الوطنية.

ومنذ أن بدأ الإنسان يفكر في معنى الحكم والسيادة نشأ سؤال أساسي: ما الذي يمنح الحاكم الحق في أن يطاع؟ ولماذا يخضع الناس للسلطة طوعا أو قهرا؟ هنا يولد مفهوم الشرعية، لا بوصفه مبدأ سياسيا فقط بل كمعيار فلسفي ديني وقيمي لاختبار الحكم ذاته، وهنا لا يكفي أن تكون السلطة قائمة بل يجب أن تكون مبررة وفي الفلسفة السياسية لا نجد مفهوما اكثر حساسية من الشرعية لأنها تمثل خط الاتصال بين السلطة والعقل و بين القوة والحق وبين الواقع والقيم أو الفعل والنموذج.

وقد بدأت الشرعية في منطق فلاسفة التحديث والنهضة الأوربية بالشك المنهجي انطلاقا من مطالب ديكارت بان نشك في كل شيء حتى نصل إلى اليقين وتحريك العقل وفق نظرية مقارنة بين أنا والوجود والأنا والآخر والعقل والمصلحة، والأخلاق والقيم، وكذلك الشك في كل سلطة حتى تثبت مشروعيتها أمام العقل؛ والشرعية عنده ليست وراثة ولا عادة بلهي  نظام يخضع للعقل الواضح والمنهج النقدي.

وفي فلسفة كانط لا تكون السلطة شرعية اذا لم تحترم الكرامة الإنسانية وهذه من أهم مؤشراتها ومن هذه الفلسفة نشأت في الغرب منظمات الحقوق الإنسانية والحقوق المدنية والسياسية وحقوق المرأة والطفولة وحقوق الأقليات، فالقانون وحده لا يكفي بل يجب أن يكون تعبيرا عن إرادة أخلاقية  تتجاوز المصلحة لتخدم الواجب، وأن الحاكم الذي لا يرى في المواطن غاية وفي المواطنة قيمة وفي الإنسانية مبدأ لا يستحق أن يطاع.

وقد حذر ميكيافللي من الغفلة عن الواقع، و في نظره أن الشرعية لا تعني فقط الحق بقدر ما هي القدرة على الحكم، فالحاكم لا يجب أن يكون طيبا يمنح الوظائف العامة للدولة على أساس الصحبة والمولاة بل يجب أن يكون ناجحا يضع المعايير دون النظر إلى الأشخاص، ولا ينبغي أن يخلط بين الأخلاق والسياسة بل يجب أن يفهم كيف نحكم بشروط هذا العالم.

ويعتقد سبينوزا ان الدولة وجدت لتمكين الانسان من ممارسة حريته العقلانية، وليست السلطة نقيضا للطبيعة البشرية وإنما هي أداة لتنظيمها والشرعية بهذا المنطق تقتضي التوازن بين القوة والعقل، وعندما تكون السلطة معادية للعقل فإنها تفقد شرعيتها حتى لو كانت قائمة بالقوة.

ويرى هيجل أن الدولة تجلٍ للعقل في التاريخ، وأن الشرعية تعبير عن انسجام الدولة مع منطق التاريخ لا مع الإرادة الفردية وحدها.

ومن خلال هذه الجدلية الفكرية يتساءل ماركس من يحكم، ولمصلحة من؟

وينحو بالشرعية منحى آخر حيث يراها انعكاس لبنية اقتصادية وأن  الدولة أداة طبقية. ولذلك لا يمكن أن تكون شرعية ما دامت تحافظ على استغلال الأغلبية لصالح مكونات تتحكم في إدارة الدولة وتعتمد المعايير الطبقية في استغلال الطبقات الأخرى، وأن الشرعية الحقة لا تكون إلا حين تزول الفوارق الجذرية وتتحقق العدالة الاجتماعية، كما أنه لا تكفي فكرة واحدة لتعريف الشرعية لأنها مفهوم مركب لا يكتمل إلا بجمع العقل والأخلاق والتاريخ والمصلحة والعدالة والحرية، وما من حكم شرعي بالنفي المطلق إلا اذا أجاب عن هذه الأسئلة وواجه هذه التحديات كلها.

ولقد ميز الإغريق وعلى رأسهم سقراط وأفلاطون بين القوة والحق و بين من يفرض سلطته بالسيف ومن يقيمها على أساس من العدالة والمعرفة، و في هذا السياق تتجلى الشرعية كمفهوم يتجاوز السلطة الشكلية ليقوم على أسس الأخلاق والعقل في إدارة الدولة، وعند أفلاطون لا تكون الحكومة شرعية إلا إذا كانت خاضعة لمبدأ الخير ويقوم عليها من يعرف الحقيقة ويهتدي بها كالفيلسوف وهو رأس المعرفة المنهجية وأعلى مراتبها العقلية.

وعنده الشرعية في جمهوريته ليست مأخوذة من صناديق الاقتراع أو القبول الجماهيري وإنما هي من نتائج  التناسب بين طبيعة الحاكم ونظام الفضيلة، هذا التصور النخبوي وإن بدا مثاليا، يحمل دعوة مركزية تقتضي أن لا شرعية دون حكمة، ومن يحكم يجب أن يكون موسوعيا في معارفه ومدركا لواقعه عالما بطبيعة المتغيرات والناس والتنمية.

أما أرسطو فقد نقل النقاش إلى مستوى أكثر واقعية في كتاب السياسة حيث يربط الشرعية بنوع النظام السياسي وغايتهـ، فحين تكون غاية الحكم الخير العام فإن النظام يكون شرعيا سواء أكان ملكيا أو أرستقراطيا أو جمهوريا. أما إذا انحرف عن هذه الغاية إلى خدمة مصالح خاصة فهو نظام فاسد طاغ أو أوليغارشي، وهنا تبرز فكرة جوهرية مفادها أن الشرعية ليست في الشكل بل في المضمون.

وفي عالمنا الحديث ورغم هيمنة الشكل الديمقراطي والانتخابي يظل سؤال الشرعية مؤرقا ذلك أن وجود دستور وانتخابات لا يعني بالضرورة أن الحكم شرعي، فقد تتحول الديمقراطية إلى واجهة ويختزل العقد الاجتماعي إلى مجرد إجراء شكلي، تنتزع منه الروح الفلسفية والأخلاقية والقيمية التي دافع عنها الحكماء عبر التاريخ.

إن العودة إلى الجذور الفلسفية للشرعية اليوم ليست تمرينا نظريا بل ضرورة حضارية للخروج من أزماتنا المعاصرة، فالحكومات لا تقاس بقوتها وإنما تقاس بمقدار خدمتها للخير العام والمصلحة العامة وإنسانيتها وبمدى خضوعها للحق وقدرتها على جعل الحكم تعبيرا عن العقل لا عن الشهوة تعبيرا عن الخير العام المقيد لا تبعا للأهواء والأمزجة ، تعبيرا عن ثبات القيم المعتدلة لا التطرف في الدفاع أو التخلي.

وكما قال أرسطو غاية الدولة ليست العيش وجلب الضروريات وإنما تحقيق الرفاه،  والعيش الطيب لا يقوم على القوة  بل على شرعية تستمد قوتها من العدل و من الحكمة ومن احترام الإنسان كغاية لا كوسيلة، أي لا تحترم الناس كوسيلة للوصول إلى السلطة وإنما كغاية تفرض على الحاكم احترام إنسانيته في الناس.

والشرعية السياسية في الفكر الإسلامي قضية غنية ومعقدة تتراوح بين النصوص الثابتة والاجتهادات المتغيرة ومن المثير أن نرى كيف يعالج كل مذهب إسلامي هذه المسألة بناء على فهمه الخاص للعلاقة بين الدين والسياسة.

فإذا ما نظرنا إلى مسألة الشرعية السياسية من خلال منظور المذاهب الإسلامية المختلفة، سنكتشف تباينا في التصورات حول من يملك السلطة السياسية وما هي الأسس التي تبنى عليها شرعية هذه السلطة، وفي المذهب الشافعي على سبيل المثال يرى أن الشرعية السياسية ليست مجرد حق إلهي يمنح لشخص ما بناء على نسبه أو مكانته الاجتماعية بل هي أمر يعتمد على البيعة التي تمنح الحاكم شرعيته من قبل الأمة أو من يمثلها من أهل الحل والعقد.

وأن الشورى جزء أساسي من تكوين الحكم الشرعي بحيث يجب أن يلتزم الحاكم بمبدأ الشورى ويتشاور مع أهل العلم والخبرة في المسائل التي تهم الأمة، هذا الفهم يعكس توازنا بين النص و الواقع الاجتماعي وهو ما يجعل الشرعية في المذهب الشافعي مرنة تمكن الأمة من اختيار حاكم يتوافق مع قيم العدالة والقدرة على إدارة شؤون الدولة.

لكننا إذا نظرنا إلى المذهب الشيعي فإن الشرعية تبنى على النصوص الخاصة التي تحدد من هو صاحب الحق الإلهي في تولي السلطة، و من هذا المنظور لا تعد البيعة وحدها كافية بل يجب أن يكون الإمام منتخبا من قبل الله وهو إمام معصوم لا يجوز لأحد غيره أن يتولى الحكم.

وهذه النظرة تجعل الشرعية في المذهب الشيعي قائمة على فكرة العصمة التي لا يملكها أي شخص غير الإمام المعصوم وبالتالي فإن السلطة في نظرهم لا تمنح لأي شخص سوى أهل بيت النبي، وهذه الرؤية أخرجتها عن سياقات الأمة والعقل إلا في سياق الاختيار الخاص المحدد، وعند الزيدية أحد مذاهب التشيع لا يكون الإمام شرعيا إلا إذا اجتمعت فيه شروط العلم والعدالة والشجاعة والقدرة على النهوض بالأمر وخرج شاهرا سيفه للدفاع عن الدين والمستضعفين.

فالشرعية ليست فقط في النسب ولا في الشكل وإنما  في الوظيفة التي يؤديها الإمام لحفظ مقاصد الدين والمجتمعن وقد رفضت الزيدية نظرية الغلبة التي تبناها بعض فقهاء العصرين الأموي والعباسي، ولم تعترف بشرعية من وصل إلى الحكم بالسيف دون قيامه بالعدل واعتبرت الظلم يسقط الإمامة ويبيح الخروج عليها ما دام الخروج لا يجر إلى مفسدة أعظم.

وإذا أسقطنا هذا التصور فإن الفكر الزيدي لا يمنح الشرعية لأنظمة ترفع شعار الإسلام بينما تضيق على العقل وحرية التعبير وتجبر الناس على اتباعها، وتقهر الشعوب وتمنع الاجتهاد وتقصي المخالف وتعلي من الولاء الشخصي على الكفاءة.

كما أنه يجب على الإمام الزيدي أن يكون مجتهدا عدلا مستقلا حاملا لمشروع إصلاحي لا مجرد حاكم يدير المؤسسات ويعلن الجهاد دون أفق يقوده إلى تحقيق مصالح الناس ومقاصد الدين، و يرى المذهب أن الأمة هي التي تمنح الشرعية لا الغلبة ولا المال ولا حتى مجرد النسب،وإن كان النسب شرطا مكملا، ومعيار النجاح في الإمامة عند الزيدية ليس الاستقرار السلطوي بل قيام الحق وردع الباطل، وتحقيق المصلحة العامة.

وعند المقارنة بالمقاصد الشرعية فإن الفكر الزيدي ينسجم مع حفظ الدين من التسلط وحفظ النفس من الإهانة وحفظ العقل بالاجتهاد والمال بالعدالة والكرامة بالتحرر من الظلم، ولأجل ذلك لا يقر الفكر الزيدي بشرعية الحكم الذي يكمم الأفواه ويحتكر الثروة ويقمع المشاركة السياسية وإن زعم حماية الدين وأنه إمام المسلمين.

وفيما يتعلق بعلاقة الفكر الزيدي بالحركات المعاصرة يمكننا رصد تفاعل الزيدية مع مفاهيم الشرعية السياسية في السياقات الحديثة خاصة في ظل الصراعات السياسية التي تشهدها بعض الدول العربية وبخاصة في اليمن؛ فالزيدية ترفض فكرة الشرعية السلطوية التي تستند إلى القوة أو الوراثة مما يجعلها في تضاد مع بعض الأنظمة المعاصرة التي ترى أن الشرعية تأتي من القوة المسلحة أو الاستقرار السياسي وتقتصر على التمكين للحاكم بغض النظر عن أدائه أو قدرته على تحقيق العدالة.

من هذا المنظور يمكن القول إن الفكر الزيدي يقدم نموذجا من الشرعية المستندة إلى العدل والتمكين للأمة في تحديد مصيرها السياسي، لكنه فشل في تطبق هذه النظرية وخالف مقاصدها في رفضه إعادة السلطة إلى الأمة واستمداد شرعيته منها.

حيث نجد أن الحركة الحوثية (أنصار الله) التي تُنسب إلى الفكر الزيدي قد قدمت نفسها كممثل للشرعية الزيدية مستندة إلى فكرة الانتفاضة ضد الظلم وأشارت إلى ضرورة إعادة إحياء المفاهيم الإسلامية في السياسة وإذا فحصنا موقف الزيدية في هذا السياق، نجد أنها لا تعتبر الحق في الإمامة حقا مطلقا ولا وراثيا بل مشروطا بالقدرة على تحقيق العدالة، وتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي الذي يُضر بالشعب.

والفكر الزيدي في هذا الإطار يتبنى نظرية الخروج ضد الظلم وهي واحدة من أبرز أفكار الزيدية التي تتمثل في قيام الإمام أو الحاكم بشرعيتهم بناء على أدائهم العدلي لا على استقرارهم العسكري أو السياسي، وفي حال فشل الحاكم في تحقيق العدالة والرفاهية يصبح من حق الأمة الخروج عليه.

هذا الفكر يعكس تناقضا واضحا مع العديد من الأنظمة ومع حكومة صنعاء نفسها و التي تبرر استمرارها بالقوة سواء كانت القوة العسكرية أو الشرعية التي تمنحها الأكثرية بغض النظر عن عدالتها أو توافقها مع الشريعة فعلى سبيل المثال، يمكن مقارنة هذا الفكر الزيدي مع نظام الحكم في بعض الدول العربية التي تعود إلى ما يسمى “الشرعية الثورية” أو “الشرعية الدستورية”، حيث تعتمد الدولة على آليات غير دينية لحفظ الشرعية مثل الانتخابات أو فرض الاستقرار العسكري وهو ما يتناقض مع المفهوم الزيدي الذي يجعل العدالة والمصلحة العامة أساسا للشرعية بعيدا عن الانتصار بالقوة أو الانتخابات التي قد تكرس السلطة دون تحقيق المقاصد الشرعية.

على النقيض من هذه الأنظمة نجد أن الفكر الزيدي يراعي التوازن بين الشريعة والأمة؛ فالحاكم في هذا الفكر لا يعتبر حاكما شرعيا لمجرد أنه وصل إلى السلطة بل يجب أن يكون من أولويات عمله تحقيق العدالة وتوفير حياة كريمة للناس.

وبذلك نجد أن الزيدية تعتبر المشاركة السياسية والمحاسبة جزءا من الشرعية ما يعني أن الحاكم الزيدي يجب أن يحترم إرادة الأمة ويستمد شرعيته من قدرة الأمة على مراقبته ومحاسبته، والزيدية خلافا للإمامية الإثني عشرية لم تجعل الإمامة مقيدة بالنص وحده ولم تُخرج الأمة من مسؤولية الاختيار والمحاسبة بل اعتبرت الإمامة عقدا واختيارا وجهادا لا توريثا ولا استسلاما، وبهذا تعد الزيدية من أهم المذاهب السياسية التي تتناسب مع نظرية الدولة المدنية الحديثة.

ولمعرفة ماصدق كل حركة مذهبية أو عقدية يجب دراستها من خلال مقاصد معتقداتها ومذاهبها ذلك أن المقاصد الكلية للإسلام والإنسانية والدينية واحدة، ولكن الحواضن العقدية والحزبية تتخذها سلما لا سلاما، وحجة لا احتكاما وحيلة لا قياما.

أما الخوارج فيرون أن الشرعية السياسية لا ترتبط بالنسب أو العصمة بل تقوم على العدالة والطاعة المطلقة لله و أن الحاكم الشرعي هو من يقيم شرع الله ويطبقه دون اعتبار للنسب  وإذا ارتكب الحاكم ظلما أو فسادا فقد شرعيته حتى وأن الحق في القيادة يعود للجماعة في اختيار من يتحلى بأعلى درجات العدالة والالتزام بالشرع.

وهذه الرؤية تحدد شرعية الحاكم بمقاصد الشرعية وضوابطها وهو قريب من الفكر الزيدي في رؤيته وخصوصا المذهب الأباضي.

وعلى الجانب الآخر ربط المعتزلة الشرعية بمفهوم العقل معتبرين أنه من الواجب أن يكون الحاكم عادلا وقادرا على تحقيق مصلحة الأمة دون النظر في نسبه أو انتمائه الديني.

و على الحاكم أن يضمن حرية الناس وحمايتهم، وبهذه الرؤية فهم يقتربون من مفهوم الدولة العلمانية.

ومع تطور الفكر السياسي الإسلامي في العصر تطور مفهوم الشرعية السياسية بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية في ظل الديمقراطية الحديثة حيث تتجه بعض المفاهيم الإسلامية نحو الفصل بين الدين والدولة، ويرون أن الشرعية تستمد من إرادة الشعب فقط بينما يعد يصبح مرجعية أخلاقية لتنظيم الحياة المجتمعية، وأصحاب هذا  التوجه يرون أن الانتخابات واختيار الشعب لحكامهم هو المصدر الحقيقي للشرعية ولا اعتبار لأية معايير أخرى .

فالشرعية السياسية في الإسلام ليست مفهوما ثابتا بل هي مفهوم ديناميكي يختلف من مذهب إلى آخر ويعكس التفاعل بين النصوص الدينية والواقع السياسي المتغير.

والشرعية بهذا التعدد مسألة تفاعلية وليست جامدة وتظل مفتوحة للجدل والتفسير وفقا للظروف التاريخية والاجتماعية ومن المؤكد أن ما يعتبر شرعيا في سياق معين قد يختلف بشكل جذري عندما يؤخذ في الاعتبار متغيرات الزمان والمكان لا سيما وأن الشرعية السياسية في الفكر الإسلامي من الموضوعات المعقدة التي لا يمكن حصرها في تفسير واحد بل تطرح أسئلة متعددة حول كيفية ارتباط الدين بالسلطة السياسية وتوزيع هذه السلطة بين الحاكم والمحكوم.

وقد تنوعت آراء المذاهب الإسلامية في تحديد مفهوم الشرعية السياسية حيث تباينت المواقف بين الدعوة إلى البيعة و الشورى و العدالة وبين التأكيد على التفويض الإلهي والتفسير العقلي للاختيار السياسي وإذا قارنا بين أبرز هذه الآراء سنجد اختلافات مهمة تتشكل بناء على تفاعل الفقهاء مع النصوص والمفاهيم المبدئية المرتبطة بالحكم، وهنا نخرج بقناعة أخرى تجعل من الفقه علم من علوم السياسات المدنية في إطار الثقافة الإسلامية ومحدداتها الأصولية وضوابطها العقلية إذا استثنيت بعض المعتقدات الشيعية التي تجعل من الإمامة من أصول العقيدة وبذلك فهو من أصول الدين، وهو رأي فقهي تطور مع متغيرات الواقع ودخول الثقافات الفلسفية ليجعل منه قيمة مقدسة، مع أن كل الدول التي اعتمدت هذا المبدأ لم يتحقق معها العدالة وهو الغاية المعتمدة في كل المعتقدات والأديان والعقول.

وهنا نجد في المذهب الحنفي أن مفهوم الشرعية السياسية يرتبط بالقدرة على الحكم وفق العدالة و الاجتهاد والكفاءة وليس  النسب أو القبيلة أو الإمام المعصوم شرطا لشرعية الحكم و الشرعية جزء من البيعة وأحد التعبيرات والمؤشرات الدالة على رضا الأمة و تتسم هذه الرؤية بالواقعية والتفاعل مع ظروف الزمان والمكان.

أما في المذهب المالكي فيعلق الشرعية بمفهوم الشورى والبيعة كمصدرين أساسين ويرفض ثيوقراطية الحاكم أو عصمته، وإنما أوجب على الحاكم معايير منها أن يتسم بصفات القدرة في الحفاظ على مصلحة الأمة وتحقيق العدالة، وبهذا التصور تعد الشورى و البيعة أساسيين في إضفاء الشرعية على السلطة مما يعطي مجالا أكبر للأمة في اختيار الحاكم وتفويضه.

ويؤكد الإمام أحمد المعايير الشرعية والكفاءة والعدالة، وتعد البيعة هي الأساس لشرعية الحكم إلا أنه شدد على التمسك بالأحكام الشرعية في جميع أمور السياسة والاقتصاد، وأن يظل الحاكم خاضعا للمراقبة والمساءلة من قبل الأمة ويؤكد ابن تيمية على أن الشرعية تأتي من بالبيعة التي يتم إقرارها بين الحاكم والشعب، وأن يكون مؤهلا للحكم وفقا للعدالة، وليس الحق الإلهي أو العصمة وأنكر فكرة الولاية الإلهية التي كانت في بعض الفترات، وفي هذا السياق أبدى ابن تيمية اهتماما واضحا بمسألة مشاركة الأمة في اختيار الحاكم عبر منهجيتي الشورى و البيعة.

وفي نفس السياق يؤكد كل من الإمامين؛ الجويني و الغزالي على كفاءة وقدرة الحاكم على تحمل أعباء الدولة وتطبيق أحكام الشريعة، وأن لا تكون الشرعية مطلقة من دون مشروعية العدل و الشورى.

وقد افتى الغزالي على أنه إذا فسدت الولاية فإن على الأمة وجوبا أن تزيل الحاكم الذي يظلم أو يفرط في تطبيق أحكام الله حتى وإن تم اختياره بالبيعة والشورى واستوفى كافة الشروط ، لأن المقصد العام للنظام هو تحقيق العدالة والظلم يفقده الشرعية، ويقاس على ذلك عجز الحاكم وعدم قدرته على أداء مسؤوليته.

وبذلك، نجد أن مفهوم الشرعية السياسية عند الغزالي ينطوي على بعد أخلاقي ويدعو إلى التوازن بين الحق الإلهي والحق الاجتماعي للشعب للجمع بين تحقيق الرقابة الذاتية بالدين ورقابة مجلس الشورى والرقابة الشعبية في إحصاء المنجزات التي قدمها الحاكم لمراقبة مشروعية الحكم بالمؤشرات الواقعية.

وبنفس السياق يؤكد ابن القيم الجوزية على القدرة والعدل في إدارة شؤون الأمة وعزلة الشرعية عن سياقات الوراثة والنسب وحصرها بإرادة الأمة ومشاورتها، وأن الحاكم الذي لا يحقق العدالة أو يظلم الأمة يفقد شرعيته ويجب تغييره على الأمة، وفي المذهب الشافعي أن الحاكم يستقي الشرعية بالبيعة و الشورى بشرط أن يكون قادرا وكفؤا على تحقيق العدالة في المجتمع.

وإذا نظرنا إلى هذا المفهوم من خلال عدسة بعض كبار المفكرين في التاريخ الإسلامي مثل ابن حزم و ابن رشد الحفيد و العز بن عبد السلام و ابن قدامة المقدسي و ابن عابدين سنجد تباينا في الآراء إلا أن الجميع يتفقون على ضرورة ارتباط الشرعية بالقيم الإسلامية الأساسية مثل العدالة و القدرة وتطبيق الشريعة، وكذلك المعايير المعرفية والشخصية والأخلاقية مع اختلاف في كيفية فهم هذه المفاهيم وتنفيذها.

فابن حزم وهو من أبرز فقهاء المذهب الظاهري له موقف صارم من مسألة الشرعية السياسية حيث يرى أنه لا تتحقق ألا بالبيعة، ولكي تكون البيعة شرعية يجب أن تكون طواعية من قبل الأمة لا إكراه فيها ولا تزوير، وأن يكون الحاكم من أهل الكفاءة ولا يجوز للحاكم أن يتلاعب بالسلطة أو يورثها بناء على النسب أو المصالح الخاصة، وهو ما يستدعي من وجهة نظر أخرى مستنبطة أن يتم تنمية الوعي العام ووعي النخبة بعلم السياسة والواقع لضمان اختيار الأجدر على قيادة الدولة.

ورغم تشدده على ضرورة الالتزام بالأحكام الشرعية إلا أنه يرى أن الأمة هي المصدر الرئيسي للشرعية عبر البيعة الحرة التي يجب أن تقوم على العدل والطاعة للأوامر الشرعية، فهو بهذا السياق يربط الأمة بالدين كمحدد من محددات السياسة باعتبار الدين محددا مكملا لقيم العدالة وتحقيق المصلحة العامة للإنسان إلى جانب رقابة الأمة في تحقيق ذلك.

أما ابن رشد الحفيد فقد ربط بين الفكر السياسي الإسلامي والفلسفة الإغريقية ويرى أن الشرعية لا تأتي فقط من النصوص أو البيعة بل تأتي بالتفاعل بين الفقه والشريعة من جهة، والحكمة من جهة أخرى.

ويوسع مدارك الوعي السياسي بالعقل و العدالة بحيث لا تقتصر الشرعية على تطبيق الأحكام الشرعية فحسب وإنما تتضمن معه القدرة على إدارة شؤون الدولة وفقا لمصلحة الأمة، ورغم إيمانه بقوة الشرعية القائمة على البيعة إلا أنه يرى أن الاختيار الصحيح للحاكم يجب أن يمر عبر الشورى و التفكير العقلاني الذي يحدد معايير قدرة الحاكم على تحقيق مصالح الأمة.

وفي ذات السياق جاء العز بن عبد السلام ليؤكد أن الشرعية السياسية تستمد من العدل في المقام الأول وأن الحاكم يجب أن يكون عادلا وقادرا على تحقيق مصلحة الأمة وحمايتها من الفساد والظلم، و أن اختيار الحاكم  لا يكون إلا بأهل الحل والعقد وجوبا، وحدد أهل الحل والعقد  بأولئك الذين يمثلون المجتمع بكل طبقاته، وإن تمت البيعة دون تحقيق العدالة يفقد الحاكم شرعية حكمه.

وبالسنبة لابن قدامة المقدسي فقد حدد الشرعية حصرا بالتمكين الشرعي وتعد البيعة البنية الأولى لثبيت الشرعية وأنها لا تقتصر على النسب أو الانتماء العائلي، وإنما يتقدم على ذلك قدرة الحاكم في تطبيق الشريعة وتنفيذ العدالة.

وابن عابدين كان من أبرز فقهاء الحنفية في العصر العثماني وقد أخذ بعين الاعتبار الواقع الاجتماعي والسياسي المتغير، وحصر الشرعية بالاختيار من قبل الأمة عبر البيعة واشترط  أن تستند هذه البيعة على القدرة في تحقيق العدل و الاستقرار في المجتمع، وقد وضع الشورى في مرتبة عالية، ومن ثم فإن الحاكم الذي يفشل في الحفاظ على مصالح الأمة أو يظلم الناس يفقد شرعيته بغض النظر عن نسبه أو منصبه.

وبعد استقراء رأي الفقهاء نجد أنهم يتوافقون مع الفلاسفة في المقاصد الكلية للدولة والتي حصرت بالعدالة كمبدأ والمصلحة العامة كغاية والكفاءة والقدرة كشرطين أساسين في اختيار الحاكم، ويرى الفقهاء أن غياب الشرطين يفقدان الحاكم الشرعية بل ويوجبون على الأمة عزلة لانتفاء شرعية استمراره، ومن باب أولى فإن غياب العدالة وظهور الظلم وامتهان الكرامة الإنسانية يوجب ليس عزله فحسبه وإنما محاسبته أيضا.

أما الذين يقولون بوجوب طاعة الإمام وهو ما نصت عليه بعض الأحاديث لأن ذلك من باب حماية الدولة وحدودها وتجنبا للفتنة ودراء لسفك الدماء وهتك الأعراض وتعطيل مصالح الأمة بالكلية، وقياسا عليه فإن المفسدة لا تزال بأعظم منها، مع أن القاعدة الشرعية تطالب بإزالة الضرر مطلقا والميسور لا يسقط بالمعسور.

والشرعية عند فلاسفة المسلمين أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وامتدادهم في الفكر الفلسفي الإسلامي ليست مسألة فقهية أو نصية بقدر ما  كانت موضوعا فلسفيا يتداخل فيه العقل والوحي وتتقاطع فيه المدينة الفاضلة مع السلطة الواقعية.

وقد سعى هؤلاء الفلاسفة إلى بناء تصور نظري شامل للسياسة من خلال مبادئ الكون والإنسان والعقل الفعال كمقدمات منهجية لتنظيم المجتمع والسلطة على الأسس العقلانية والأخلاقية، وقد كان الكندي أول من صاغ مشروعا فلسفيا عربيا وحدد الشرعية السياسية ب الانسجام البيني بين العقل والوحي، ومع هذا لم يتوسع في بناء نظرية سياسية كاملة، ويحدد صفة الحاكم الشرعي بالذي يعقل الدين ويحكم بالعقل أي يجمع بين العلم الإلهي والمعرفة الإنسانية؛ فالشرعية عنده اتصال الحاكم بالحكمة والحق.

أما الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة فيرى أن الشرعية لا تقوم على الغلبة أو الوراثة وإنما على كون الحاكم هو الرئيس الأول الذي يشبه في صفاته النبي أو الفيلسوف الملك و هذا الحاكم يجب أن يكون متصلا بالعقل الفعال وأن يكون أعلم الناس بما فيه صلاح المدينة وأقدرهم على توجيه الناس نحو السعادة القصوى.

وأن يكون قائما على مبدأ الفضيلة والعقلانية، وتقاس شرعية الحاكم بقدرته على تحقيق سعادة العامة كون السلطة ليست غاية في ذاتها بل وسيلة لخدمة الكمال الإنساني، وقد سار ابن سينا على خطى الفارابي لكنه أعاد تفسير بعض المفاهيم من زاوية أكثر ميتافيزيقية فالحاكم عنده يجب أن يكون نبويا – عقليا؛ أي يجمع بين الإلهام الإلهي والبرهان العقلي، والشرعية السياسية لا تتحقق فقط من خلال القوة أو الوراثة بل من خلال القدرة على قيادة الأمة نحو الكمال وتحقيق النظام والعدالة على الأرض، و يشترط أن يكون الحاكم متصلا بالعقل الفعال وقادرا على تنظيم المجتمع تنظيما عقلانيا وروحيا، وهنا يظهر بوضوح أن ابن سينا لا يفصل بين الشرع والعقل بل يدمجهما في وحدة تحقق الشرعية السياسية.

وهذه الرؤية التي جمعت في نظريته بين دور الدين في تعبئة الأمة تعبئة روحية بمعنى أن يكون الحاكم فقهيا وعالما دينيا حتى يكون قادرا على مخاطبة الأمة بالخطاب الإلهي، ومن جهة أخرى لا تكتمل شرعيته حتى يكون عاقلا مستوعبا لمصالح الأمة واعيا بالحكمة الفلسفية مطلقا بالمعارف وعلومها.

وفي المقابل نجد فلاسفة مثل ابن باجة وابن رشد الفيلسوف قد تعاطوا مع الشرعية من زاوية أكثر واقعية فهذا ابن باجة يرى أن المجتمع الفاسد لا يمكن إصلاحه إلا بوجود الفرد الكامل؛ أي الحكيم العاقل الذي قد لا يجد مدينة فاضلة في الواقع فينعزل عنها حفظًا لعقله وفضيلته،  بينما يؤكد ابن  رشد على أهمية الشريعة وربطها بالحكمة  وأن الحاكم الشرعي هو من يجمع بين الفقه والفلسفة ويدير شؤون الناس بالعدل، مستندا إلى العقل والشرع معا.

وفي المجمل نجد أن فلاسفة المسلمين لم يكونوا دعاة سلطة غاشمة أو وراثية بل اشترطوا العقل والفضيلة والسعي إلى السعادة كمرتكزات للشرعية السياسية وإذا اختلت هذه الشروط فإن السلطة تفقد شرعيتها وتصبح مجرد تغلب لا يستحق الطاعة ولا الاحترام.

والشرعية السياسية من زاوية أخرى في الفلسفة الصوفية ليست حكم دنيوي بقدر ما هي تجليات روحية لحقيقة الخلافة الإلهية في الأرض، وأن الأصل في الشرعية ليست البيعة الشكلية ولا القوة ولا الوراثة وإنما تعني الولاية التي تتصل بالحقيقة الإلهية وتستمد من الإخلاص والصفاء والاتصال بالله، ولهذا لم تكن السلطة محور اهتمام التصوف مع أنه لم يهملها بل أعاد تعريفها من منطلقات روحية وهنا يأتي منطق العارف بالله القادر على قيادة الناس في الظاهر لكن بإشراف الولاية العميقة التي لا تدرك بالحواس وإنما بالبصيرة.

وفي فكر الجنيد البغدادي نجد أن الشرعية لا تنفصل عن التحقق بالأخلاق الإلهية؛ فالحاكم العادل عنده هو من يخضع لله ويقود الناس نحو الحق لا نحو نفسه ولا يتكلم الجنيد عن السلطة بمفهومها السياسي، لكنه يربط كل سلطة حقيقية بالنية والزهد والعدالة ويرى أن من فقد هذه المقامات فقد شرعية القيادة ولو كان خليفة على الأمة في الظاهر.

و قد جمع الشيخ عبد القادر الجيلاني بين التصوف والفقه، والحاكم الشرعي في رؤيته الفقهية هو من يقيم الدين ويحكم بالعدل، وفي فلسفته الروحية هو الذي يخضع لله، ويتحقق ذلك بالورع والتقوى، والسلطة وفق نظريته أمانة إن لم تصنها النفس الطاهرة سقطت مهما كان سندها في الظاهر، أي مهما اكتملت شروط البيعة والاختيار لأن هذه رقابة خارجية أما الرقابة الذاتية فهي وحدها التي تمنح الحاكم شرعية إلهية، وبذلك فهو يميز بين الشرعيتين، شرعية الأمة وشرعية الالتزام والتكامل بينهما يقود إلى الكمال.

ويعد ابن عربي من أكثر المتصوفة تنظيرا في مسائل الولاية وقد ميز بين الخلافة الظاهرة والخلافة الباطنة؛ فالحاكم الظاهري قد يكون ملكا أو سلطانا يحكم بسلطة الدنيا. أما الشرعية الحقيقية لا تكون إلا للقطب، وهو الإنسان الكامل الذي يمثل الوجود الإلهي على الأرض. وأن السلطة السياسية الظاهرة لا تكتسب مشروعيتها إلا إذا خضعت للولاية الروحية التي يديرها الأقطاب والأبدال ورجال الغيب وهم غير مرئيين لكنهم يحكمون العالم بنور الله.

وعند الرومي تتجلى الشرعية السياسية في صورة العدل والحب؛ فالحاكم الشرعي هو من يسير خلف نور الله، ويقود الناس بالمحبة والرضاء لا بالإكراه والعصا، وفي مثنوياته إن الله لا يسكن القصور بل القلوب النقية، وإن من لا يُصلح قلبه لا يستطيع أن يُصلح الناس.

هكذا أعاد الصوفية تعريف الشرعية السياسية باعتبارها مرآة للشرعية الباطنية وأن السلطة التي لا تقوم على الصفاء والتقوى هي سلطة ساقطة حتى وإن اكتملت أركانها الشكلية. فالشرعية عندهم ليست حكما للناس فحسب وإنما هي أولا خضوع لله وتحقيق لمقام العبد الكامل الذي تتجلى فيه إرادة الحق.

وكان للطرق الصوفية مواقف مركبة من الأنظمة السياسية في التاريخ الإسلامي، فهي لم تكن دائما في موقع المعارضة الصريحة ولا في صف التأييد المطلق، بل اتبعت مسارا خاصا يقوم على مفهوم الشرعية الروحية قبل الشرعية السياسية وعلى مبدأ التزكية والتقوى قبل السلطان والقوة.

وفي الدولة الفاطمية التي قامت على تأويل باطني شيعي ومنها استقى ابن سيناء فلسفته الروحية تباين موقف الصوفية، فالبعض ارتاب منها، وخاصة في الشام والمشرق، بينما وجد بعضهم في دعوى الإمام المستور صدى لفكرة القطب الغائب أو الولي الخفي.

لم يكن الصوفية في عمومهم منخرطين في بناء النظام الفاطمي لكنهم احتفظوا بمسافة روحية جعلتهم يتعاملون مع الفاطميين بمنطق المصلحة الروحية لا الولاء السياسي.

أما في ظل الدولة العباسية، فقد كان لبعض الطرق الصوفية دور كبير في الحفاظ على التوازن المجتمعي لا سيما حينما ضعفت السلطة المركزية وانتشرت الفتن حيث كان الزهاد والعباد ركيزة أخلاقية لمواجهة فساد بعض الخلفاء ومع ذلك لم يسعوا إلى قلب النظام بل اكتفوا بالدعوة إلى الإصلاح بالزهد والنصح بالحكمة.

وعند قيام الدولة العثمانية اتخذ الصوفية موقعا أكثر قربا من السلطة، خصوصا مع الطرق التي تبنت الخدمة العامة مثل الطريقة النقشبندية والمولوية والخلوتية.

واحتضن سلاطين بني عثمان المشايخ وبنوا لهم التكايا والزوايا وأدرجوا الشرعية الصوفية في قلب الشرعية السياسية معتبرين أن السلطان العثماني ليس فقط خليفة في الظاهر بل هو أيضا ظل الله في الأرض يستمد بركته من الأولياء، و بهذا المعنى صار الشيخ الصوفي حارسا رمزيا للشرعية ووسيطا بين الحاكم والرعية.

لكن البعض منهم  كالشيخ بدر الدين خرجوا عن هذا الإجماع وسعوا إلى ثورة روحية ضد النظام باسم العدالة والمساواة، فتم قمعهم، بينما ظلت الطرق الكبرى وفية لفكرة أن الشرعية لا تأتي من السيف وإنما من القلب النقي والعهد مع الله، ولذلك كانت البيعة الصوفية في الزاوية رمزا روحيا يوازي بيعة السلاطين في القصر بل تتفوق عليها عند بعض المريدين.

ومع دخول العصر الحديث، وظهور الدولة القومية بدأ دور الطرق الصوفية يتقلص سياسيا وع هذا ظلت محتفظة بمكانتها الروحية لأن الشرعية الباطنية لا تزول بزوال الممالك، ومن هنا ظل موقفها من الأنظمة يتراوح بين الابتعاد الزاهد والمشاركة الرمزية لكنها في معظم الأحوال لم تضع يدها بالكامل في يد السلطة ولا انقلبت عليها كليا بل سارت في طريق ثالث يسمى طريق القلب.

إذا قرأنا الشرعية السياسية من منظور المقاصد الشرعية فإننا لا نتوقف عند الشكل المؤسسي للحكم ولا عند الألقاب السلطانية بل ننتقل إلى الغاية التي من أجلها شرعت الإمامة ونتساءل: هل الحكم المعاصر يحقق مقصود الشريعة في إقامة العدل وصيانة الكرامة ورعاية المصالح ودفع المفاسد؟

إن المقاصد الكبرى التي بنى عليها الشاطبي فهمه للشريعة وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال إنما هي أدوات حاكمة في تقويم شرعية الأنظمة السياسية؛ فالحاكم الشرعي ليس من يقيم الحدود فقط  وإنما أيضا يحفظ للناس دينهم دون قهر، ويصون أنفسهم دون ظلم، ويحترم عقولهم دون تضليل، ويحمي أموالهم دون نهب، ويعزز إنسانيتهم دون امتهان،  ومن قصر عن هذه المقاصد فقد جوهر الشرعية،وإن استوفى الشكليات.

إن البيعة في ضوء المقاصد ليست طقسا شكليا وإنما هو عقد اجتماعي- شرعي مشروط بالرعاية لا الرئاسة؛ فالحاكم ليس له حق مطلق بل هو وكيل عن الأمة، يُراقب ويُساءل، وتسقط عنه البيعة إذا أخل بالأمانة أو انحرف عن المقاصد الكلية، والمقاصد لا تحقق بالقهر وإنما بالشورى وليس بالرمزية وإنما بالإنجاز.

فإذا أصبحت الدولة أداة لتكريس التسلط وإدامة الفقر وتقسيم الناس واحتكار الدين والسيطرة على الوظائف العامة، فكيف تكون شرعية؟  وإذا كانت تقيم الشعائر وتضرب بها الخصوم وتسكت الأصوات الحرة وتضيق على المجتهدين وتخنق المبادرات فأين مقصد العقل؟ وأين حفظ الكرامة؟ وأين رفع الحرج الذي هو صلب الرحمة في الشريعة ؟

وفي ميزان المقاصد يعاد تعريف الحاكم فليس هو من يملك القوة بل من يملك الشرعية الأخلاقية والوظيفية وليس هو من يسيطر بل من يخدم فإن اختل المقصد بطل الحكم ولو بقي النظام.

هكذا تضعنا المقاصد الشرعية أمام سؤال حرج: هل الحكم القائم يحقق غايات الشريعة أم يفرغها من مضمونها؟ فإذا رفع شعار الدين وقمع باسم الطاعة، وعطل الشورى واحتكر الفتوى فهو حكم بلا مقصد، وسلطة بلا شرعية، حتى لو تزينت بلباس الدين وافتى له علماء السلاطين.

حين نقيس الشرعية السياسية في الأنظمة الإسلامية المعاصرة على معيار المقاصد الشرعية نجد تفاوتا كبيرا بين الشكل والمضمون وبين الادعاء والتدليل، فمعظم الأنظمة ترفع شعار الإسلام وتستند إلى إرث فقهي أو رمزية دينية لكنها حين تُختبر في ضوء تحقيق مقاصد الشريعة الخمسة والستة عند البعض يظهر الخلل والانفصال والحيلة والاحتيال.

وفي كثير من الدول يستخدم الدين كأداة سياسية لا كقيمة حيوية حيث  تنصب وزارات للشؤون الدينية وتنفق الميزانيات على المساجد والخطب ولكن يضيق على الاجتهاد وتمنع الآراء المخالفة وتحتكر الفتوى في يد السلطة وعلمائها، و هذا يُفضي إلى تعطيل  مقصد الحرية الدينية وحيوية الفقه، ويحول الدين إلى واجهة سلطوية لا قوة إصلاحية.

فهل يحفظ الدين حين يحاصر الوعي؟ وهل تحقق المقاصد حين يختزل الدين في الشعائر ويغيب عن مقارعة الظلم؟

ولا شك أن الاستبداد هو الذي ساهم في تطرف بعض المعتقدات ومقاومة البعض واعتزال البعض عن الحاكم لأن كل المؤشرات تشير إلى افتقاره لشرعية المقاصد الشرعية.

كما أدى توظيف الدين وتعطيل مصالحه في الأمة إلى تدمير البنية الأخلاقية، فالأنظمة التي تُفرط في دماء شعوبها أو تُقيم أجهزة أمنية تهدر الحقوق تحت شعار الاستقرار والتخابر مع الآخر بالشبهة دون بيان لا تحقق هذا المقصد؛ فإذا تحولت الدولة إلى أداة قمع وغابت المحاسبة وصار القتل بلا محاكمة أو السجن بلا تهمة فلا معنى للشرعية لأن الشريعة التي تستمد منها الشرعية جاءت لصون الحياة لا لاستباحتها.

وهذا الإجبار بالدماء قاد إلى فساد قيمة مقصدية أخرى من مقاصد الإنسانية والشريعة الإسلامية، وبهذا تعطل مقصد العقل في بيئات اجتماعية ترفض الآخر في زاويا مغلقة من المعتقدات والأسلمات، أو زوايا الاستبداد السلطوي المطلق، وترتب عليه حرمان الإنسان من حرية التعبير والجدلية الناعمة بالحسنى، والحوار البناء، ومن ثم ابتليت الأمة بتطرفين تطرف النقل دون نقد، وتطرف النقد دون علم بالنقل، بهذه الحالة فإن الدولة ضد مقصد العقل لأن الحكم الشرعي يوجب ترقية التفكير وليس تعطيله بالتلقين.

ونجد أن المقاصد تتهاوى في سلسلة من الحلقات الهادمة كلما تعطل مقصد من مقاصد الإنسانية تبعتها أخرى، حيث ترتب على تعطيل العقل فساده وفساد معاملاته، ومن أعظم مظاهر فساد الشرعية أن تتحول الدولة إلى مصدر للثراء الفاسد، ويختزل الاقتصاد في نخبة مقربة من السلطة أو بوسائل تتناقض مع مقاصد الشريعة في المداولات المالية.

فالشريعة جاءت لتحفظ أموال الناس لا لتمكن الأقوياء منها، فإذا غاب التوزيع العادل، وانهارت الشفافية، وتفشت الرشوة والمحسوبية، سقطت الشرعية من باب تعطيل المقصد، ومن أسوأ مفاسد تضيع هذه المقصد استخدام المال العام للدولة دون تفويض من الأمة أو استشارتها، فالأرض التي تحوي كنوزا أو المال الذي يؤخذ باسم الأمة ملك عام واستغلاله دون الرجوع إليها غلولا بما ذلك الهدايا التي يتلاقها الحاكم، حيث يجب أن تعاد إلى الأمة لأنها جاء من خلال وظيفته وليس من خلال نسبه ومكانته الشخصية، وفي الحديث “أفلا قعد في بيت أبيه وأمه أكان يهدى إليه”.

فإذا كان المال مفسدة بانتفاء شرعيته وشروطه فإن ذلم ينعكس سلبا على شرف الأمة وعفتها، حيث يتحول المال إلى غاية وبذلك تكون السياحة الجنسية والربا من وسائله المحرمة وهو ما أدى إلى تغييب مقاصد العرض النسل والنسب والحسب.

ومقصد النسل لا يقف عند الأسرة فقط بل يتسع ليشمل الكرامة الإنسانية، لأن الحكم الذي يُهين الناس بأعراضهم ويعزلهم على أساس العرق أو الانتماء أو الرأي ويمنع المقيمين على أرضه من حقوقهم في التجنيس لا يحفظ الكرامة بل يهدرها، كما أن المجتمعات التي تُنتهك فيها حقوق النساء والأقليات والفقراء باسم التقاليد أو النظام تفشل في تحقيق هذا المقصد الشرعي الإنساني.

وأخير عند إسقاط معيار المقاصد على واقع الحكم المعاصر في الدول الإسلامية يظهر أن الغالبية تسعى إلى شرعية شكلية تستمدها من التاريخ أو من الدستور لكنها تخفق في تحقيق الشرعية المقاصدية التي تقيس الحكم على أساس المصلحة والعدل والرحمة والمشاركة والعفة.

إن الشرعية ليست في بقاء النظام وإنما في تحقيق الغاية من وجوده فإذا تعارض وجود النظام مع مقاصد الشريعة فبقاؤه لا يبرر شرعيته وإنما يدينها.

وخلاصة لما سبق فإن كل الأفكار الفلسفية والعقدية تتفق على المقاصد الكلية لكنها تختلف في الوسائل وأدوات تفعيلها في الواقع، فالفقهاء السنة لا يختلفون عن الفكر العام لمفهوم الفلسفة ولا للمعتقدات الدينية الأخرى، بل يرون عزل الحاكم إذا كان عاجزا و غير كفؤ شريطة أن لا يودي ذلك الى فساد أطم وبلا أعم، وإنما يقاس على أساس درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهو ما يتوافق مع الفكر الزيدي ويشذ عنهم الخوارج الذي يرون الظلم وتغييب العدل مبرر للخروج دون اعتبار للمآل، بينما تتعدد آراء الأمامية كالصوفية ومن ثم فإن المعصوم يقابله في الصوفية الولي وهي من المعايير المثالية التي لا تتحقق في الإنسان العادي وإنما كمالها في النبوة ومن ثم فشلت هاتان النظريتان في مقاربة الواقع إلا أن من بين نظرياتها التشيع الكلاسيكي الذي يرى الاعتزال عن السلطة حتى يأتي الولي المعصوم وهذا أقرب في رؤيته إلى المصالحة مع الفكر والرؤية على العكس منه ولاية الفقيه التي استبدلت المنظر بالوكيل واستعجلت في بناء الدولة قبل حضوره وهو رأي اجتهاد خالف الرؤية العامة للتشيع العام وإن كان له نظائر سابقة استمدها من ثورة المختار الثقفي ومن جهة أخرى فإن التصوف الأعظم اعتمد العزلة والمقاربة في إطار الموافقة مع منهجه الذي اعتمد على إصلاح الذات بعيدا عن السلطة وقدم الشرعية الروحية على الشرعية الدنيوية لإدارة السلطة.

وخلاصة القول أن الشرعية محددة بالمقاصد الشرعية والإنسانية والمصالح العامة والدولة المدنية العادلة التي هي وسيلة لتحقيق السعادة والعدل وليست غاية بذاته، بينما تعد عند أطراف الصراع العربي والإسلامي المعاصر غاية بذاتها ، وبذلك كانت مقاصد الشريعة وسائل شرعية تقود المنافسين إلى السلطة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.