المصالحة اليمنية بين الصلح والعدالة الانتقالية
المصالحة اليمنية بين الصلح والعدالة الانتقالية
د. جمال الهاشمي
يتساءل البعض عن المصالحة كأداة من أدوات إعادة إنتاج الخطيئة أو تبريرها لتجديد القديم ولهذا التخوف مبررات أكدتها تجارب فاشلة سيست أكثرها ووظف الدين في الأكثر منها وقد ساهم التسييس أو التوظيف من وضع حلول جزئية أجلت انفجاراتها وتعقيداتها بانفجارات أعنف منها، وقد أدركنا أن المصالحات السياسية بين قوى النفوذ لا مخرج منها مطلقا وأن لا سبيل للخروج من الأزمات إلا بإرادة الشعب والتفافه حول ما يميله ليكون قائدا ومراقبا لعمليات الحوار ومشاركا فيها بكل فئاته ومكوناته ليميز بهذا المؤتمر بين من هو مع الشعب والوطن ومنه هو مع نفسه ومصالحه، ويميز عن كثب بين الخبيث والطيب.
ونحن ندرك أن الشعب غيب في كل مؤتمرات المصالحة السابقة وكذلك الحوار الوطني والتي بدأت بتفاؤل الرئيس عبد ربه منصور هادي بقوله جازما سينجح الحوار، وهذه مشكلة العقل السياسي اليمني الذي يقوم على فلسفة التخاطر والمؤالفة، أو وضع الرؤى والتصورات المنسوجة في الأمنيات ولا علاقة لها بالواقع.
ومن جهة أخرى أقيم مؤتمرات للمصالحة في المملكة العربية السعودية برعاية أشقاء اليمن في دول الخليج، وراهن الجميع على نجاحه وما لبثت أن توسعت الفجوة مجددا داخل السلطة الشرعية ذاتها بعد أن كان الصراع بين السلطة الشرعية وحكومة صنعاء،
وهذا التوسع يرجع إلى أزمة في مكونات السلطة ذاتها، غياب منهجية المصالحة الصادقة، لأنها بنيت على توجهات هذه المكونات بفرقتها وتآمرها على بعضها ، وليس على مبادئ وأهداف وقناعات وطنية لبناء الدولة المدنية والعبور إليها من خلال العدالة الانتقالية، ومن ثم كان نتائج الفشل متحققة بمؤشرات الواقع.
أما سلسلة الحوار التي كان بين حكومة صنعاء والحكومة الشرعية، فلم يكن حوارا بالمعني الذي أشار إليه القرآن ” والله يسمع تحاوركما” بل كان جدلا سفسطائيا وتوظيفا سياسيا، وهنا سنجد أن كل عضو ينتمي إلى طرف من أطراف الحوار يغيب الحقيقة بحقائق جزئية، ويفر من الشريعة بمداخل منها، وقد تجد من يظهر في الحقائق عور قياسا على عوراته التي ابتلي بها، والتشكيك بمصداقيتها، وكذلك قد يسعى البعض لاستغلال مبادئ وقيم بعضنا لإمالتها عن الحق، ونحن في هذا المؤتمر نريد من الشعب أن يقيم المؤتمر ويحاكمنا عليه وأن يقيم من بعده محكمة الشعب ليصحح مسارتنا إذا ظهر فيها اعوجاج أو ميل أو فساد.
لذلك دعونا للمصالحة كمدخل حضاري يعاد تشكيله بمداخل الصلح، والصلح غير المصالحة فمن أدوات الصلح الحوار ومن أدوات الثانية المقاربة.
والصلح لا يعني ضياع الحقوق وإهدار الكرامات وأن يتساوى فيه الجلاد والضحية لأننا لسنا في صراع بين جاهلية وإسلام وإنما صراع داخل الإسلام غير أن للصراع السياسي خصائصه مما يخرجه قليلا عن مفهوم الصلح في فلسفة التشريع، وهنا سيكون على حكومة المصالحة أن تقدم تتحمل بعض الحقوق تعويضا ما دام ذلك مدخل للإصلاح، وهنا يكمن هدفنا من المصلح وعبورها عبر الصلح لتحقيق الإصلاح ، وبذلك فهي ليست اتفاق بين أطراف فحسب بل هي عملية شاملة تعيد ترميم النسيج الاجتماعي وتعيد بنائه وتنميته بطرق عدلية منهجية تجمع بين الحق والعدل والقيمة .
وقد يظن البعض أن المصالحة تعني التسامح المطلق دون مساءلة أو أنها تسقط الحقوق مقابل استقرار شكلي للخروج من الأزمة، أو أنها ستأتي بالمعجزات السريعة، وستخلق استقرارا ناعما دون تحديات وهذا الفهم قاصر، لأنه سيؤدي إلى تدمير بنية المصالحة التي قد تتعرض لسلسلة من المؤتمرات المشابهة التي ستطلقها بعض الجهات أو المكونات لقطع الطريق أمام إرادة الشعب اليمني، وقد نجد يتعرض هذا المؤتمر لتحديات وتشكيكات، ولكن ذلك لن يؤثر عليه لأن محدداته وضوابطه ومقاصده ثابتة شرعا وأخلاقا وقيما وأنسنة.
فالمصالحة في جوهرها تُؤسس على رد الحقوق وتحقيق العدالة ثم تفتح مساحة للعفو لتؤسس هذه المساحة لقيمنا الثقافية في العفو عند المقدرة والعفو إنما يكون حقا للمظلوم وليس جبرا عليه، أما مساحة العفو في قوله تعالى:
“عفا الله عما سلف” فإنه مساحة العفو بجهالة ، أو نزع مسببات الانتقام بعد المصالحة وهذا الحق العام وهو من حقوق الدولة، والشعب .
فالآية لا تبرر التهاون في استعادة الحقوق، بل تشير إلى إمكانية العفو بعد ردها، حتى تغلق أبواب الانتقام، ويفتح باب الطمأنينة والأمن والاستقرار.
ولا يمكن تصور مصالحة حقيقية دون حوار صادق شجاع ومفتوح لأن الحوار يفسح المجال لفهم دوافع الماضي والاعتراف بالأخطاء والسعي لإصلاحها، وبهذه الآلية يخرج الحوار عند الجدل الأعمى وجدل الأنا والجدل الفوضوي وجدلية الملكية المطلقة، حيث سيكون الحوار طاولة للتلاقي وتبادل الرؤى بهدف الوصول إلى أرضية مشتركة تقوم على الاحترام والتقدير المتبادل والقبول بالآخر فالأرض لله تعالى يهبها لمن يشاء والعاقبة للتقوى والمتقين.
والعفو في سياق المصالحة ليس ضعفا بل هو دليل على القوة الأخلاقية، فحين يختار صاحب الحق أن يعفو بعد أن ترد إليه حقوقه فإنه لا يلغي العدالة بل يعطيها بعدا إنسانيا يداوي الجراح التي قد لا تبرأها الأحكام وحدها، وفي هذا يقول الإمام علي رضي الله عنه: “العفو تاج المكارم.”
إن المصالحة ليست شأنا شخصيا يقودها فئة من المبرزين ، بل هي مشروع مجتمعي شامل يعبر عن إرادة أغلبية الشعب اليمني الذين ليسوا مع داحس أو الغبراء ولم يكونوا ضمن حرب البسوس، فهي تمس إرادة الساحة العظمى من الشعب في قضايا الهوية والانتماء والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية والتوزيع العادل للثروات.
لذا، فإن بناء مصالحة حقيقية يتطلب إرادة سياسية ومؤسسات عادلة وإعلاما مسؤولا، وتعليما يعزز قيم التسامح والاعتراف بالآخر.
ومع هذا سنجد على طريق المصالحة قطاعا كثر وصامتون أيضا، لكن قيمتها تكمن في مبادئها وقيمها ومقاصدها، سنجد من يرى في المصالحة تحديا لنفوذ ضيق ومصالح شخصية، وأزمات نفسية، لكنها ستعبر بإرادة الشعب ونخب المصالحة الذين بادروا بها وفق منهج عملي لا لقيس ولا لتميم وإنما شعارها وأبدا شعار المصلحين في كل عصر “وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين” ومن هنا فإن باب المصالحة إذا فتحت أغلق باب الفساد، وإذا فتح باب الصلح أغلقت أبواب الانقسام، وإذا انفتحنا على التقوى تحقق العدل وإذا ترفعت المكونات عن العلو علت بهم منازلهم في الدارين.
إن المصالحة لن تكون أداة للتبرير والتمرير والتخدير بل هي ثقافة وسلوك واستراتيجية لبناء دولة مدنية ومستقبل خال من الأحقاد والانتقام والتمايز والعنصرية إذا ما تأسست على الحوار الصادق والعدالة المنصفة والعفو الطوعي فإنها تتحول إلى قوة دافعة نحو الوحدة والتنمية والاستقرار والحكومة الراشدة والدولة المدنية العادلة.