نحو نموذج مصالحة يمنية: قراءة مفاهيمية على ضوء التجارب الحديثة
نحو نموذج مصالحة يمنية: قراءة مفاهيمية على ضوء التجارب الحديثة
د. جمال الهاشمي
إن الحديث عن “المصالحة” لا يعني اختزالنا له في إجراء سياسي أو لحظة عاطفية تفضي إلى صورة جماعية تضم الخصوم تحت مظلة اللحظة الوطنية الفوضوية التي تكمن الأزمات ولا تعالجها، بل هو في مدلوله كما هو في مفاهيمه المعتبرة والتاريخية والدينية والأخلاقية والوطنية تعبير عن تحول حضاري في بنية المجتمع اليمني من الصراع إلى التعدد ومن الإقصاء إلى الإدماج، ومن الرغبة في الانتصار إلى التفاهم والمشاركة في صناعة التحول الحضاري .
لقد لاحظت في قراءتي لتجارب المصالحة الأممية – سواء في جنوب أفريقيا، أو رواندا، أو كولومبيا – أن هناك نمطا مشتركا بينها يمكن تسميته بالنموذج التحويلي، الذي يحول الأزمة إلى وعي والدمار إلى تنمية والهويات الجزئية إلى هوية كلية بآليات جديدة في الإدارة والخطاب والرؤية والاستراتيجية وهذا النموذج لا يهدف إلى إنهاء الصراع العبثي التي تمر بها أمتنا اليمنية خصوصا والعربية عموما، وإنما هو تحول استراتيجي من الفتوة والعنف والعي إلى السلم والرأفة والوعي، تحول في بنية الوعي الجماعي تنسجم تحت ظلال الأخوة والعصمة والوحدة الاستراتيجية التغييرية، وتحويل المصالحة من صفقات ما سبقها من تقاسم النفوذ الى مشروع وطني في إطار المبادئ الوطنية والدينية والإنسانية وقيم المساواة والعدالة الانتقالية.
في جنوب أفريقيا لم يكن قرار نيلسون مانديلا بالعفو عن سجانيه لحظة ضعف أو تصالحا مع الظالم، بل كان فعلا تحويليا بامتياز؛ تحويل الحقد المظلم إلى أفق استراتيجي منتظم، وتحويل الصراع والانتقام إلى تنمية وانسجام، وبقيادته الحكيمة وبصيرته النافذة وحيويته اليقظة وشجاعته الفائقة حول هذا التحول إلى تأسيس ما سمي بلجنة الحقيقة والمصالحة فالمصالحة لا تتجاوز الحقائق لتعبر تحت مظلة العفو والتغطية، وإنما المصالحة من خلال الحقائق مدخلا منهجيا أساسيا لتنمية الوعي والعبور من دائر الوعي إلى العفو الرضائي.
لقد ادرك مانديلا – كغاندي قبله – أن الصراع مع المحتل أو الخصم ليس صراع مصالح لأن صراع المصالحة يقودنا إلى المماثلة ومساواة المظلوم بظالمه، وإنما هو صراع نماذج حضارية؛ احدها يؤمن بالقوة والهيمنة، والآخر يؤمن بالحوار والمشاركة.
ولعل هذا الإدراك هو ما جعل مشروع المصالحة متجاوزا لفكرة الانتصار، فمانديلا لم ينتصر على خصومه بهذه الإجراءات النفسية العميقة وإنما أعاد تهذيبهم بقيمه الإنسانية الخالدة، هذا التجاوز كما هو الحال في فكر غاندي هو انتصار للقيم الإنسانية على مكادمة الاستحمار السياسي.
إن الـعدالة الانتقالية مفهوم لا يخلو من إشكال؛ لأن العدالة خلال مرحل الانتقال ليست مطلقة لانها تسير في حقول مليئة بالأحقاد السياسية والقبلية والمجتمعية، ولكنها مع ذلك تسعى لإقامة توازن نسبي بين حق الضحية وحق المجتمع وبقاء الأمة والمصلحة العامة.
توازن عظيم يقود الأمة إلى قيم عظيمة يصنعها العقل الجمعي، نخبا وعامة وكل الجهات والأحزاب والمجتمعات والألوان، فل الكل أمام الضمير والقانون والقيم والدين سواء.
في رواندا استخدمت الدولة محاكم الجاكاتشا الشعبية كأداة لاستعادة الروح الجمعية من خلال الاعتراف العلني في فضاء شعبي وخصوصية رواندية ربطت بين القانون والتقاليد و بين العقوبة والصفح وهو امر بالغ الأهمية في المجتمعات التي ترى في العفو قيمة لا تقل عن عدالة القانون والقصاص.
فالعدالة الانتقالية النسبية لا تعني غياب العدالة وإنما تعمل على إعادة تعريفها ضمن سياقتها العامة ومبادئها الكلية نحو انقاد الجسد الاجتماعي من التهافت في اللظى، وإعادة ترميمه لا التوسع في تمزيقه بمزيد من الصراعات.
وفي يمننا المعاصر لا نريد أن ننقل نماذج جاهزة نظرا لخصوصيتنا المختلفة وتاريخنا المتنوع وثقافتنا الخالصة، إننا لن نضع في اعتبارنا نموذج مانديلا العظيم ولا رواندا يمنية.
وإنما نسعى نموذج يمني أصيل لا ينهي الصراع كما حدث بين الملكيين والجمهورين ليطل مجددا 2012 ، وتبدأ مع اليمن الحديث نظرية التكرار والتداولية السلبية على رأس كل ثلاثة عقود صراعا فاستقرار كامن ينذر بعنف ملتهب، إن اليمن يحتاج إلى نقلة جديدة تغير فيه معالمه القلقة والمضطربة إلى معالم خالده يؤسس عليها الخلود ، لا تتساوى أزمنته بين تجديد الصراع وإعادة رتقها بالمصالحات ثم العود إليها في سلسلة من الأخطاء المكررة، فالتاريخ السلبي هو الذي يكرر ذاته أما التاريخ الإيجابي تاريخ الاستقامة والتقدم، لأن التساوي بين فترتي الصراع والمصالحة وإعادة تدويرها خلل في الوعي الاستراتيجي ووعي التخطيطي بل وأزمة نفسية لها ما يعالجها وآخرها الكي.
إننا في نموذجنا اليمني نستلهم التجربة الإسلامية والعرف القبلي والروح الشعبية، نموذج يجعل من المصالحة فعلا ثقافيا قبل أن تكون قرارا سياسيا، وقيمة حضارية قبل أن يكون قيمة مدنية.
ولن يتحقق هذا النموذج إلا اذا وضع الإنسان اليمني – لا السلطة أو مكوناتها – في مركز العملية التصالحية والمحدد الأسمى لتوجهات السلطة، والرقيب الوحيد في محاسبتها. فالضحية ليس فقط من فقد ابنه في الحرب بل أيضا من فقد الأمن والاستقرار وذاق مرارة الاغتراب في الداخل والشتات في الخارج ومن فقد الكرامة والمستقبل.
إن القبيلة التي ينظر الهيا غالبا كعنصر من الماضي؛ يمكن أن تتحول إلى قيمة مدنية حضارية إن أعيد دمجها في مشروع المصالحة وتحويلها إلى رافعة اجتماعية تعيد تجذير مواقفها في صلب قيمها القبلية الخالدة، قيم الطائي اليماني في كرمه وعروة الورد العبسي في صعلكته، والأحنف التميمي في حلمه، وقيم النبوة في تحويل قبائل الأوس والخزرج إلى مدنية الأنصار ودمج المهاجرين والأنصار في حضارة الإسلام والإنسان.
وكذلك الحال مع المرأة اليمنية التي يمكن أن تؤدي دورا محوريا في إعادة بناء الجسور الاجتماعية لا بصفتها ضحية فحسب وإنما بوصفها فاعلا أخلاقيا وثقافيا ومن رحمها ولدت الأمة والإمام وقيم الرحمة.
إن المصالحة الحضارية ليست تلك التي تفرضها النخبة على أساس المقاسمة في النفوذ وإعادة تشكيل الدولة المعطلة لإمكانيات الأمة وثرواتها، بل هي التي تصاغ في ضمير الامة والشعب، هي حركة وجدانية تبحث عن الوعي وتضع التساؤلات وتعيد كتابة الذاكرة الجمعية، لا محوها، وهي إعادة تعريف العدو بقيمنا الأصلية من شيطان نرميه بالحجارة المقدسة إلى أخ نختلف معه وتجمعنا المصالحة؛ المصالحة المقدسة لا الصراعات المدنسة.