مكونات الشرعية اليمنية بين إمكانية الهضم والتآكل.
مكونات الشرعية اليمنية بين إمكانية الهضم والتآكل.
د. جمال الهاشمي
الشرعية اليمنية كما يطلق عليها مجازا في أروقة السياسة تبدو أشبه بعربة تجرها خيول عمياء في اتجاهات متناقضة، ولسوء الحظ لا أحد من ركابها يتساءل من أين جاء هذا الطريق ولا إلى أين يؤدي؟
فالمشكلة في اليمن لم تعد في التحديات الخارجية التي تواجه الشرعية، بل في انقسامها على نفسها وتنازع مكوناتها ثعبان بجسد واحد وسبعة رؤساء، ورؤساء أخرى تنبت في أطرافها.
إنها تتآكل من الداخل كما يتآكل الجسد المريض الذي يتظاهر بالقوة بينما تنهشه خلاياه من الداخل، وهنا يجب الاعتراف بالمعوقات لأن الاعتراف بها جزء من الحل .
قال برنارد شو ساخرا عندما رأى واقعنا السياسي على سبيل المقاربة؛ السياسيون لا يعرفون شيئا ويظنون انهم يعرفون كل شيء وهو ما يمنحهم الحق في إدارة شؤون العالم، هذا الوصف القاسي ينطبق على الحالة مكونات الشرعية اليمنية
التي تقف كل مرة أمام العالم بوجه مرتبك غير قادرة على تعريف نفسها ناهيك عن الدفاع عنها.
حين تنظر إلى ما يسمى مكونات الشرعية تجد كيانا مأزوما لا يجمعه مشروع وطني، بل مجموعة من النوايا المتعارضة والتوازنات الهشة التي تستمد شرعيتها من الخارج أكثر مما تستمدها من الداخل.
أنها شرعية تعيش على المعادلات المؤقتة لا على الإجماع الشعبي، و كل فصيل يتصرف كما لو انه الممثل الأوحد للحقيقة، وكل جهة تنصب نفسها وصيا على مصير شعب، ومع هذا لم تكلف نفسها عناء الإصغاء إليه، وفي المقابل تفرض على شتات الداخل والخارج الانقياد لخطاباتها الإخبارية والاستماع لبطولتها السجالية.
فلا عجب أن تظهر الشرعية بصورة باهتة في المحافل الدولية، فهي عاجزة عن النهوض لأن أحد أقدامها يقف على الأرض والأخرى في الهواء، أما اليدان فمشغولتان بتقاسم ما تبقى من فتات السلطة والصراع على القيادة، وتقيدها أو احتوائها.
المأساة الأكبر أن الشرعية ليست محاصرة من الخارج فحسب بل مخترقة من الداخل هناك مكون يعطل مكونا آخر، و مشروع يطيح بمشروع فصيل آخر يحاول أن يكون الدولة كلها، ناسفا بذلك ما تبقي من فكرة الدولة، إنها شرعية تمضغ ذاتها بأسنان حلفائها كما تأكل الثورة أبناءها دون مجد أو نتيجة أو طريق يحمل آفاق حالمة.
برنارد شو بطريقته اللاذعة كان سيقول هنا؛ إنهم يريدون أن ينهضوا بوطنهم بأدوات الهدم، ثم يتساءلون لماذا لا يبنون شيئا؟ فكيف لشرعية متنازعة أن تقنع الخارج أنها قادرة على استعادة الدول وهي كالعقارب لا تستطيع بناء بيت إلا بتآكل أسها وتداعي أسسها.
ثم تأتي المفارقة الكبرى حين توجه أصابع الاتهام دوما نحو الخارج، بينما العائق الحقيقي يتجذر في الداخل، فالصراع بين الفصائل والقرارات المزدوجة والولاءات المتعددة كلها شواهد على أن الشرعية لم تسقط ، بل انزلقت في حفرة حفرها تناقضها الذاتي، وغياب أدنى اتفاق على أولويات وطنية حقيقية تسمو بالمجد والحضارة والعدل والتنمية والدولة.
نحن أمام شرعية تحمل في جيناتها فيروسات فنائها تتظاهر بالحياة السياسية بينما تعيش غيبوبة طويلة، تحاول لملمت أشتاتها عبثا في حلبة روما وثيرانها.
برنارد شو كان سيضحك بمرارة ويقول لا بأس أن تفشل لكن لا تدع النجاح أمام ضحاياك، وهنا تتجلى المأساة الأخلاقية؛ فالمكونات الشرعية لا تتصارع من أجل الوطن بل تتصارع باسمه كل فصيل يتعامل وكأن لديه صكا إلهيا يرى من خلاله الإنقاذ والأمل ولا يراه من غيره، أما المواطن فهو الغائب الأبرز يظهر فقط في خطب السياسيين، فليتقط معهم ابتسامات أو صورا أو يتلقى منهم فتات ويهتف في نشوة اللقاء ثم يعود الى بيته تاركا حنجرته وراء نشوة رأى حلما من النور وهو ظلام دامس لا نهايته له، نعم هذه حقيقية الوعي الأخضر،
فما أن يشرق الأمل بأوراق خضراء “القات” حتى يلفظها ويلفظ معها الأحلام، ثم ينسى في ركام المدن المدمرة أمله المفقود، وكأننا في أرض إرم لا وعي فينمو ولا أمن يؤتمل.
السلطة في اليمن كما في أي سياق سياسي آخر ليست مجرد هيكل إداري أو هيمنة فردية على مقاليد الأمور تتقاسمها المصالح المتناقضة، بل هي فكرة تتشكل في تداخل العلاقات السياسية والاجتماعية والتاريخية التي تؤثر بشكل مباشر على مصير الأفراد والمجتمعات. وكما قال الفيلسوف الفرنسي جان-بول سارتر: “السلطة التي لا تستند إلى الشرعية تصبح سجنا للجميع” وهنا يقصد شرعية الإنجاز الذي يأمله الشعب، لأن الشعب الواعي لا يعول على شخصية بل على نظام سياسي يدرك مفهوم الشرعية.
هذا النص يلخص ببراعة واقع السلطة في اليمن اليوم، فالمعوق الداخلي، سواء كان فسادا أو انقساما أو عدم قدرة على التفكير النقدي، هو من يحطم قدرة هذه السلطة على التفاعل بشكل بناء مع الواقع، ويجعلها مجرد هيكل متهدم لا يملك من القوة سوى ما يستعيره من القوى الخارجية.
لقد كانت السلطة اليمنية عبر عقودها الثكلى محط صراع داخلي بين فئات سياسية وقبلي ودينية وعسكرية متعددة، وهذه الصراعات لم تكن دائما تعبر عن صراع التغيير من أجل الشعب. إنما كانت، في جوهرها محاولة من القوى المختلفة للاستحواذ على مقاليد الحكم ليظلّ الشعب غارقا في دوامة الوعود الكاذبة والانقسامات الداخلية.
فكما قال ميشيل فوكو: “السلطة ليست محصورة في فئة معينة، بل هي سائلة ومتغيرة وتتوزع عبر شبكة واسعة من العلاقات” و في اليمن، تكاد السلطة تكون شبكة معقدة من المصالح المتضاربة، حيث يتقاطع فيها الاستغلال السياسي والفكري، ويستغل كل طرف من أطرافها الآخرين لتحقيق مصالحه الذاتية، إنه الطوفان الذي لا يرى النجاة للجميع ولا للأكثرية إنه طوفان الأحادية.
لكن ما يحول دون قيام نجاح السلطة بدورها الحيوي في بناء الدولة هو ذلك المعوق الداخلي الذي يضرب عمقها ويعطلها من الداخل، كما ضربت الفلسفة السياسية جرس الإنذار في محاكاتها لأزمة السلطة عبر العصور.
هذا المعوق يتمثل في الفساد المستشري، وفي الطموحات الضيقة التي تقود رجال السلطة نحو التمسك بمواقعهم بأي ثمن، في حين أن السلطة يجب أن تكون من أجل الإنسان لا من أجل السلطان”، كما ذكر الفيلسوف توماس هوبز، ولكن ما حدث في اليمن هو أن السلطة للهيمنة المشيخية والنرجسية الفردية التي صنعتها الثقافة الجاهلية، ثقافة الفيد والقرصنة وحمرة العين، هذه أسباب عميقة تحتاج إدارتها ل من يدرك عمقها وخصائصها ومتغيراتها وارهاصاتها، عقل يمتلك الدواء والقدرة معا.
إن مكونات السلطة معوقا من داخلها كما أن العقل الجمعي معوقا للدولة نفسها، فالفشل في بناء مؤسسات تقوم على العدل والمساواة هو الذي ينسف أي قدرة للسلطة على تحقيق التنمية والرفاه.
وفي هذا السياق، يُصبح الجواب على معضلة السلطة في اليمن أعمق مما يبدو على السطح، ويحتاج إلى تمحيص فلسفي يظهر أن المعوق الداخلي لا يتحقق عبر تداخل القوى السياسية فحسب بل يتجسد بخلل العلاقة بين السلطة والشعب.
وفي هذا يقول الفيلسوف الألماني هيلبرت أن السلطة التي لا تعترف بالإنسانية تظل عبئا ثقيلا”، وأن مكونات السلطة هي عبء على السلطة، و هذا العبء يتجسد في الفراغ الفكري الذي يعاني منه كثير ممن امتطى السلطة واتخذها مطية تتوافق مع أساليب تفكيره في عصر استطاع فيه الفكر المدني الذي غاب عن مدينتنا أن يؤسس مطيات مختلفة.
إن السلطة لا يمكن أن تكون نافعة إذا لم تكن شفافة ومتوازنة وبقيادة واحدة، كما ذكر الفيلسوف جون لوك، فإذا كانت السلطة تفتقر إلى التوازن الداخلي والمساءلة والفكر النقدي الخلاق، فكيف يمكن لها أن تواجه التحديات الخارجية وتلبي احتياجات الداخل؟
وفي الأخير إن الشرعية الحقيقية ليست توقيعا وخطابا وأمنيات تتخللها الكلمات، بل هي مشروع ينبع من الداخل من التفاهم لا من التناحر من الكفاءة لا من الزحام على المناصب من وضوح المشروع لا من ضباب النوايا.
ولذلك لا يحتاج اليمن إلى عقل جديد داخل الشرعية عقل يدرك إن الشرعية التي لا تبدأ من ذاتها لا يمكن أن تبنى على دعم الخارجـ عقل يفكك أولا معوقاتها الذاتية قبل أن يتحدث عن استعادة الدولة والا ستظل مجرد شبح سياسي يطوف العالم بلا تأثير بلا احترام بلا مستقبل.