خلل التوازن العربي بين النقد والانتقاد؛ قراءة في سيرورة التفكير والأزمة العربية.
خلل التوازن العربي بين النقد والانتقاد؛ قراءة في سيرورة التفكير والأزمة العربية.
د. جمال الهاشمي
إن العقلانية والواقعية لا تتناقضان مع المبادئ بل هما وسيلتان لحمايتها من التشوه والانحراف
أما التناقض الحقيقي فيسكن داخل العاطفة المزدوجة التي تتحكم في المزاج العام العربي خاصة في بلاد الأزمات؛ عاطفة الحب المطلقة التي تخلق تبعية عمياء وعاطفة البغض المطلقة التي تخلق كراهية مدمرة وصراعا مزمنا، وهذا هو جوهر ما تعانيه النفسية العربية اليوم انفعال دائم وانقسام داخلي وفقدان للموضوعية.
وهنا نجد أنه في الوقت الذي تتطلب فيه الظروف إصلاح الداخل تتجه أنظار قطاعات واسعة من الشارع والنخب في الدول المأزومة نحو نقد الخارج تحت شعارات أخلاقية أو دينية بينما تداس تلك القيم تحت أقدام الفساد والاستبداد والفقر المحلي، ومن المهم إدراك أن التبعية العربية للولايات المتحدة لم تكن وليدة اللحظة بل تعود جذورها إلى نشوء الدولة القومية الحديثة في العالم العربي بعد الاستعمار الأوروبي
فمنذ تشكل الأنظمة السياسية في منتصف القرن العشرين ارتبطت كثير من الدول العربية بحكم هشاشة الاستقلال وحداثة مؤسساتها بمظلة النفوذ الأمريكي المباشر أو غير المباشر، وهذه التبعية لم تكن خيارا حرا دائما بل في كثير من الأحيان كانت نتيجة فراغات استراتيجية وضعف داخلي وتوازنات قوى فرضت على المنطقة قسرا، ولذلك نجد كل زعامات الدول القومية تثبت حقيقة التبعية في خطابتها ضد الآخر من الدول التي تنطوي معها تحت مظلة الجامعة العربية أو المنظمات الإسلامية، وكل القادة العرب يدركون أن تبعيتهم لأمريكا تبعية مطلقة لا مجال فيه للاستقلالية، وهو ما أدى إلى انفصال بين قيادة الدولة وشعوبها وهذا الانفصال المطلق والذي استنزفته الشعارات القومية أدى إلى تنمية ثقافة العمالة أو الخيانة على مستوى العقل الاجتماعي الجمعي أو الجهوي أو الحزبي أو الفردي، فأصبح كل مكون من هذه المكونات عنده قابلية للخيانة تحت تبريرات أخلاقية وإنسانية ومصلحية.
لكن الخيانة رغم اتساع مساحاتها هي فرصة للبعض بينما يعيش الأكثرية بعقيدة الخيانة ويموتون عليها ويبعثون بنواياهم عليها، ولذلك كانت المبادئ صفة الأقلية لا صفة في الشعوب الديمقراطية.
ومع ذلك فإن التركيز على نقد التبعية دون نقد جذورها الداخلية كغياب الحكم الرشيد والتنازع السياسي والانقسام المجتمعي هو إسقاط خاطئ يغذي العقلية التبريرية أكثر من العقلية الإصلاحية، وفي هذا السياق يصبح استقرار بعض الدول كدول الخليج مثلا هدفا للهجوم من دول وشعوب مأزمة تتصارع فيها مكونات النفوذ الخاصة، وهي بأمنياتها تأمل لو أن نتساوى في المصائب والأزمات، وهذه إسقاط نفسي غير مسؤول لأن نفسية الكرام تعمل على الخروج من أزماتها وفي الوقت ذاته تأمل أن يستمر الاستقرار لشعوب تجاورها لأن انتشار الفوضى مفسدة مطلقة تزيد من أوضاع دول الأزمات سوءا وهو ما يقود إلى الفناء الحضاري ، وذلك كانت العداوة العربية أكثر قيمة أخلاقية من الصداقة المعاصرة، صداقة الاستغلال والانتهازية وغياب المبادئ الخالدة.
إن الأمن الجماعي لا يتحقق بإسقاط دول الجوار بل بتثبيت دعائم الاستقرار في كل أركانه وآن العمل على زعزعة استقرار الدول القائمة لا يؤثر فقط في موازين السياسة بل يهدد القيم الأخلاقية والإنسانية ويعرض الفقراء والضعفاء لمخاطر الفوضى، فالأقوياء يملكون خيارات النجاة بأموالهم ونفوذهم. أما الضعفاء فهم من يدفع الثمن الأكبر دائما، ولهذا نجد الضعفاء قد انتهكت أعراضهم في دول الأزمات وما الهجرات الدولية أو العابرة للحدود إلا دليلا على فساد أصحاب النفوذ ومكوناتها أو دليلا على بيع كرامتهم لأن المسؤول والقائد والرئيس يهان بشعبه أو بأحد مواطنيه، ولذلك نجد كرامة كل مواطن غربي دليلا على كرامة حكامها بل إن كرامة كل مواطن خليجي دليلا على عز حكامها.
فليكن العقل صادقا مع نفسيته المعقدة، وأن يدرك الحاكم أن شرفه من شرف مواطنيه وأن الشرف الوطني والقيمي إذا سقط سقطت هيبة الحاكم.
لذلك ومن منطلق أخلاقي وفكري فإن محاربة أسباب الفوضى ورفض مشاريع التفكيك والحرص على أمن واستقرار الدول العربية أيا كانت يجب أن يكون مبدأ راسخا في ألفاظنا وتفكيرنا وسلوكنا وقيمنا دون أن يعني ذلك تبرئة الأنظمة من أخطائها ،وإنما نعمل بالمقاربة من خلال تقديم رؤى إصلاحية واقعية تساعد على النهوض دون أن تهدم البنيان وتزيد من كمال الاستقرار لا تزيد من اضطرابه.
ولهذا نجد كثيرا من الساسة في الدول المتأزمة يهربون من واقعهم المأزوم بالمغامرة بشعوبهم المطحونة نحو مهاجمة الخارج في انشغال نفسي يعكس ضعف الداخل لا قوة الحجة، وهذا يخالف مبدأ وأنذر عشيرتك الأقربين لأن الإصلاح يبدأ من الذات وتحقيق الكمال الذاتي يشكل قطبا مؤثرا على مستوى الداخل وجامعا لوحدة الصف والمجتمع.
إن النقد الموجه لدول الجوار في كثير من الخطابات الشعبية والسياسية هو نقد غير منهجي ولا عقلاني ولا إنساني لأنه يصدر عن دول لم تستطع حتى الآن أن تبني نموذجا مستقرا للحكم والتنمية، فمن أراد أن ينتقد دولا أخرى فليقدم في البداية بديلا قابلا للحياة حتى يكون مقبولا في خطاباته وانتقاداته، ما دون ذلك سفها من الكلمات تعمل في صاحبها أكثر مما تعمل في عدوها لأنه لا تأثير لمن لا يملك نموذجا ولا شرعية نقد لمن لا يستطيع إثبات نجاحه.
إن الصراعات داخل الدولة القطرية العربية وعدم وجود توافق وطني حقيقي يعكس جوهر الأزمة البنيوية داخل الكيان السياسي العربي فحين تفشل الدولة في إنتاج حد أدنى من التوافق الداخلي أو بناء عقد اجتماعي عادل فإنها تتحول إلى ساحة صراع دائم بين مكونات المجتمع ومؤسساته وهذا الفشل لا يرتبط فقط بضعف الإدارة أو الأداء بل يعكس غياب مشروع وطني جامع يشعر فيه المواطن بالانتماء والمساواة والكرامة، وهذا التفتت الداخلي داخل الدولة القطرية لا يمكن فصله عن السياق الأوسع وهو أزمة العالم العربي في غياب التوازن بين الهوية والمصالح وفي تداخل المحلي بالإقليمي والدولي، وحين تدخل الدولة العربية في صراع دائم مع ذاتها فإن قدرتها على التأثير أو التفاعل الإيجابي مع محيطها تصبح محدودة
ويصبح النقد الموجه للخارج أو للدول المستقرة مجرد تعبير عن أزمة داخلية غير معالجة مما يستدعي أولا توجيه النقد الى الذات عبر آليات عملية في المضي قدما نحو خطوات الإصلاح من الداخل ويتحريك عرى المصالحة مع الذات الوطنية وبناء مؤسسات شفافة تمثل الجميع وتطوير خطاب سياسي يعترف بالتنوع ويؤسس للتماسك الوطني لا للتفكك المنفعي.
وفي المقابل تقف ساحة النخبة الصامتة سواء في الداخل أو الخارج في المنتصف تبحث عمن يبحث عنها ويقدمها للسلطة فهي في عبثية الأقدام والتردد لا تتحرك بإرادة حرة ، وإنما لديها حسابات الربح والخسارة لا حسابات الواقع والضرورة، وهذه هي الأخرى جزء من هذا الواقع المأزوم وأحد لبناته
ووقوفها في المنتصف لا يعني توازنا نبيلا بل محاولة إرضاء الجميع في آن واحد، إنها العقلية السفسطائية التي يتساوى في منطقها الحق والباطل بالأدلة الملتوية وبراهينها المتكيفة، لأن التردد في لحظة الوعي تخل عن القيم والمبادئ الكلية و هو أزمة نفسية وأخلاقية وقيمية وقديما قال الإمام الشافعي: “رضا الناس غاية لا تدرك فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمها” وقال الفاروق عمر: “لا خير في قوم ليسوا بناصحين ولا خير في قوم لا يحبون الناصحين”.
إن التردد ليس حيادا وإنما هي مراوغة تختبئ خلف الأقنعة كما قال ديكارت: “الشك لا يعني التوقف عن التفكير وإنما هو بداية للبحث عن اليقين” لكن التردد هنا ليس شك الباحث المستنير بل خوف التاجر
التي تحولت معه المواقف إلى بورصة يباع فيها المبادئ ويشترى بالصمت المتأرجح بأصوات لا تكاد لا تلامس شفاه قائلها.
وهنا نحتاج إلى إعادة النظر بعمق في حقيقة الشعب المتغير، الشعب الذي يبحث عن قيادة تمثله لا تستغله وقيادة تكرمه لا تذله وقيادة ترفعه لا تضعه وقيادة تحفظ له إنسانيته لا توظفه باسم الأيديولوجيا أو العقيدة أو الأمن والوطن، كل تلك الشعارات التي يستهلكها العوام كلمات لا تحرك واقعهم الى الأحسن.
قال الإمام علي “رض “من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء الظن به” ونقول: من رضي لنفسه الذل فلا يلومن من استعبده ومن باع حريته فلا يطلب من شاريها كرامته.
إن إشكالية دول الأزمات لم تكن فقط في النخب التي تحكم أو التي تعارض بل في شعوب ورثت الأزمة أو صنعتها من أزمة الفرد النفسية فهي أزمة عبثية متراكبة أنتجت أفرادا لا يتحركون إلا بحساب المصلحة لا الواجب، فسقطت الكرامة من أول اختبار وانهارت المكانة من أول مساومة، ويا لها من مساومة رخيصة حينما أكون حاكما متخما لشعوب مسغبة، وحاكما آمنا لشعوب خائفة، وحاكما سالما لشعوب منهكة.
لقد بين فلاسفة الأخلاق مثل كانط أن الفعل الأخلاقي هو ما ينبع من الواجب لا من المنفعة وقال: سقراط “الفضيلة لا تقاس بما تكسب ولكن بما تتخلى عنه في سبيل الحق”، لكننا اليوم أمام مشهد تتراجع فيه المبادئ أمام فتات المصالح فيصبح الوطن مشروع مقاولة لجهويات تتقاسم المصالح فيما فينها من خلال صراعات القوة لضمان استمرار الصراع كوقود لتدفق المصالح الخاصة، لا رسالة تقدمها للمصلحة العامة أو للمواطنة أو اقل شيء للتعبير عن القيم الدينية والإنسانية.
في عالمنا العربي المعاصر تحول الدين إلى وسيلة إثبات ذات شخصية استعلائية لا طريقة للخلاص،
حيث تجتزأ الآيات من سياقها لتبرير التوحش والعنف تحت شعارات المقدس والمقاومة والوطنية،
وتلوى النصوص لتسويغ الاستبداد أو التمرد بحسب الأمزجة لا المبادئ، قال الله تعالى: “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار” وفي الحديث “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب” لكن الشعوب اليوم صارت ترى الظالم وتصفق له إن خدم طائفتها، وترى القاتل وتبرر له إن ناصر حزبها، وترى الجلاد وتدعوه بطلا إن قمع خصومها، إننا أمام انهيار في البوصلة الأخلاقية حيث اختلطت مفاهيم العدل والانتقام والتدين والانفلات والحرية والفوضى، ولهذا فإن إصلاح الأوطان لا يبدأ من أعلى فحسب، وإنما يبدأ من إصلاح النفس أولا، ومن من تحرير العقل من الخوف والضمير من التسويف والسلوك من التلون
وختاما قال ابن خلدون: “إذا رأيت الناس تكثر التهاني في المآتم، وتكثر التعازي في الأعراس فاعلم أن الأمة تلفظ أنفاسها” فعلينا أن نحيي وعينا قبل أن ندفن أوطاننا وأن نراجع أخلاقنا قبل أن نطالب غيرنا بالمحاسبة وأن نكون كما قال الشاعر:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا
ندمت على التفريط في زمن البذر