ترامب واستراتيجية النظام الأوليغاركي: قراءة في الديناميات السياسية الأمريكية
ترامب واستراتيجية النظام الأوليغاركي: قراءة في الديناميات السياسية الأمريكية
د. جمال الهاشمي
منذ نهاية الحرب الباردة وتآكل النظام الدولي القائم عادت الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب الثانية لتختبر حدود القوة والردع والمصالح الحيوية بأسلوب يتجاوز الدبلوماسية التقليدية نحو صفقات مباشرة ومفاجآت جيوسياسية و هذه ليست عودة أميركا مجددا بقدر ما هي محاول لإعادة تعريف موقعها بوصفها قطبا مفاوضا أكثر من كونها قائدا عالميا.
ومن أهم السمات البارزة لسياسة ترامب تقليص التزامات واشنطن داخل المؤسسات متعددة الأطراف و هذا الانسحاب لا يعني انعزالا بالمعنى الصحيح بل هو تعبير عن رؤية جديدة ترى أن القواعد العالمية لم تعد تخدم المصالح الاستراتيجية الصافية للولايات المتحدة لا سيما في ظل اختلال ميزان العوائد والتكاليف.
كما أن الانسحاب من بعض المعاهدات وتجميد المساعدات الخارجية وإعادة التفاوض على التحالفات ليست سوى أدوات جديدة لإعادة تهيئة المسرح الدولي على قاعدة “السيادة مقابل الشراكة”.
و من هذا المنظور، تعمل واشنطن على فرض شروط جديدة للمشاركة فلا التزام بدون مردود أمني أو اقتصادي واضح، وهذه الآليات تعكس خطوط التواصل السياسي بين ترامب وقادة العالم.
إن المكالمة الهاتفية بين ترامب وبوتين والتي أفضت إلى تليين الموقف الأمريكي و وقف إطلاق النار في أوكرانيا يمثل تحولا من منطق الردع إلى منطق المقايضة وما تسعى إليه واشنطن هنا ليس نصرا لكييف بل توازنا قابلا للاستدامة يكبح تمدد روسيا دون أن يورط أمريكا في صراع مفتوح، وترامب هنا لا يرى في أوكرانيا ساحة اختبار للمصداقية الأمريكية وإنما كساحة مساومة ضمن ملفات أوسع تشمل أمن الطاقة وأوروبا الشرقية ومصير الناتو نفسه.
أما في الإقليم الأكثر اضطرابا في العالم نجد أن إدارة ترامب تتبنى استراتيجية التهدئة المشروطة كالحوار مع الحوثيين القنوات الخلفية مع طهران، والتفاهمات الاقتصادية مع دول الخليج، تشكل كلها أدوات ضغط ناعمة تهدف إلى إنتاج “سلام صامت” منخفض التكاليف لكنه عالي التأثير في ضبط الجبهات.
هذا النمط من الإدارة للأزمات وإن بدا فعالا في المدى القريب إلا أنه يفتقر إلى بنية مؤسسية مستدامة تضمن ألا تنفجر التناقضات لاحقا وهنا يتجلى نمط الاستقرار المؤقت إن لم يرتكز إلى توازن قوى دائم.
إن تراجع الدعم لإسرائيل والهند والمجر يكشف عن فلسفة استراتيجية مفادها أن التحالفات ليست عقودا أبدية بل شراكات قابلة للمراجعة و ما يهم واشنطن اليوم ليس تقارب القيم بل تشابك المصالح، بهذا المعنى يضع ترامب حلفاءه أمام معادلة جديدة: إما أن تدفعوا وتلتزموا بالمصالح المشتركة أو أن تتوقعوا فك الارتباط.
فهل يمكن أن نرى في سياسات ترامب نواة عقيدة كبرى من منظور استراتيجي بحت؟ ومن هنا نجد عقيدة إعادة التفاوض الدائم على القوة والنفوذ القائمة على ثلاث قواعد:
– الردع عبر الغموض لا عبر الالتزام الصريح.
– الهيمنة عبر النفوذ الاقتصادي والسياسي لا عبر الاحتلال أو نشر القوات.
– السلام ليس غاية بل أداة إدارة للمجال الاستراتيجي.
بمعنى آخر السلام عند ترامب ليس اتفاقا يعول عليها على المدى البعيد وإنما هي لحظة توازن مؤقتة تستخدم كرافعة سياسية قبل أن تتغير المعادلة.
وقد شهدت الولايات المتحدة خلال فترة رئاسة دونالد ترامب الأولى تحولات سياسية واجتماعية كبيرة، أثارت جدلا واسعا حول طبيعة النظام السياسي الأمريكي والهيمنة التي تمارسها النخبة الحاكمة أو ما يعرف بـ”النظام الأوليغاركي” و هذا المفهوم يشير إلى تركز السلطة والثروة في يد قلة من النخبة الاقتصادية والسياسية التي تمارس تأثيرا كبيرا على السياسات العامة وتتخطى أحيانا الإرادة الشعبية.
وفي هذا السياق يمكن قراءة صعود ترامب كجزء من استراتيجية معقدة للنظام الأوليغاركي ذاته، فقد استغل ترامب- رغم مواقفه الشعبوية الظاهرة- حالة الاستياء والاحتقان بين قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي نتيجة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي ليرسم نفسه كمرشح خارجي على النظام التقليدي، لكنه في الواقع وبحسب تحليلات عدة لم يكن معارضا حقيقياً للنظام بل جاء ليعيد إنتاج وتكريس قواعد اللعبة السياسية على نحو جديد.
وتتخذ استراتيجية النظام الأوليغاركي مع ترامب شكل التوافق الظاهري مع خطاب الشعبوية لتفكيك التحالفات السياسية التقليدية وإعادة تشكيلها بما يخدم مصالح النخبة
وفي السياسة الاقتصادية تبني سياسات ضريبية تخدم كبار الأغنياء والشركات الكبرى في حين استخدمت سياسات أخرى لتعزيز التفرقة الاجتماعية والثقافية التي تشتت المعارضة الشعبية، كما أن النظام الأوليغاركي استفاد من شخصية ترامب المثيرة للجدل لخلق انقسامات داخل الأحزاب السياسية وبين المؤسسات مما أعاق أي حركة فعالة لإعادة التوازن السياسي.
علاوة على ذلك يمكن اعتبار ترامب أداة في استراتيجيات النظام الأوليغاركي لتعزيز الهيمنة في الساحة الدولية، من خلال تحركاته الأحادية الجانب والانكفاء عن بعض الاتفاقيات الدولية مما أتاح إعادة ترتيب تحالفات استراتيجية تخدم مصالح النخب الاقتصادية والسياسية في الداخل والخارج.
وبالتالي فإن تجربة ترامب ليست سوى انعكاس لتكتيكات النظام الأوليغاركي في الولايات المتحدة لإعادة إنتاج ذاته وسط تحديات داخلية وخارجية، ومن هذا المنطلق فإن فهم العلاقة بين ترامب والنظام الأوليغاركي يساعد على تفسير العديد من الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها أمريكا في العقد الأخير ويوضح كيف يمكن للنخبة الحاكمة أن تستغل ظواهر شعبوية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
إن نظام الأوليغاركية ليس مفهوم نظري يعاد الحديث عنه منفصلا عن الواقع بل هو تجليات واضحة عبر التاريخ المعاصر حيث لعبت دورا محوريا في إضعاف الدول وتفكيك مؤسساتها لنأخذ على سبيل المثال روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حيث صعدت طبقة أوليغارشية جديدة تركزت في أيدي مجموعة صغيرة من رجال الأعمال الذين استغلوا الخصخصة السريعة والفوضى السياسية لامتلاك القطاعات الاقتصادية الكبرى.
هؤلاء الأوليغاركيون سيطروا على موارد الطاقة والتعدين والاتصالات وحكموا من خلف الكواليس ما أدى إلى تفاقم الفساد وتراجع مؤسسات الدولة وزيادة الفجوات الاجتماعية، وهذا تسبب في هشاشة النظام السياسي واحتدام الصراعات على النفوذ بين الأوليغاركيين أنفسهم وتدخل الدولة لتوازن بينهم أو تدعيم نفوذ رأس واحد منهم.