ترامب بين وطنية هتلر واستراتيجية قسطنطين وبرجوازية العنف الناعم: تأمل في السلطة والهوية
ترامب بين وطنية هتلر واستراتيجية قسطنطين وبرجوازية العنف الناعم: تأمل في السلطة والهوية
د. جمال الهاشمي
تبدأ إشكالية الإنسان في قلب الدولة الحديثة وذلك عندما تتصارع الذاتية والإنسانية في الإنسان، وفي هذه اللحظة تستيقظ الدولة للخروج من صراع الأزمة بين الإنسان وذاته وتبدأ الدولة بالتفسخ ويصبح الشعب مادة خامة للخطب السياسية والقومية والدينية، فالتاريخ يتجلى فيه العقل من خلال صيرورات متناقضة وما الدولة إلا ذلك الوحش الضروري الذي يكبح جموح الطبيعة البشرية.
في هذا المقال لن ننظر إلى دونالد ترامب كشخص وإنما كحالة من العاطفة الفكرية وكتمظهر جدلي لقوى ثلاثة: الشعبوية، الدين، والقومية، الثروة في إطار المقارنة بين عدة جدليات فكرية أو شخصية تبنت فكرا ونهجت عليها في إدارتها للدولة.
أحيانا كثيرة تكون الوطنية والقومية وحتى الجهوية أقنعة لإدارة الفوضى، وهنا نجد أن هتلر الذي يلقى قبولا كبيرا لدى الشعوب الضعيفة لم يكن وطنيا بقدر ما كان ناطقا باسم خيال ألماني جريح أرهقته الحرب العالمية الثانية وقيودها، وجمعت هذه الهزيمة مظالم الجماعة في لسان واحد “كفاحي”.
أما ترامب فقد جاء في لحظة لم تكن فيها أمريكا جريحة بل قلقة وهذا القلق من الآخر وقلق من التغيير و من العالم الذي يزحف على حدودها دون استئذان.
وهنا تبدأ جدلية الفوضى والنظام كما يصورها هوبز؛ فالشعب دون سلطة يتحول إلى خطر مدمر على نفسه.
والمفارقة أن ترامب لم يأت ليؤسس سلطة “ليفياثان” وإنما جاء ليضرب بها مستخدما خطابا قوميا يعيد إنتاج الفوضى باسم النظام و هنا تتقاطع طريقه مع هتلر في البنية وليس في النتائج، حيث تمكن من أن يجعل الشعب معيارا للحقيقة، والآخر ممثلا في ثلاثية الخطاب؛ المهاجر، الإعلام، النخبة كل هولاء يهددون الدولة الأمريكية القومية القوية، وهنا تتركز قدرته الشعبوية على تجييش عاطفة العامة للدفاع عن مصالح نخبة أخرى تعيد تشكيل ملامح الدولة الأمريكية من خلال ثلاثية النفوذ المال والقوة والشرعية.
ومن جهة أخرى برزت لديه عبقرية التقديس والدين كآلة سياسية، وهنا يأتي في الذكرة قسطنطين الذي لم يسلم قلبه للمسيح وإنما سلم إمبراطوريته لمنطق الدين باعتباره اللغة الوحيدة القادرة على اختراق أعماق الناس دون سلاح وذلك عندما أدرك أن روما لم تعد تحكم بالسيف والقوة والآلة العسكرية، وأن الشعب تحركه قوة خفية، لقد تغير من داخله ولم يعد بإمكان القوة أن تعيد إنتاجه بالعنف وإنما بالرمز فصنع من المسيحية خطاب دولة أعاد فيها إنتاج الدولة بالفكر الديني وتحول من بالدين من شخصية معادية للفكر وللتحرر إلى شخصية مقدسة وعبودية جديدة ليست بالسوط وإنما بالإيمان الذي صنعه تحت شرعية المسيح لا الإيمان الحقيقي الذي قدمه المسيح.
وهنا يأتي ترامب في صورة قسطنطين آخر عندما حمل الإنجيل أمام كنيسة مدمرة حينها لم يكن يصلي مقبلا بقلبه الروماني على الكنيسة، وإنما كان يوقع عقدا مع قاعدته تحت شعار “أنا حامي إيمانكم فاحموني”.
إن المسألة لم تكن دينية وإنما هي استراتيجية متجددة لتأليه الذات، وأن الدين هنا ليس مقصدا بقدر ما هو وسيلة لضمان الطاعة المطلقة، الطاعة التي لا تمر عبر العقل وإنما عبر الإيمان.
وبهذه اللحظة الاستراتيجية يدخل ترامب في نفس الدائرة التي دخلها قسطنطين؛ مفهوم الدولة كجسد والدين كروح لها، ليست الروح التي يسكنها الإيمان وإنما الروح التي تتخذه وسيلة للحكم.
وفق لنظرية هيجل فإن هذه الحالة تأتي عندما تتوقف التناقضات عن إنتاج الوعي لأن الجدلية تعد من أهم مظاهر الوعي الإنساني وقد أكد عليها القرآن الكريم “وكان الإنسان أكثر شيء جدلا” هذه الجدلية تعالج الانسجام المدمر للعقل بواسطة الايمان، لأن الايمان الذين لا يحركه السؤال يتحول إلى قطيعة بين العقل والدين وبذلك فساد الدين بالدين، والله تعالى يقول: “ويسئلونك” فالتساؤل قيمة في الدين ومن مظاهر العقل وبدونه يتحول الدين إلى عقيدة السيف لا دعوة للعقل ولا مزية عندها للرحمة، وبهذه الآلية تبدأ في إنتاج الانقسام و ينهار التاريخ أو يتحول على جدليات بقائه.
وترامب كظاهرة لا يحرك الوعي بل يعمق الانقسام وكل خطاب يطلقه ليس لحل التناقض بل لاستثماره.
على سبيل المقاربة المنهجية وجدنا أن الانقسام في زمن هتلر كان الانقسام مميتا و الدين في زمن قسطنطين كان حلا اصطناعيا، أما مع ترامب فإن فالانقسام هو مادة بقائه، وهنا تفقد الدولة عقلها وتعود إلى ما قبل “الليفياثان” أو إلى حرب الجميع ضد الجميع لكن بلغة ديمقراطية.
إن ترامب ليس قسطنطين ولا هتلر لكنه استفاد من أدوات كليهما؛ سلاح القومية وسحر الدين وهو بهذا يكشف هشاشة الدولة الحديثة عندما تستسلم للشعارات بديلا عن العقل وللشعبوية بديلا عن القانون.
يرى هيجل أن الدولة هي العقل التي تعيد جدلية التاريخ والفكر والرؤى، بينما يرى هوبز أن الدولة هي الوحش الذي يمنعنا من أن نفترس بعضنا، لكننا و مع ترامب نشهد حالة ثالثة حيث تحولت الدولة إلى مسرح والشعب إلى جمهور والحقيقة إلى عرض انتخابي دائم، ومع هذا لم تتطور الدولة الأمريكية بعد لتتحول إلى دولة عربية معاصرة، الدولة التي هي نموذج جديد لم ينتجها التاريخ أو الواقع أو العقل أو حتى الإيمان.
وهنا تكمن الخطورة حينما تتحول أدوات السلطة إلى استعراض يغيب المعنى الحقيقي لمفهوم الدولة ودورها ويدخل التاريخ في نفق التكرار لا التطور؛ فهل يؤسس ترامب لجدلية معادية للحرية لا سيما وأنه لا يختار من الإعلام إلا من يقدس شخصيته القومية والإيمانية، أم أنه ظاهرة عابرة في تاريخ العقل؟
ويبدو ترامب عدوا للمؤسسة الأمريكية ولكنه في الجوهر ابنها الشرعي، و لقد خرج من رحم الرأسمالية الأمريكية المتوحشة لا ليقاومها بل ليعيد إنتاجها بلغة الغضب؛ فالرجل لا يقترح عدالة اقتصادية بل يعد العالم والحلفاء والأعداء بإمبراطورية أكثر شراسة كما أنه لا يدعو إلى تقويض البرجوازية وإنما إلى منحها درعا قوميا مقدسا.
إنه في الحقيقة لا يرفض النظام بل يريد إعادة تشكيله كي يصبح أداة للحرب الاقتصادية، من هنا نفهم دعواته المتكررة إلى فرض الرسوم الجمركية و خنق الصين وتوجيه الشركات وتشجيع التصنيع الوطني وهذه ليست هذه وطنية اقتصادية بقدر ما هي عودة إلى أحد أنماط الاقتصاد الحربي ليس عبر الجيوش وإنما عبر السلع و الدولار والقيود المالية.
وفي عهده تتحول الدولة إلى ما يمكن تسميته بـ الليفياثان الاقتصادي ككيان يستخدم أدوات السوق لتدمير الخصوم داخليا وخارجيا، هذا هو الاستعمار الناعم الذي لا يعلن عن نفسه، ولا يرفع راية بل يترك البنوك تفعل ما كانت الجيوش تفعله؛ فالعقوبات اليوم صارت حصارا أكثر إحكاما من أي غزو مسلح.
وترامب بخلاف الاستعمار الكلاسيكي لا يصدر عن إمبريالية خارجية فقط وإنما يمارس استعمارا داخليا فأمريكا أولاً تعني في حقيقتها الشركات أولا وأن السوق أولا والمواطن رقما في معادلة الاستهلاك.
وهنا تظهر البرجوازية الأمريكية على حقيقتها فلا تحتاج إلى مستعمرات خارجية طالما أن شعبها يمكن تحويله إلى مستهلك أبدي أو عامل خائف أو ناخب مغشوش.
ولأن الطبقة البرجوازية لا تعمل بالعنف المباشر بل بالتطبيع ، وفي هذا السياق يصبح ترامب تجسيدا حيا لها؛ فظ في خطابه و ناعم في سياساته تجاه رؤوس الأموال، و عدواني في الخارج و لكنه في الداخل يضمن استمرار الامتيازات الطبقية تحت غطاء الشعبوية.
في الختام، يمكننا القول إن ترامب ليس هو بين هتلر وقسطنطين فحسب وإنما هو كذلك بين ماركس وهوبز ، هو نتاج لبرجوازية خائفة تبحث عن مخلص ولسوق تريد أن تهيمن على أمريكا بوسائل ناعمة. لقد مزج بين القومية و الدين والرأسمالية العسكرية ليخلق نسخة هجينة من الاستبداد الديمقراطي.
وهنا تصبح الدولة الحديثة في شكلها الترامبي بدون عقل هيغلي ولا ليفياثان هوبزي ولا حتى آلة ماركسية للاستغلال، بل مسرحا يدار من خلفه اقتصاد حربي ناعم يحكمه الرمز والدولار والاحتكار.