المشاريع الحضارية بين عالم الأشخاص وعالم الأفكار
المشاريع الحضارية بين عالم الأشخاص وعالم الأفكار
د. جمال الهاشمي
منذ أن بدأ الأنسان رحلته في التاريخ ظل يعيش بين عالمين عالم الأشخاص وعالم الأفكار فالأشخاص بما يحملونه من قوة الجاذبية والإلهام هم المحرك المباشر للأحداث لكن الأفكار بما تختزنه من طاقة روحي وعقلية هي التي تمنح للحضارة بعدها التاريخي الممتد، وإذا اردنا أن نفهم سر صعود الأمم أو سقوطها فعلينا أن نبحث في العلاقة الجدلية بين هذين العالمين
كثيرا ما انجذبت المجتمعات الهامشية- العيية – إلى سحر الأشخاص فهي تجد في الزعيم أو القائد اختصارا لكل طموحاتها وكأن التاريخ كله يمكن أن يولد من إرادة فرد واحد، هذه الذهنية تعكس حالة قصور حضاري- ثقافي- أخلاقي، إذ لا ترى الجماعة المشروع الحضاري إلا في شخص فإذا غاب سقط المشروع وهنا يتجلى الفراغ الذي يخلفه غياب الشخص لأنه لم يترك وراءه مؤسسات ولا فكرة تستمر في حياة الناس.
أما الحضارات التي صنعت مجدها فهي التي نجحت في تحويل الشرارة الأولى من شخص كان أو حادثة إلى فكرة والفكرة لا تموت لأنها لا ترتبط بعمر فرد بل تغتذي من الوجدان الجمعي وتتجسد في الثقافة والمؤسسات.
إن الفكرة هي التي تملك القدرة على تحويل مجتمع راكد إلى مجتمع فاعل وعلى تحويل الطاقة الخام إلى طاقة حضارية ولذلك فإن القيمة الحقيقية للحضارات لا تقاس بما تملكه من رموز شخصية فقط وإنما بما تملكه من أفكار قادرة على البقاء والانتقال من جيل إلى جيل.
إننا لا نستطيع أن نفصل الأشخاص عن الأفكار فصلا تاما؛ فالأشخاص هم الذين يجسدون الفكرة، وهم الذين يولدونها، ومن يولدها يكن قادرا على تطبيقها وإن بدت مستحيلة في نظر المتلقي، ومن عنا يشع نور الفكرة بعد أول إحداث لها على الواقع من مولدها لا من ناقلها، ولذلك كان النبي “ص” بالقرآن مفكرا وبه متجسدا ومتقيا ومعلما ومرشدا، ومات “ص” ولكنه أسس مدارس متنقلة، كل صحابي كان مشروعا للقرآن، وبهم تشكلت المدارس الفقهية المدنية الحاضنة للسياسة والتعبئة الاجتماعية والقوى العسكرية.
هنا كانت الفكرة تتوالد من أسس بنيوية جسدها الإنسان قرآنا أو بفهمه للقرآن من خلال سياقات الواقع والمجتمع والإرادة، وبالعقل وحده تأسست الوسائل وبالقرآن كان الضبط المنهجي لسلوك الفرد والمجتمع والأمة والعامة.
لكن الفارق بين الشخص والفكر في أن الشخص يزول بينما تبقى الفكرة إن وجدت من يحتضنها ويحولها إلى شيء قائم في مؤسسات وعلاقات اجتماعية ودولة وحضارة، وهنا يتجلى المركب الحضاري الذي يتشكل من إنسان وفكرة وتراب على حد تعبير المفكر الحضاري مالك بن نبي، فإذا غاب أحد هذه العناصر تعطل المشروع وانحرف مساره، وفي اعتقادي أن هذه العلاقة هي علاقة التأسيس الحضاري المادي انطلاقا من مادية العقل الحضاري الغربي وهذا لا يمكن تأسيسه في العالم العربي ما يتولد النموذج، ومن هنا كان النموذج القيمي مؤسسا للنموذج الإنساني والأخلاقي ومن ثم يبنى عليه التأسيس الحضاري.
إن العقدة العربية كما يراها المفكر طارق أوبرو رئيس المعهد الفرنسي للدراسات تكمن في التخلف الحضاري العربي وهي عقدة حضارية، وقد كتب المفكر سيف الدين عبد الفتاح عن محورين أساسين لتلافي لمقاربة تفعيل النموذج ، من خلال تركيزه على منظومة القيم في كتابه القيم وحاول خلق مؤشرات فوقية لتأسيس هذا النموذج في عالم المثل، ومن ثم سعى لتوسيع هذه الفكرة من خلال مفهوم الرابطة الإيمانية حيث كان يؤسس لتفعيل القيم تفعيلا إيمانيا لأن الخلل القائم هو بين الأشخاص، حيث تؤدي القوارض الاجتماعية الى تفكيك الترابط الإيمانية ومن ثم تتعطل القيم.
وهذه الأفكار على أهميتها دفعتني للعمل على تأليف كتاب تحت عنوان “النموذج” الذي انشغلت به وانشغلت عنه معا، وتطاول علي العهد حتى أكاد أنساه ثم أعود له على ثقل.
ولعل انشغالي في خدمة الأشخاص والبحوث ومقاسمة الناس في وقتي من أكثر المعوقات التي أقصتني عنه، والبحث يحتاج ذهنا صافيا متفرغا له، وقد صدق الشافعي لو كلفني أهلي شراء بصلة ما حفظت مسألة.
مأساتنا إننا نعيش في زمن الأشخاص أكثر مما نعيش في زمن الأفكار وكلما ظهر قائد علقنا آمالنا كلها عليه دون أن نسأل ماذا بعد، وحينما يرحل نعود إلى نقطة الصفر، وقد اتخذ من أرادة الناس مطية لفشله أو لنفسه، ذلك لأننا لم نعرف كيف نؤسس عالما للأفكار يتجاوز اللحظة الانفعالية.
إن مشروعا لا ينبت في تربة الأفكار ولا يوسع مداركه الواقع ولا يوقده العقل الفاعل يظل حدث عابر في مسرح الخطاب، وحطاما تافه في ساحات التاريخ لأنه قد يثير الحماس زمنا لكنه لا يترك أثرا مستداما في واقع الأمة
لقد علمنا التاريخ أن الأفكار تتولد عن قيم مرجعية دينية وإنسانية وواقعية وثقافية ومجتمعية إذا اكتملت تشكلت بنيتها في تأسيس البناء وإذا تحقق فيها ذلك وهذا يحتاج زمنا لأنه الأساس تحولت إلى مؤسسات تصنع الأشخاص وتوجههم من خلال المؤسسات الحيوية وليست الهيكلية التي تتأزم بها دولنا العربية.
مؤسسات التعليم وتزيدنا تخلفا، مؤسساتنا العسكرية وتزيدنا تأزما، مؤسساتنا الاقتصادية وتزيدنا فقرا، مؤسساتنا الثقافية وتزيدنا جهالة، مؤسساتنا القيمية وتزيدنا اندراسا، مؤسساتنا الأخلاقية وتزيدنا انحطاطا، ثم ننقسم بين نخبة ترى الدين تخلفا والبعض يرى في العرق العربي ذلك التخلف فهو تخلف جيني، والبعض يراها تخلفا أخلاقيا لأن الدين لا يمكن أن يتأسس على مجتمعات الفضائل كما كان ذلك مهيأ له في مكة المكرمة الذين تصدروا العرب خلقا وقيما وحكمة ومروءة.
ولكل فريق ما أدلته ، لكن أدلته مؤسسة على الشعور النفسي التي تولد مشاعر مشتركة فيكون لها أنصار نظرا لأن مشاعر الجمع عبر عنه الفرد ليتصدر المشهد فيكون بذلك مفكرا ليس بفكره وإنما بقبول من يقاسمهم الفكرة الشعورية التي يعتقد أنها منهجية.
دعونا نركز على المنهجية فهي المحطة الأولى لفهم ما نقدمه للعالم، والإنسان لا يكون مكتملا بعقله وإنما بالمنهجية التي توطن نفسه وتجردها من الأحكام المسبقة والقناعات المتعصبة والادعاءات المطلقة والجماهير المصفقة.
إننا اذا بقينا ننتظر الشخص لكي يصنع الفكرة فإننا سنبقى في دائرة الانتظار الطويلة التي عاشتها أمم كثيرة بعد سقوطها، لأن الإشكالية تكمن في علاقتنا مع الأشخاص، تمجيد الشخص حتى يخرج من بشريته إلى شيطانه وإنسانيته إلى طينته، ومن قيمه إلى نفسيته.
وإذا قارنا بيننا وبين عوالم تهالكت بالأشخاص سنجد فرعون واحدا دمر حضارة وأمة وفينا فراعنة كثر حتى أننا قد نجد في كل بين فرعون صغير، وكان فيه قارون وفينا من مثله كثير وفيهم صاحب آيات ولو احصينا أمثاله لأدركنا أنه قد يكون في كل مجتمع ثلثه وثلثيه ونصفه..
إن بناء مشروع حضاري لا يتم بظهور رجل ملهم، ويعتقد أنه قادر على أن يحرك مجرى التاريخ وبناء الدولة واستعادة الأمة وحده لأن اعتقاده بنفسة بهذه الطريقة يعني وجود علة نفسية مستدامة لا يمكن التخلص منها أبدا، وما من نبي إلا وكان له منعة من قومه وأنصارا، والله يقول: “محمد رسول الله والذين آمنوا معه” هذه الآية تعكس وجود نموذجا حيا حيويا في المجتمع في شخصية النبوة، ونموذجا مجتمعيا حيا متجسدا في مجتمع الصحبة.
فلا وجود للأشخاص إلا بوجود بيئة فكرية خصبة تستوعب الهداية الأولى وتترجمها في الواقع اليومي للناس في مدارسهم وأسواقهم ومصانعهم ومؤسساتهم؛ عندئذ يصبح القائد حلقة في سلسلة لا تنقطع برحيله .. لا أن يكون محورا يدور حوله كل شيء
الحضارة ليس أن نملك زعيما عظيما وإنما أن نملك فكرة عظيمة تصبح روحا عامة في جسد الأمة وحينئذ يتكامل عالم الأشخاص مع عالم الأفكار في خلق النماذج واستعادة التجديد وصناعة التاريخ وبناء الأمة والدولة، فكرة لا تموت ولا تنهار برحيل الأفراد ولا تذبل مع تقلب الظروف بهذا النموذج يظل المجتمع قادرا على التجدد والنمو والامتداد
إن الشخص الذي لا تتجسد فيه خلق النبوة والمجتمع الذي لا يكون شبيها بمكة لا يمكن أن يغير في التاريخ لأن أساس تغيير المجتمع يبدأ بالنموذج الأخلاقي “الصادق الأمين” في مجتمع الصدق والأمانة إنه محمد النموذج ومكة والمدينة مجتمعات النموذج وبيئاتها الحاضنة للفكرة الإلهية البنوية التي بدورها أسست لبنية حضارية تنويرية عالمية وإنسانية.
الفكرة الإسلامية هي الفكرة التي لا يتحقق بغيرها أي قيمة حضارية في منطقة الشرق الأوسط تحديدا لأن لمجتمع الشرق الأوسط خصوصية مختلفة عن بقية مجتمعات العالم، فإما إسلام تنويري إنساني عالمي يجدد حياة هذه الأمة ولا بديل له إلا الفوضى والصراع والتهالك حتى يتفانى الجميع.
وأوجه رسالة أخرى لأولئك الذين يرون أن القيم الغربية قادرة على ابتعاث التقدم الحضاري في منطقة الشرق الأوسط، إن منطقة الشرق الأوسط منطقة خاصة بابتعاث الأنبياء ولا قيما لأي دولة عادلة إلا بقيمة دينية بما في ذلك دولة إسرائيل بينما بقية العالم يمكن أن يؤسس بالدين أو بالفكر التاريخي الإنساني ولعل المتابع لتاريخ الشرق الأوسط سيدرك أنه لا دولة بدون قيم دينية أثمرت حضارة والحضارة ليست هي الدولة.