الكذب الأكاديمي بين المأسسة  والقيم المنهجية

0 20

 

الكذب الأكاديمي بين المأسسة و القيم المنهجية

د. جمال الهاشمي 

من المفارقات العجيبة أن أكثر البيئات التي يفترض فيها النزاهة أصبحت  مرتعا لما يمكن تسميته بالكذب المنهجي ، فتحن لا نتحدث هنا عن الخطأ العلمي أو الاجتهاد المتعثر بل عن زيف منظم يتستر بادعاءات الموضوعية أو خلف منهجية ظاهرها الانضباط وباطنها الإقصاء والأدلجة والانغلاق.

الكذب الأكاديمي كالكذب على المنابر ليس حالة فردية في عالمنا الذي ينشد التغيير والتجديد بل بنية معرفية تتسلل في صياغة البحوث وفي تمرير الترقيات وفي تعطيل القدرات وفي الاستعراضات،  وفي إنتاج المعرفة المؤدلجة باسم العلم

في هذا الزمن الرديء بكل مستوياته ومؤسساته ومقاييسه ومعاييره  يتداول مصطلح الإطار النظري بوصفه مقدسا لا يمكن نقده أو تغييره إلا إذا تغير في العالم المتقدم، هنا، يكمن العطل المنهجي في ذاتية الأكاديمي نفسيا وفكريا، وتتعطل معه عقلية النقد، وتتسع بيئات العبودية، وقد ميز استاذنا الدكتور سيف الدين بين قلمين؛ قلم عبد ينتج نصا عبدا، وقلم حر ينتج نصا حرا، فكيف يكون الأكاديمي العربي حرا وهو مقيد بقوالب وضعته له لم يتحرر منها، وكيف يمكن لمؤسسة عبدة أن تمارس صناعة العبيد دون تحرير العقل الأكاديمي الذي تحرر بالنص القرآني  عقلا وتدبرا وتأملا ونظرا.

إن ما يكتب تحت هذا العنوان كثيرا ما يكون استعراضا اقتباسيا يخفي وراءه خواء تحليليا ومنطقيا، فهو أشبه بحبل يقتاد به إلى صنمية  فكرية لا تتغير أبدا، لقد وجدنا كثير المبرزين في كتاباتهم  يكتبون بحسب قوالب مستوفدة تجاوزها مؤسسوها بينما حتى أولئك الذين قلدوها غير قادرين على تقليد التجاوز لأن إشكالية تعطيل العقل تحول إلى عطل دائم.

الطالب أو الباحث يملأ الصفحات بمقولات جاهزة من فوكو أو بورديو أو صموئيل  دون أن ينتج علاقة حية بين الفكرة والواقع  أو بين وجوده وواقعه، وهذا التزييف لا يصدر عن جهل  لأنه يعالج بالسؤول والبحث وإنما عن رغبة في النقل والتقليد وبناء الحكم عليه، لهذا نجد التهافت الأكاديمي على مناهج مونتسري  وتقليد نماذج التعليم الغربية وفتح أبواب اللغات ومع كل انفتاح على التقدم نزداد تخلفا وعجزا وانحدارا عقليا بينما تنمو ثقافة السخف والترف والمجون والمظاهر.

التقليد الأعمى هو تقليد المظاهر بعيدا عن العمق، لأن حافزية القيم مهدورة ووجودها معدوم وهو ما حول المنهجية من أداة للبحث والتجديد وتغيير الذات والواقع إلى أداة ايدلوجية للدفاع  الأعمى وتزييف القيم وادعاء الحقائق، لذا فإنها جاهزة  حتى أن الباحث يجبر في المؤسسات على اختيار مصادر البحث التي تتناسب مع مسارات الأيدلوجية، وإن خرج عن المسار وبارزها بالنقد تعرض للمساءلة وربما إغلاق مستقبله إلى الأبد.

إن التحرر من القيود المؤسسية ووهم المنهجية انتج لنا الباحث المتلصص، والباحث الانتقائي والباحث المنقاد، وبهذه المخرجات تعطلت التنمية النفسية والاجتماعية والأخلاقية والمعرفية والمادية، وتعطلت وظائف الإعلام والعدل والسياسة وتعطلت مع ذلك كله الأسرة والقيم الدينية والأصالة ، كل ذلك في فترة المعاصرة.

التحكيم العلمي يقوم على أساسين؛ المبالغ المالية، أو الانتماء الأيدلوجي، ما دون ذلك يتم الرفض لأسباب مجهولة، وهذه إشكالية في المكاشفة وعلمية المصارحة، وفي المقابل إذا تعرض الأكاديمي القمع للنقد العلمي البناء وليس الانتقاد الهادم للمبنى شعر بالانكسار وتحركت دماءه للانتقام، وهذا من مؤشرا فساد القيم المجتمعية ، المجتمع الذي يسعى كل بنيه للتميز من غير مميزات وللتقدم من غير مسؤوليات.

ونظرا لفساد هذه المنظومة الكلية تنتشر اليوم  ظاهرة السرقات المقنعة؛  باحث يعيد تدوير عمل سابق له أو لغيره و يغير بعض العناوين أو المصطلحات ثم ينشره في مجلة جديدة وحين يسأل عن الإسهام المعرفي  يجيب بلغة تراوغ المنهجية  وتستغلها.

إن المؤسسات الجامعية نفسها تمارس الكذب القانوني  أو الكذب من خلال القيم، بمعنى توظيف القيم والأخلاق والقوانين لتمرير المغالطات المنهجية عندما تروج لصورة علمية لا تمارسها.

جامعات تدّعي العالمية وهي لم تنتج بحثا ذا أثر واقعي غير واقعها ونهض بمجتمعها وصنع لها تاريخا من الوجود حتى لا نعطل القدرات بالعدم،  أقسام جامعية تضع شعارات الابتكار والتميز في واجهاتها، بينما تمجد التقليد والتدليس والاختلاس وتعاقب  على الجرأة الفكرية أو مخالفة الأستاذ أستاذه وأي نقد للأطروحة نقدا لاستاذه، وهنا تتشيء النفس الفرعونية “ما أريكم ألا ما أرى” ، وهذه النفسية المجتمعية والأكايمية وعدم تبيئة المجتمعات والأسر على النقد البناء أوجد لنا الاستبداد السياسي لأن الاستبداد نتاج مجتمعي يعالج من خلال الأسرة والمجتمع، بحيث تكون التربية الناعمة عنونا للتغيير والتجديد.

وما يزيد الطين بلة أن كثيرا من الطلاب والأساتيذ يتماهون مع هذه البنية لا عن اقتناع بل عن رغبة في البقاء داخل النظام، وهنا يتحول الكذب من حالة طارئة إلى عرف مؤسسي.

ومن أخطر أنواع الكذب الأكاديمي هو الكذب باسم الحياد العلمي؛  يتم تبرير الصمت عن القضايا العادلة أو تبرير الإسهام في مشاريع تمولها سلطات قمعية  بدعوى أن الباحث لا يفترض أن يكون ناشطا غير أن هذا الحياد المزعوم كثيرا ما يكون تواطؤا مقنعا ليبرر الإذعان ويشرعن الانسحاب من الواجب الأخلاقي.

وأن لا سبيل للتحرر إلا بالرد على الكذب الأكاديمي الصريح ليس بلسان الخطيب،  وإنما بـإعادة تأسيس الفعل المعرفي ، المعرفة التي لو اطلقنا في سمائها العقول وفقا للمنهجية العلمية العادلة ، لاتسعت معارفنا ولتغير واقعنا، فلا تقدم إلا بالعقل الذي جعله الإله آية في الإعجاز والإبداع.

تحتاج المؤسسات الأكاديمية إلى تصحيح مسارات وجودها وتأسيس بنية نقدية للمعرفة  ينفتح عليها الجميع بأصول منهجية لكشف تزيف الادعاء المنهجي  ولا بد من إعادة الاعتبار للبحث الذي ينطلق من إشكالية حقيقية ويتفاعل مع الواقع ويقبل المساءلة ويؤسس للتغيير، فالمنهج والمنهجي عنوان صلاح الأمم وطاقة الحضارات ومادتها.

إن تأسيس صدق أكاديمي لا يعني الطهورية بل الاعتراف أولا بأن الأكاديمية نفسها جزء من النظام الاجتماعي والسياسي حيث ينبغي على المثقف الحقيقي أن يحتفظ بمسافة نقدية بينه وبين المؤسسة حتى لو كان جزءا منها.

إن زمن المنهجية لا يحمينا من الكذب بل قد يخفيه وما لم نواجه هذا الزيف بنزاهة فكرية سنظل ننتج معرفة جميلة في هيكلها سامة في عمقها مدمرة لمجتمعاتنا ، وهل تدمير المجتمعات اليوم إلا بها ومن خلالها لأنها معرفة مشوهة ناقصة ومؤدلجة ومتعصبة انتتجت مجتمعات وأفراد ينظر اليها العالم الغربي سواء كانوا قادة أو نخبة عامة أو متعلمة  نظرة التوجس حتى قيل كذب العربي إن صدق فهو لا يصدق أبدا بعد أن كان الكذب في عرفنا وثقافتنا وديننا من الكبائر، و ليس عقاب في حد من الحدود أعظم من اللعان  وهكذا لعن إبليس ومن سار على ملته.

وفي النهاية يبقى السؤال الأخلاقي مركزيا: هل الأكاديمي موظف ينتج وفق الطلب؟ أم ضمير نقدي يعمل باسم الحقيقة ؟

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.