العراق بين سندان الطائفية والتدخل الدولي

0 30

العراق بين سندان الطائفية والتدخل الدولي

د. جمال الهاشمي

يقع العراق ككيان جغرافي وسياسي في قلب التوازنات الإقليمية المتشابكة منذ عقود وهو يتأرجح بين مراكز النفوذ الكبرى لا كفاعل مستقل بل كساحة نزاع تستخدمها القوى الخارجية لتحقيق مصالحها.

موقعه الاستراتيجي جعله دائما في مرمى الأطماع إذ يربط بين الخليج العربي والهلال الخصيب ويفصل بين الهضبة الإيرانية والسهول العربية ما يمنحه أهمية محورية في صراعات القرن الحادي والعشرين و في منطق الجغرافيا السياسية فإن العراق ليس دولة فحسب وإنما هو  كذلك معبر تاريخي تتحرك فيه الجيوش وتتقاطع فيه الطرق والأفكار والأديان وهو خاصرة الأمن العربي الشرقي وأهم ثغوره التاريخية والمعاصرة.

ومنذ سقوط النظام السابق لم ينجح العراق في بناء دولة مركزية مستقرة قامت منظومته السياسية على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية مما جعل السلطة أداة لتقاسم الغنائم لا منصة لصياغة مشروع وطني جامع.

فالميليشيات المسلحة تحولت إلى فواعل أقوى من المؤسسات الرسمية وارتبطت بشكل مباشر بمحاور إقليمية تتصارع على النفوذ داخل البلاد و ايران لعبت دورا حاسما في إعادة تشكيل الخريطة الشيعية في الجنوب والوسط بينما دخلت تركيا بثقلها إلى الشمال السني والكردي واصبح العراق مقسوما عمليا إلى مناطق ولاء تابعة لجهات مختلفة.

إن الولايات المتحدة رغم تقليص وجودها العسكري لا تزال تتعامل مع العراق بوصفه ساحة للمنافسة مع ايران و هي لا تسعى إلى السيطرة المباشرة وإنما إلى منع الخصم من السيطرة الكاملة، الخصم الذي كان حليفها في إسقاط النظام .

وفي هذا السياق يصبح العراق أداة في لعبة توازن دقيق لا يملك فيها قراره ولا يحدد مسار سياسته. إن القوى السياسية العراقية المرتبطة بالخارج عاجزة عن إنتاج عقد اجتماعي داخلي  لأنها ترى نفسها امتدادا لمشاريع إقليمية وليست ممثلة لإرادة شعبية حقيقية.

إن الجغرافيا لا ترحم كما قال ماكندر، فمن يسيطر على المناطق المحورية يتحكم بمصير الإمبراطوريات والعراق يملك موقعا بين الهضاب والممرات والأنهر ويبقى موضوعا في قلب التنافس الدولي حتى وان ضعفت دولته و لا يتعلق الأمر بالطاقة فقط بل بالسيطرة على طرق التجارة والمياه والربط البري بين أسيا وأوروبا .

ان الفوضى فيه ليست عرضا بل أداة لإدارة التوازنات وكل طرف يحاول إبقاءه ضعيفا بما يكفي لكي لا يتحول إلى تهديد وقويا بما يكفي لعرقلة تقدم الآخرين.

إن الطائفية في العراق ليست نتاج وعي شعبي عفوي بل نتيجة استثمار سياسي طويل في الهويات الجزئية وقد استخدمت الطائفة كدرع في مواجهة الآخر ثم تحولت إلى أساس لتوزيع السلطة والثروة ولا يمكن فهم الصراع في العراق دون قراءة خلفياته الجيوسياسية، حيث تتقاطع مصالح الفرس والترك والعرب، وتتشابك طموحات الماضي مع خرائط الحاضر.

إن القوى الكبرى تدير هذا الصراع بأدوات محلية وتحافظ على استمراره باعتباره جزءا من نظام إقليمي أوسع و لا يسمح بنهوض قوة مستقلة في المركز ما لم يتحقق مشروع وطني عابر للطوائف يعتمد على الهوية المدنية ويستند إلى مؤسسات محايدة و لذلك سيبقى العراق رهينة في قبضة التوازنات السلبية ما لم يحدث تحول داخلي يقوده جيل جديد غير مثقل بإرث الحروب والانقسامات و قادر على إعادة تعريف العراق كدولة لا كمنطقة نفوذ. لكن هذا التحول يحتاج إلى شرطين: إرادة داخلية صلبة، وتوافق إقليمي يسمح بخفض التدخلات.

ما  دون ذلك سيبقى العراق ساحة مفتوحة تنتقل فيها المعارك وتتجدد فيها الأزمات فيما تكتب خرائط المنطقة بدمائه وصراعاته المتكررة بنهب ثرواته.

وفي قراءة استراتيجية للصراع الدولي والإقليمي وتأثيراته على العراق يمكننا ملاحظة أن هذا البلد الواقع في مفترق طرق الشرق الأوسط أصبح ساحة تتداخل فيها المصالح الكبرى للقوى العالمية مع الديناميات الإقليمية المعقدة و إن العراق، بجغرافيته الاستراتيجية وثرواته الهائلة يشكل نقطة محورية في اللعبة الدولية وهو بالتالي يعاني من آثار تقاطعات مصالح خارجية تهيمن على مسار تطوره السياسي والأمني بل كان سقوطه في صراع الطوائف والتدخلات الإقليمية والدولية طريقا لاسقاط الدولة السورية التي شاركت في إسقاط بغداد حيث سقط العدو بالأحقاد لا بالردع والتأديب، وبالتالي سقط بصراعات أكثر تعقيدا بتدخلات دولية ومحلية وإقليمية.

فعلى المستوى الدولي يتنافس اللاعبون الكبار على موقع العراق كحليف محتمل ومنصة للتأثير الإقليمي لا سيما في ضوء تحولات التحالفات وتراجع التوازنات التقليدية وتطل الولايات المتحدة بعد عقود من التدخل المباشر لتعيد تقييم استراتيجيتها في العراق وتتحول من قوة احتلال إلى قوة تأثير غير مباشرة عبر آليات التحالف والدعم الأمني والسياسي.

و في الوقت نفسه، تستثمر قوى إقليمية أخرى وعلى رأسها إيران نفوذها من خلال شبكات متشابكة من الميليشيات والقوى السياسية محققة ما يمكن وصفه بـالتغلغل الاستراتيجي الذي يمكنها من إعادة تشكيل المشهد العراقي وفق لمصالحها القومية وخوفا من أن تتحول العراق إلى قوة معادية لذلك فمن مصلحتها أن يظل العراق في صراع محلي أو أن يتحول إلى طرف تابع لإدارتها معاديا لمنظومته العربية.

إن الجانب الإقليمي يضيف طبقة إضافية من التعقيد؛ فالصراع بين إيران والسعودية وبين تركيا من جهة والقوى العربية الأخرى من جهة ثانية يعكس تنافسا أوسع على قيادة الشرق الأوسط والعراق هو ساحة مفتوحة لهذا الصراع كل لاعب يسعى إلى استثمار الطائفية والعرقية في العراق كأداة للضغط والمناورة مستغلا الانقسامات الداخلية لتعزيز وجوده.

وهذا التوظيف المكثف للهويات المحلية يعمق حالة الانقسام والضعف ويعيق بناء دولة مركزية قوية.

إن انعكاسات هذه الديناميات على الأمن الوطني العراقي والعملية السياسية بالبلاد بالغة الخطورة فالأمن سواء على المستوى الداخلي أو على الحدود لا يمكن فصله عن التحولات الجيوسياسية الكبرى.

إن  استمرار التدخلات الخارجية واحتدام المنافسات الإقليمية يزيدان من هشاشة المؤسسات العراقية ويعيقان جهود الاستقرار والتنمية مما يعرض العراق إلى مزيد من الانكفاء على ذاته وانزلاق محتمل نحو دوامة من الصراعات الداخلية التي تغذيها القوى الخارجية.

ومن الناحية الاستراتيجية فإن العراق يواجه تحديا جوهريا يتمثل في استعادة القدرة على اتخاذ قرارات سيادية مستقلة  توازن بين المصالح الدولية والإقليمية دون أن يكون ساحة صراع مستمرة وأن تحقيق هذا يتطلب إعادة بناء مؤسسات الدولة وتحقيق مصالحة وطنية شاملة وإعادة تعريف دور العراق في محيطه الإقليمي والدولي بحيث يكون شريكا فاعلا لا تابعا أو ملعبا للمصالح المتبادلة بين القوى الكبرى.

والعراق ليس ساحة صراع دولي وإقليمي فقط  وإنما هو مرآة تعكس مدى تعقيد العلاقات الجيوسياسية في الشرق الأوسطـ وأن إدارة هذه التعقيدات بنجاح هو مفتاح استقرار العراق والمنطقة ككل ويحتاج إلى رؤية استراتيجية توازن بين القوة والديبلوماسية وبين المصالح الداخلية والخارجية مستندة إلى فهم عميق للطبيعة الفريدة لهذا البلد وتاريخه ودوره المحوري.

وفي ضوء المعطيات الداخلية والخارجية يمكننا تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل العراق خلال السنوات القادمة، تتفاوت بين الانحدار الكامل والتحول التدريجي وكل منها يرتبط بدرجة كبيرة بمدى قدرة العراق على إدارة صراعاته الداخلية والتعامل مع الضغوط الإقليمية والدولية.

السيناريو الأول: التفكك الناعم وفي هذا السيناريو يستمر العراق كدولة اسمية لكنه يتفكك عمليا إلى كيانات جغرافية–سياسية شبه مستقلة؛ إقليم كردستان يعزز انفصاله السياسي والاقتصادي ويقترب من صيغة الدولة الفعلية.

الجنوب الشيعي يتحول إلى منطقة خاضعة بالكامل لنفوذ الميليشيات المدعومة من ايران، بينما تزداد الدعوات لحكم ذاتي سني في المحافظات الغربية وفي مقبل هذه التنازعات الجهوية ستظل الحكومة المركزية في بغداد ضعيفة وتتحول إلى سلطة إدارية محدودة و لا يشهد هذا السيناريو حربا شاملة بل حالة تفكك بطيء وتآكل مستمر في بنية الدولة وسط قبول إقليمي غير معلن بالأمر الواقع.

إن  العراق في هذه الحالة يتحول إلى نموذج لبناني مضاعف تتقاسم فيه القوى الداخلية والخارجية القرار دون صراع مباشر لكن أيضا دون سيادة حقيقية.

السيناريو الثاني: التوازن الهش

هذا السيناريو يفترض بقاء العراق في حالة استقرار نسبي قائم على توازن دقيق بين المكونات والطوائف تحت مظلة تفاهم إقليمي ضمني و تستمر الحكومة المركزية في العمل ولو ببطء وارتباك بينما يتم احتواء الأزمات الكبرى عبر صفقات مؤقتة بين القوى المتنازعة. فالميليشيات لا تحل  لكنها تدمج جزئيا في المؤسسات الأمنية ويجري تنظيم نفوذها بدلا من إزالته.

إن العلاقات مع ايران وتركيا وأمريكا تبقى متوترة لكنها مضبوطة ويتم تمرير السياسات الاقتصادية والاجتماعية من دون إصلاح جوهري و في هذا السيناريو يتحول العراق إلى دولة إدارة أزمات مزمنة لا تنهار لكنها أيضا لا تتقدم فالمجتمع يعيش حالة من التكيف مع الفساد واللامساواة مع استمرار الاحتجاجات والاضطرابات دون قدرة على إحداث تغيير جذري.

السيناريو الثالث: الاستعادة التدريجية للدولة

وهو السيناريو الأكثر تفاؤلا لكنه يتطلب شروطا صعبة تتمثل في بروز قوى وطنية جديدة غير طائفية تفرض مشروع تغيير سياسي واقتصادي حقيقي حيث تنجح هذه القوى في بناء تحالفات عابرة للهويات الفرعية وتعيد بناء مؤسسات الدولة على أساس الكفاءة والتمثيل المدني. ويتم تحجيم نفوذ الميليشيات تدريجيا عبر دمجها أو حلها مع إصلاح جذري للمنظومة الامنية والقضائية و على الصعيد الخارجي، يتم التفاوض على اتفاقيات توازن مع الجوار الإقليمي و تمنع التدخل المباشر مقابل انفتاح اقتصادي مشترك.

في هذا السيناريو يعود العراق إلى لعب دور محوري في المنطقة كجسر بين القوى المتنافسة لا كأرض معركة لها لكن تحقيق هذا السيناريو مشروط بوجود دعم شعبي واسع  وقيادة ذات شرعية كاريزمية وقدرة على المناورة وتراجع في شهية التدخل الاقليمي.

بين هذه السيناريوهات، يبقى التوازن الهش هو الأكثر احتمالا على المدى القريب ما لم تحدث صدمة كبيرة تعيد رسم قواعد اللعبة.

أما التفكك فهو خطر حقيقي يقترب مع كل أزمة تدار بالفوضى لا بالحل والاستعادة وإن كانت بعيدة، تظل ممكنة في حال تراكم الوعي الوطني وتصاعد الضغط الشعبي؛ فالعراق رغم كل جراحه لم يفقد بعد مقومات النهوض لكنه يحتاج إلى لحظة تاريخية تعيد تعريف مستقبله بيد أبنائه لا على خرائط الآخرين.

وعلى مستوى تدخل القوى العظمى في العراق يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية و كل منها يعكس طبيعة التغير في التوازن الدولي والإقليمي وموقع العراق ضمن الاستراتيجية الكبرى لهذه القوى هذه السيناريوهات تتصل بمصالح الولايات المتحدة، روسيا، الصين، والاتحاد الأوروبي، إلى جانب تحركات إقليمية مدعومة من هذه القوى.

السيناريو الأول: استمرار التدخل الأمريكي المشروط

وفي هذا السيناريو تبقي الولايات المتحدة على وجودها العسكري والسياسي المحدود في العراق من دون نية للعودة إلى احتلال واسع أو إدارة مباشرة لكنها تحافظ على نفوذها من خلال دعم حكومة بغداد كشريك في الحرب ضد الإرهاب ومراقبة النفوذ الإيراني وتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي المشروط بالإصلاحات السياسية والحد من تغلغل الميليشيات واستخدام العراق كورقة ضغط في التفاوض مع إيران في ملفات إقليمية أوسع (لبنان، سوريا، اليمن).

إن واشنطن تتدخل كلما شعرت أن التوازن يميل لصالح طهران أو موسكو لكنها تفضل إدارة الصراع من بعيد عبر العقوبات و الدعم الاستخباراتي والضغط السياسي  مع الاعتماد المتزايد على شركاء إقليميين مثل الخليج وتركيا لاحتواء الموقف.

و بهذا الشكل يتحول العراق إلى ساحة اختبار بين مشروع  تثبيت الاستقرار الأمريكي ومشروع التغلغل الإيراني دون حسم.

السيناريو الثاني: دخول روسي–صيني أوسع تحت شعار التوازن:

وفق هذا المنطق تتحرك روسيا والصين تتحركان في إطار استراتيجية طويل المدى، في هذا السيناريو تسعى موسكو إلى توسيع حضورها في العراق على غرار تجربتها في سوريا، من خلال:

  • التعاون العسكري والتسليحي خاصة مع الأطراف الشيعية المتحالفة مع محور المقاومة.
  • دعم مبادرات التهدئة الإقليمية عبر بغداد لتمرير نفوذها الدبلوماسي. أما الصين، فتعتمد نهج الاستثمار مقابل النفوذ من خلال:
  • التوسع في مشاريع البنية التحتية والطاقة ضمن مبادرة الحزام والطريق.
  • توقيع شراكات استراتيجية طويلة الأمد مع حكومة بغداد أو حتى الأقاليم لا سيما في الجنوب الغني بالنفط.

وهذا السيناريو لا يقوم على التدخل العسكري المباشر بل على نموذج الاختراق الهادئ و وإذا نجح قد يتحول العراق إلى ساحة نفوذ أوراسي–آسيوي ناعم و يشكل تهديدا غير مباشر للمصالح الغربية ويعزز الدور الروسي–الصيني كقوة موازنة للنفوذ الأمريكي التقليدي في المنطقة.

السيناريو الثالث: تراجع القوى الكبرى وبروز نظام إقليمي متداخل

وهنا تنسحب القوى الكبرى تدريجيا من المشهد العراقي ليس بسبب الرغبة بل بفعل أولويات داخلية أو تحولات في السياسة العالمية ف الولايات المتحدة تنكفئ للتركيز على المحيطين الهادئ والأطلسي، بينما تستنزف روسيا في صراعات أخرى أما الصين قتكتفي بالاستثمارات دون حماية سياسية أو أمنية فعالةـ  في هذا الفراغ تتقدم القوى الإقليمية (إيران، تركيا، السعودية) لملء الحقل العراقي كل وفق أجندته.

وينتج عن ذلك نظام إقليمي فوضوي داخل العراق تتقاطع فيه مصالح عدة أطراف دون جهة ضامنة وهذا السيناريو يعزز خطر الانقسام الداخلي والتفكك ويزيد من احتمالية نشوب صراعات مسلحة محلية وعودة التنظيمات الإرهابية في بيئات الفراغ.

 

لكنه في الوقت ذاته قد يدفع بعض القوى الوطنية العراقية لمحاولة إنتاج مشروع ذاتي يوازن بين هذه المصالح ويؤسس لشكل من السيادة النسبية بشرط امتلاك قدرة تفاوضية متقدمة وشبكة تحالفات مدروسة.

بشكل عام يبقى مستقبل التدخلات الكبرى في العراق مرهونا بتغيرات خارجة عن إرادة العراق نفسه مثل مصير الحرب في أوكرانيا و طبيعة الصراع الأمريكي–الصيني ومدى استقرار النظام الإيراني.

ومع غياب مشروع استراتيجي عراقي داخلي فإن البلاد ستبقى ساحة لاختبار نظريات النفوذ لا شريكا في صناعتها.

أما في السياق الإقليمي فإن العراق لا ينفصل عن بيئته الجيوسياسية لا سيما الجبهة الغربية حيث ترتبط حدوده الطويلة مع سوريا بتفاعلات أمنية وطائفية واستراتيجية عميقة. إن التدخلات الإقليمية في العراق وعلى وجه الخصوص العلاقة مع سوريا ترتبط بثلاثة سيناريوهات رئيسية، تتفاوت بين الاندماج الميداني، التصدع الحدودي، أو التنسيق الأمني المحسوب. وفق ما يلي:

السيناريو الأول: تعميق محور المقاومة – الاندماج الميداني

في هذا السيناريو تستمر إيران في تعزيز نفوذها غرب العراق عبر ربط الحشد الشعبي العراقي بالقوات الرديفة للنظام السوري وحزب الله، ضمن ما يعرف بمحور المقاومة. على الحدود العراقية–السورية خاصة في مناطق القائم والبوكمال و تتحول إلى ممر استراتيجي دائم لنقل السلاح والمقاتلين وتدار فعليا من قبل جماعات شبه رسمية تابعة لإيران خارج سيطرة بغداد ودمشق الكاملة.

ويترسخ هذا السيناريو إذا تراجعت الضغوط الدولية على إيران أو تم غض الطرف عن نفوذها مقابل ملفات نووية أو إقليمية أخرى.

إن النتيجة تكريس حزام شيعي يمتد من طهران إلى بيروت مرورا ببغداد ودمشق مع تقويض السيادة الوطنية لكل من العراق وسوريا لصالح مشروع إقليمي عابر للدول.

هذا السيناريو يعزز النفوذ الإيراني لكنه يبقي العراق وسوريا في مرمى القصف الإسرائيلي والاستهداف الأمريكي ويزيد من هشاشة الوضع الداخلي في الأنبار والبادية السورية بما يسمح بعودة خلايا داعش في فراغات السيطرة.

السيناريو الثاني: الصدع الحدودي – صراع نفوذ إقليمي

في هذا السيناريو تتحول الحدود العراقية–السورية إلى مساحة تنافس محتدم بين أطراف إقليمية متنازعة؛ تسعى تركيا لتوسيع مجالها الأمني في شمال شرق سوريا وقد تنسق مع قوى سنية عراقية أو كردية لمنع تشكل أي حزام تديره إيران. تدفع السعودية وبعض دول الخليج عبر قنوات غير رسمية لدعم جماعات سنية في غرب العراق وشرق سوريا تحت شعار مكافحة التمدد الإيراني.

وتكون النتيجة تفكك وحدة المجال الحدودي وظهور مناطق نفوذ موزعة بين ميليشيات سنية وشيعية وكردية ما يحول الصحراء الممتدة بين العراق وسوريا إلى مسرح لعمليات متقاطعة وصراعات صغيرة لكنها مزمنة ومن ثم يصبح التنسيق الأمني بين بغداد ودمشق شكليا وتفشل الحكومتان في فرض السيطرة الفعلية على كامل الحدود مما يسمح بتفاقم التهريب وعودة التنظيمات المتطرفة وتوسع اقتصاد الحرب.

السيناريو الثالث: التنسيق الأمني المشروط – إعادة هندسة العلاقة

وهو السيناريو الأقل احتمالا لكنه الأكثر استقرارا حيث تقوم فيه الحكومتان العراقية والسورية بدافع من روسيا أو الأمم المتحدة نحو إعادة هيكلة العلاقة الحدودية عبر تفاهمات أمنية مباشرة تشمل على:

  • إنشاء نقاط مراقبة مشتركة برعاية أطراف محايدة (روسيا أو قوات محلية موحدة).
  • تقليص النفوذ غير الرسمي (الميليشيات) لصالح قوات نظامية.
  • فتح المعابر التجارية ضمن اتفاقات رسمية تحد من التهريب وتعيد تنشيط الاقتصاد الحدودي.

هذا السيناريو يفترض تقاطعا في مصالح دمشق وبغداد لكنه يتطلب تنازلات إيرانية وصمت أمريكي وتوافق ضمني تركي–روسي و في حال نجاحه قد يصبح نموذجا للتعاون الإقليمي المرن، ويعيد قدرا من السيادة للدولتين مع تراجع في خطر الحرب بالوكالة على الحدود.

وخلاصة لذلك فإن العلاقة بين العراق وسوريا ستظل رهينة التوازنات الإقليمية الأوسع  خصوصا صراع إيران وتركيا وامتداداته في الجغرافيا الطائفية والمناطق العشائرية المتداخلة ما لم تبادر بغداد ودمشق إلى صياغة استراتيجية حدودية موحدة فإن المشهد سيظل محكوما بقواعد خارجية  تتحكم في الأرض عبر وكلاء محليين وتبقي المنطقة في حالة سيولة دائمة.

وتأزم الوضع بين الدولتين مما يضعف استعادة مفهوم الأمن العربي والأمة العربية نهائيا وكذلك التعاون الإقليمي في مشهد جديد من دول تتهيأ لتفريغ إمارات أو مشيخيات صغرى تعلن وفاة الدولة القطرية وتعلن مقابلها عودة جديدة لحروب الطوائف والقبائل لتؤسس مرحلة جديدة لفوضوية جاهلية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.