الصراع الدولي بين استراتيجية التدبير وديماغوجية التفكير
الصراع الدولي بين استراتيجية التدبير وديماغوجية التفكير
د. جمال الهاشمي
إن الصراع الدولي هو أحد الاستراتيجيات التدبيرية لتفجير الأزمة وتوسيعها أو نقلها من جغرافية إلى أخرى، وتعد الأزمة إشكالية فوضوية وعشوائية غير منتظمة وتتسم بالسرعة والتغير والمفاجئة، وتظل الأزمة بهذه الصفة حتى تتحول إلى صراع مسلح ينتهي الصراع باستسلام أو هزيمة ولا خيارا ثالث بين النتيجتين. أما المصالحة التي تنتجها الأزمة فإنها تعيد تكمينها وتؤجل تطورها واستمرارها، والكثير من الحروب الدولية تؤكد على أن المصالحة بين القوى المحلية والدولية يحول الأزمة إلى إبادة طبيعية وإنسانية.
وعند توصيف الأزمة يستوجب دراسة العلاقات السببية لوضع اطار تفسيري يعيد تنظيمها وفق استراتيجيات تفكيكية، واستراتيجية التفكيك تكون فقط في الأزمات، بينما تكون استراتيجيات البناء في السلم، والجمع بينهما يعطي للقيادة عمقا جغرافيا ينأى بها عن الأحزمة الملتهبة نظرا لوجود مجالات الأحزمة الأمنة ومن هنا برزت نظرية المجال التي تعد مقدمة دفاعية تمنح العمق مجالا لامتصاص الصدمات والمناورة والاستعداد وتجديد المواجهة.
وعانت الدول العربية قبل ثورات الربيع من الشلل الوظيفي وفشل التنمية، ومن ثم كان مصطلح الدولة الفاشلة يطلق على الدول من خلال مقاييس الدور الوظيفي والتنمية ، لأن العلاقة بين التنمية ومصطلحات العنف والإرهاب علاقة تلازمية.
وقد دخلت الدول الفاشلة مرحلة الفشل وتعطلت كليا أو جزئيا قبل ثورات الربيع، ومن الطبيعي أن الفشل يقود إلى ثورة لإزالة حالة الجمود، ومن الطبيعي أن تتحول الثورات إلى أزمة لا سيما وأن الذين أخذوا زمام الثورة من منشقين وأحزاب كانوا جزءا من الفشل الذي عطل وظيفة الدولة، ولأن الثورة لم تعمل على إصلاح النظام وإنما إسقاطه بهدف الوصول إلى السلطة بنفس عقليات الفشل السابقة ومن جهة أخرى صراع البقاء على السلطة من الطرف الآخر، والواقع يعكس حقيقة ما آل إليه العالم العربي.
وقد أدى هذا التنافس مع غياب الرؤى الاستراتيجية والتي من أهمها استراتيجية الجبر والتغيير إلى اتساع دائرة الأزمة المحلية المقعدة لتأخذ بعدا إقليميا عابرا للحدود الدولية.
لم تسع الدول الإقليمية أن تتكيف مع حقيقة الثورات العربية، وإنما عملت على عادة تدويرها بالعناصر القديمة من النظام السابق، وكان هذا الخيار من أكثر الخيارات تكلفة نظرا لعدم وعيها بالتدخلات الإقليمية والدولية في هذه التطورات، ولم تدرك حقيقة الأزمة الاقتصادية الدولية التي وصلت إلى مرحلة الجمود، ومن ثم كان الاقتصاد الحربي هو الوسيلة الوحيدة لإعادة انعاش الجمود الاقتصادي وتحديات البطالة.
لم تقيم دول الإقليم مخاطر التدخل في شؤون الدول، ولم تحاول أن تفهم أسباب الصراع العميقة، ومن ثم كان من الضروري الحديث عن الأيدولوجيات الدينية كإشكالية أمنية تهدد الأمن الدولي، وكان هذا الطرح هو الفخ الاستراتيجي الذي نقل الصراع المحلي إلى الصراع الدولي، ومن ثم تعددت أقطاب المنافسة بين إيران وتركيا والسعودية، بينما كانت مصر واليمن وليبيا وتونس وسوريا والعراق والسودان ميدانا لهذه المنافسة الإقليمية، والتي تطورت لتأخذ أبعادا دولية، وهو ما دفع روسيا نحو إحياء استراتيجية الدولة المركزية، وقد ساعدها في ذلك الصراع في منطقة الشرق الأوسط وضعف أوروبا لا سيما بعد خروج بريطانيا وانفصالها عن أوروبا بتحالف جيوثقافي بين أمريكا وأستراليا وبريطانيا .
هذه التحولات العالمية كانت من أهم أسباب ابتعاث الرؤى الاستراتيجية التفكيكية من جهة والبنائية من جهة أخرى، وقد ساهم هذا التحول العسكري في العقلية الروسية من إدخال الصين في هذا التحالف، واتباع الصين استراتيجية النفس الطويل الذي سيطر على الأحزمة الاقتصادية – البحرية وبدائلها البرية، وهي بهذه التخطيط بعيد المدى استطاعت تترجم كلا من استراتيجية القوة البرية، واستراتيجية القوة البحرية بنفس العقلية الأمريكية، إضافة إلى ترجمتها لاستراتيجية القوة الجوية والردع النووي على المستوى الإقليمي إضافة إلى تفوقها في إنشاء جيش افتراضي لتجسيد استراتيجية الحروب التقنية والحروب الإعلامية الجديدة واختراق المجالات الأمنية العسكرية والاجتماعية، مما يجعل استهداف الشخصيات المؤثرة سهلا.
تعرض العالم العربي خلال هذه الفترات لضغوط ثقافية واقتصادية وسياسية وأمنية وسعت من دائرة الصراع المزمن بين المعتقدات والقطريات والجهويات والانقسامات السياسية وتباين المصالح بين الدول المتحالفة، كما أن الاجتماعات تحت مظلة الجامعة العربية منذ نشأتها لا تعد قادرة على تنفيذ أي من مخرجاتها كما أنها تعد واحدة من أهم مؤسسات الفشل من التأسيس وحتى زوالها، كما أنها تعد أحد بؤر التفكيك الذاتي للمجتمعات العربية.
وخلاصة ما سبق أن الصراع بين القوى الدولية جعل من منطقة الشرق الأوسط منطقة هشة داخليا على جميع الأصعدة، اجتماعيا وثقافيا وتنمويا وقيميا وأخلاقيا… وهذه الحالة تعكس حقيقة ما كان عليه العالم الإسلامي قبل الاستعمار الحديث، وأن الشرق الأوسط اليوم مهيأ ذاتيا لإعادة تشكيله وفقا لاستراتيجية الديماغوجية التي توظف مخاوف كل من الأردن ومصر والسعودية من سياسية التهجير، وهو ما دفع ملك الأردن ووزير خارجية مصر لزيارة واشنطن دون أي رؤية استراتيجية عملية لمواجهة احتمال متحقق، كما أن ترامب شخصية ذكية وقوية، وقوته هي التي جعلته يصدر قرارات تنفيذية، أي قابلة للتنفيذ دون مساومة.
وسياسته مع روسيا مختلفة تماما عن سياسته مع جغرافية الشرق الأوسط، ومحاولته التقارب مع روسيا يدل على أن لديه عمق استراتيجي لمواجهة خطر التنين الذي يحاول أن يحل مكان الولايات المتحدة في العالم، كما أن رؤيته القومية والتماهي فيها وتماهيه أكثر بالقيم الدينية المسيحية وعقيدة الألفية يجعله واثقا من تحقيق النصر، كما أن نزعته الذاتية تجعله الشخصية الوحيدة القادرة على إعادة هيكلة النظام الأمريكي ما لم يتعرض لاغتيال من الداخل.
مشروع ترامب الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط هو مشروع تاريخي أصبح متاحا للتطبيق وعمر هذا المشروع سبعين سنة وقد أعطى وعده على غرار بلفور في غزة، وهذا الوعد قد استلم ثمنه مسبقا، وتتبع تل أبيب استراتيجية الأحزمة المصطنعة، وهي من أهم مراحل التوسع نحو السيطرة على الأحزمة الطبيعية، وسيكون من الصعب التخلي عن غزة بالطرق الدبلوماسية.
يعد ترامب من أكثر الشخصيات الديموغاجية في خطاباته الدولية والمحلية، وفي المقابل فإنه يعد مجدد طبقة النخبة الأوليجاركية وهي تجيد إدارة مصالحها الشخصية بالتضحية بمصالح الآخرين، وأنه لا بديل لها عن المصالح، ولا هدف لها غير المكاسب، وليست المكاسب اليسيرة، مما يجعلها خطرة على دول الأعداء وأكثر ثقلا وخطورة على الدولة الحليفة والأصدقاء.
وترتبط هذه النخبة في بالعقيدة المادية التي تربط منزلة الفرد بالدنيا بمنزلته في الآخرة.
وأخيرا لا يوجد هناك احتمالات متكافئة وإنما هو احتمال واحد يحمل مصالح واحدة، مصلحة الأنا، وهو ما جعل رئيس أوكرانيا الذي كان بإمكانه قبل صعود ترامب أن يحقق مكاسب أفضل ، إلا أنه سيخسر أوكرانيا بالتدرج لأن المفاوضات الإعلامية تؤكد على أن السيطرة على المناطق ذات الأغلبية الروسية سيكون مدخل للسيطرة على ما تبقى من أوكرانيا مستقبلا، وقد يكون هناك تقسيم للجغرافيا بين القوى الدولية الكبرى لإنقاذ الدول الفاشلة من الفشل بعقلية الاستعمار، لا سيما بعد فشل أنظمة الحكم وتصاعد العنف.
هنا نؤكد أن القيم الإنسانية التي كانت غطاء لتبرير التدخل والهيمنة لم تعد لها وجودا، وأن المنظمات الإنسانية اليوم تتعرض لأزمة في التمويل، وأن منظمات التجارة الحرة والمؤسسات القانونية الدولية وصلت إلى مرحلة الامتلاء، وهو ما يفرض على العالم أهمية الانتقال لمرحلة جديدة من التغيير، سيغيره الأقوى، وستساهم المعتقدات العسكرية والقطريات وسياسات الدول من تحقيقه .
نترك هذا السياق ليكون مدخلا لاحتمالات أو سيناريوهات تحدد مراحل الاستراتيجية الديموجاجية واستراتيجية التدبير التفكيكية والبنائية لكل من دولة أورشليم لأمريكية الجديدة، وأورشليم التوراتية .
.