الدولة العربية وتحديات المقاومة: نحو تحليل بنيوي حضاري للواقع السياسي العربي
الدولة العربية وتحديات المقاومة: نحو تحليل بنيوي حضاري للواقع السياسي العربي
د. جمال الهاشمي
ليست الدولة العربية الحديثة كيان سياسي قائم بوظائفه الإدارية وإنما هي نتاج لتاريخ طويل من التفاعلات بين الداخل والخارج؛ بين المشروع الحضاري الإسلامي والحداثة الغربية، وحين نتناول مسألة المعارضة – سواء من الداخل أو الخارج – لا ينبغي أن نتعامل معها باعتبارها مجرد ظاهرة سياسية عارضة بل يجب أن نفكك بنيتها وموقعها داخل النسق الكلي للهيمنة وقيم الخصوصيات الحضارية.
وفي هذا السياق يصبح من الضروري استدعاء منهج تحليلي يتجاوز البنية السياسية السطحية ويمضي نحو تفكيك البنى المعرفية التي تنتج الظاهرة وتعيد إنتاجها؛ فالدولة أو المعارضة ليست ظواهر معزولة بقدر ما هي مكونات في شبكة من المفاهيم والممارسات التي تعبر عن رؤية الموطن والمجتمع والغاية من وجودها .
لقد نشأت الدولة العربية الحديثة في أغلبها ضمن سياق ما بعد الاستعمار وهو سياق فصلها عن تاريخها وهويتها وقيم مجتمعاتها وثقافتها واستبدلت هياكلها بهياكل الدولة المركزية للثقافة الاستعمارية ، والتي كانت وظيفتها الأساسية ضمان السيطرة والإدارة لا التمثيل أو الشورى الذي يوازن بين العقل السياسي وثقافة المجتمع، وبذلك، فقد ولدت الدولة العربية الحديثة على صورة الدولة القطرية الأمنية لا الدولة الرسالية الحضارية.
وبمرور الوقت تحولت هذه الدولة من كونها وسيلة لتحقيق الكرامة والعدالة إلى جهاز إداري خالص؛ غايته ضبط السكان وتدبير الاقتصاد، ومراقبة الحركات الاجتماعية وانقطعت بذلك عن مشروعها التأسيسي الأصيل في خدمة الإنسان باعتباره خليفة في الأرض لا موضوعا للضبط والمراقبة.
هذه الدولة أصبحت دولة وظيفية تعمل ضمن نسق عالمي يفصل الوسيلة عن الغاية ويفرغ القيم من مضامينها الإنسانية، لتحصرها في معايير الأمن والتنمية والاستقرار وفق تعريفات مستوردة لا محلية.
ومن ثم فإن المعارضة من الداخل – غالبا- لا تخرج عن نفس الاطار البنيوي الذي تشكلت فيه الدولة. فهي كثيرا ما تنطلق من مطالب إصلاحية لكنها لا تراجع الأسس المعرفية التي تقوم عليها الدولة الحديثة نفسها؛ بل في أحيان كثيرة، تنزلق المعارضة إلى تكرار مفردات الخطاب الرسمي نفسه – حرية، ديمقراطية، دولة قانون – دون مساءلة جوهر هذه المفاهيم في السياق العربي الإسلامي.
وما لم تدركه المعارضة أنها لا تنازع الدولة في السلطة فحسب بل تنازعها في الرؤية الكونية وبهذا التقمع ستظل حبيسة اللحظة السياسية وستتحول – بوعي أو بدونه – إلى معارضة وظيفية تؤدي دورا تكميليا داخل النظام نفسه لا خارجه وتساهم في تفكيك دولها وفوضويتها الأمنية والسياسية والأخلاقية.
إن المأزق هنا ليس سياسيا فقط بل معرفي إذ أن غياب المشروع الحضاري البديل يجعل المعارضة عبارة عن ردود فعل عاطفية هشة تدافع عن مصالحها تحت مظلة الدين والقومية والقيم الوطنية مما يؤدي الى تدمير البنى الكلية للوعي الشعبي العام وتحول هذه القيم إلى أسلحة تمارس ضدها وضد الشعوب التي تحتضن هذه القيم احتضانا صادقا دون توظيف سياسي وبهذه الردود الانفعالية خرجت عن مسار الفاعلية التاريخية والاستقلالية الثقافية؛ فهي تنتقد الظلم لكنها لا تطرح تصورا للعدل وترفض الاستبداد دون أن تقدم تصورا للسلطة الشرعية المستمدة من الإنسان بوصفه خليفة وليس ناخب يمنحها التفويض في إدارته واستغلاله تحت عواطفه الإيمانية البريئة.
أما المعارضة من الخارج – أي تلك التي تنشأ أو تمول أو تروج من مراكز القرار الغربي – فإنها تواجه تحديا مزدوجا؛ فهي من جهة تسعى للشرعية ومن جهة أخرى تتهم بالتبعية، وهنا يظهر بوضوح نموذج المعارض الوظيفي الذي يصبح أداة في يد القوى الكبرى تماما كما أن الحاكم المحلي يصبح أداة لضبط المجال السياسي وفق شروط المركز الدولي لضمان بقائه في السلطة.
الخطورة هنا؛ تكمن في أن هذه المعارضة وإن بدت جذرية في نقدها إلا أنها غالبا ما تتبنى خطابا حداثيا مفرغا من القيم يستبطن الرؤية الغربية في تصور الإنسان والمجتمع والحرية دون اعتبار للخصوصيات المحلية، فتصبح وكأنها تطالب بالتحرر وهي تمهد لتبعية جديدة تحت شعارات دينية أو شعارات ينتجها العقل التوظيفي للقيم وهي أشد خطورة من الأولى لأنها مموهة بلغة الحقوق والحداثة.
إن ما يجمع الدولة العربية الحديثة ومعارضتها – في كثير من الأحيان – هو غياب المشروع الحضاري المتكامل؛ فكلاهما يتحرك داخل منظومة لا تطرح سؤال الغاية، ولا تعيد تعريف الإنسان، ولا تسعى لبناء مجتمع يوازن بين الفردية والجماعة و بين الحرية والكرامة و بين الخصوصية والانفتاح.
إن المعارضة الحقيقية هي تلك التي تبنى على رؤية تربط بين واقعها ودورها ضمن استراتيجية متوزانة بين قيم الحضارية الإنسانية وإنسانية العالم وثقافته الخاصة لا على الانفعال اللحظي وأن تكون معارضة معرفية قبل أن تكون سياسية تحرر الإنسان من الداخل قبل أن تغير النظام من الخارج كما يجب أن تدرك أنها ليست بديلا للسلطة ونما بديلا للمنظومة برمتها.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط معارضة للدولة فهذا لم يعد مواتيا، وإنما معارضة للنسق الكامن خلف الدولة، معارضة تعيد الاعتبار للإنسان ككائن مكرم وتسعى إلى بناء دولة رسالية لا وظيفية دولة تعبر عن الذات الحضارية للامة ولا تحاكي النموذج الوافد على نحو مشوه أو تابع.
إن معارضة كهذه لا تبدأ بالانتخابات أو البيانات أو الاعتصامات وإنما تبدأ بسؤال الانسان: من هو؟ وما غايته؟ وما علاقته بالسلطة والمجتمع والكون؟ وحين نعيد هذا السؤال إلى مركز الفعل السياسي سنكون قد بدأنا في تفكيك منظومة القهر المعرفي وليس فقط الاستبداد السياسي، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه الدولة والمعارضة في آن واحد، وهو أن تتحرر من أسر الانفعالات والمصالحة الخاصة لتدخل أفق الحضارة وقيمها العامة.