التطرف بين استلاب العقل وتحديات الاختلاف
التطرف بين استلاب العقل وتحديات الاختلاف
د. جمال الهاشمي
ما التطرف؟ هل هو انحراف عن مفهوم الاعتدال أم أنه شكل من أشكال استلاب العقل لصالح المطلق؟ وهل التطرف صنيعة المعتقدات، أم أنه جزء من البنية الذهنية التي تفرضها الأنساق الكبرى؟
في عالم تتنازع فيه القوى على الحقائق النهائية يتحول التطرف إلى أكثر من مجرد موقف ديني أو أيديولوجي ليصبح بنية ذهنية تتجاوز حدود الإيمان أو الفكر؛ فالمتطرف ليس من يؤمن بفكرة، بل من يرفض إمكانية وجود غيرها ويتماهى مع نصه فلا يرى العالم إلا من خلاله، وبذلك تتحول الفكرة من كونها أداة فهم لحقائق وظواهر وإشكاليات إلى قيود وعوائق وأزمات، و من منهج التفكير إلى سلطة المطلق المستبدة بالعقل.
هذه السلطات والقيود تنبع من ذاتية الإنسان المتعالي التي تقيد منهجية الوحي.
فهل التطرف ناتج عن قوة المعتقد، أم عن ضعف القدرة على التأويل؟ هل المشكلة في النص، أم في الإنسان الذي يقرأه؟ هنا تتكشف المفارقة؛ فالمطلق حينما يفقد طاقته على التعدد يتحول إلى سجن لا لأن الحقيقة نفسها ضيقة، بل لأن الذهنية لم يعد قادرة على تجاوز الذات ويذوب داخلها. ولم يعد يرى الفكرة كجزء من منظومة تأويلية بل كالحقيقة ذاتها فلم يعد قادرا على رؤية نفسه من خارجها، وهي ممانعة نفسية تتناقض مع القيمة التربوية “رحم الله من أهداني عيوبي”
وهذا ما نسميه “التماهي الذهني” حيث يفقد الفرد المسافة النقدية بين ذاته وما يؤمن به، فتصبح الفكرة هوية، والمعركة مع المخالف معركة وجودية، ومن هذه المفاهيم المواطنة والقومية والمعتقدات الفرعية التي تتناقض مع منظومة الإسلام وإنسانيته، وتتناقض مع قواعد العقل ومناهجه.
هذه الحالة لا تتعلق بالدين وحده، بل تمتد إلى كل الأيديولوجيات. فالحداثي المتطرف يشبه الأصولي المتشدد ليس في المعتقدات وإنما في البنية الذهنية التي تحكمه؛ فكلاهما يعتقد أنه يحتكر الحقيقة، وكل منهما يرفض الاعتراف بشرعية الآخر.
ومن ثم لم يعد التطرف إشكال ديني أو فلسفي ، وإنما هو ظاهرة إنسانية تتجلى في كل منظومة مغلقة؛ سواء كانت إيمانية أو علمانية.
فهل التطرف انعكاس لقوة العقيدة، أم هو نتيجة لفراغها الذي يملأه الإيمان؟ أم هو عجز عن استيعاب المعقولات والمتغيرات والتحولات التي تشكلها قواعد الفيزياء والميتافيزيقا والمنطق. وهل الإشكال في الفكرة، أم في الإنسان الذي يبحث عن المطلق؟
إن أكثر ما يخشاه المتطرف ليس الخطأ، بل السؤال، لأنه يدرك أن فتح باب التأويل يعني انهيار سلطته، ولهذا يدافع عنه بالتطرف هو تحويل التساؤل إلى جريمة، واعتبار الشك خطرا على “الفكرة المطلقة، فكرة الأناذية العرقية والسلالية و أخطرها السلالية المقدسة ، التي تتنامى في تقديس الذات بالقدر الذي تدنس بأخلاقها وسلوكها وفكرها الواقع.
فالحقيقة لا تخاف من السؤال، و الحقيقة القوية لا تحتاج إلى الإكراه، لأن قوة الحقيقة تكمن معقولية قبولها وسعة انتشارها وعمق فلسفتها وعدالتها ، لأنها تبرر ذاتها بذاتها، أما الحقيقة الهشة، فهي التي تلجأ إلى العنف، لا لكونها أقوى، بل لأنها تخشى المواجهة.
ومن وجهة نظري فإن التطرف في جوهره إعلان عن أزمة الحقيقة، وأزمة الوصول إليها، وليس عن قوتها، إنها محاولة لإبراز الفكرة بأدوات الحق والعدل والدين، والدخول في عزلة المعتقد أو الصراع مع المعتقدات الأخرى، وكأن الإيمان لا يكون إلا بالعزلة، ولا يمكن أن يتعولم إلا بالعنف والتطرف.
فإذا كان التطرف هو زنزانة الفكر في المطلق، فإن التحرر لا يكون برفض المعتقدات بل بإعادة تأويلها بآفاق مفتوحة على العالم الإنساني وهذا يحتاج إلى تجاوز نموذجين:
- نموذج السلطة المطلقة التي تماهي الحقيقة بذاتها، ولا مجال لمساءلتها.
- نموذج “اللامعنى المطلق الذي ينكر وجود الحقيقية ويجعلها نسبية بلا أساس.
ولتجاوز هذين النموذجين فإننا نؤمن بالبحث عن الحقيقة بالمناهج التجريبية والعقلية والدينية وكل ما توصلنا إليه من حقائق تكون حقائق مقيدة بمناهجها وأدلتها عملا بقوله تعالى ” وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” وهذه الفرضية المنهجية القرآنية تدعو تجاوز منهجية الشك إلى الدليل والتماس الحقيقة من خلالها.
فالتحرر لا يكون بالخروج من المعتقد، بل بالخروج من استلابه، والفكر لا يصبح حراً بإنكار الحقيقة، بل بالقدرة على فهم تعددها ومناطق تأويلها وسعة أفقها ، والمعتقد لا يفقد قيمته عندما يُسائل، بل عندما يتحول إلى وثن مطلق، أو انعتاق مطبق.
التساؤل الإشكالي الأعمق في فلسفتنا الإنسانية لا يكون بمواجهة التطرف بل بتربية الإنسان على معرفة الحقيقة واكتشافها دون أن يصبح أسيراً لها، بمعنى تساؤلي آخر كيف نصل إلى الإيمان الذي لا يُلغي العقل، وإلى العقل الذي لا يُنكر الإيمان؟
فالمعركة ليست بين الإيمان والحداثة، ولا بين الدين والعلمانية، بل بين فكر منفتح قادر على احتضان التعدد، وفكر مغلق متردد.
إن استلاب العقل وقولبته في أنساق وظيفية حزبية أو سياسية أو عقدية يلغي حقيقة كينونة الإنسان وصفته الوجودية الموسومة بالوسم الإلهي، ولذلك كان انحطاط عالمنا الإسلامي والإسلامي بما أوجده من قوالب مؤسسية ومحاصن تربوبية تفرض المسلمات وتعاقب عليها، وتلغي العقل تحت دعاوي الإيمان فتنشأ جيلا مقيد بأفكار مثقلة ومسالك متطرفة ، والله يدعو إلى دار السلام ولن يكون الطريق إليها إلا بالعدالة والسلام .
إن التطرف لا يعكس حقيقة الإيمان وقوته بل الخوف من الحقيقة حينما تخرج عن حدود التأويل الواحد.
ومن هنا كانت المفاهيم مدخل من مداخل نقد الفكر أو تنميته، فهي ليست مجرد أدوات للتفكير بل هي ساحات للصراع، حيث تتواجه الأيديولوجيات، وتتنازع القوى الفكرية على احتكار المعنى، فمنذ أن بدأ الإنسان محاولاته في فهم العالم نشأت معركة خفية حول من يملك سلطة التعريف وسلطة تسمية الأشياء، ومن هنا نشأ الاحتلال الفكري بإخلال التوازن والعلاقة بين الإنسان ومصدر وجوده، حيث كان هناك تميز بين مرجعية الحقيقة، مصدرية تفعيلها “وعلم آدم الأسماء كلها” ومن ثم بدأ الإنسان يتخذ مسالك مختلفة تارة بانكار الحقيقة وتارة بالهيمنة عليها بأدوات مختلفة، ومن ثم كانت المعتقدات واحدة من أهم مصادر تحريف الحقائق وتزييفها.
فهل كانت المفاهيم انعكاس للواقع، أم أنها تُصنع لتوجيهه؟ هل المعنى موضوعي، أم أنه يُعاد تشكيله تبعًا للقوى المهيمنة؟ ومن هنا نشأ صراع الثقافات والأفكار والمفاهيم وحتى المصطلحات وبناء عليه تعدد المعبودات وأعيد إنتاجها خلافا للمعنى.
نحن لا نعيش في عالم الحقائق فقط، بل في عالم التأويلات، حيث يخوض كل فكر معركته لإثبات أن مفهومه هو الأكثر شرعية، والأكثر قدرة على تفسير الواقع، فالصراع بين المفاهيم هو صراع على السلطة، لأن من يحدد المفاهيم يحدد طريقة فهمنا للحياة، ويعيد تشكيل وعينا وفقا لمنطقه، وثقافته، مخالف مدخلين منهجيين؛ الخصوصية والاختلاف.
لكن، إذا كانت المفاهيم هي أدوات الفهم، فلماذا تتحول إلى أدوات للهيمنة؟ ولماذا يُعاد إنتاجها لتبرير سياسات وأيديولوجيات بعينها؟ هل نحن ضحايا لمعركة لا نراها، أم أننا مشاركون فيها دون أن نشعر؟
فلطالما سعى الإنسان إلى بناء مفاهيم تحاول أن تكون مطلقة، وكأنها حقائق نهائية لا تقبل التعدد، ولكن و في كل مرة يرسخ مفهوم معين، ينشأ لمواجهته مفهوم مضاد، ليعيد التوازن إلى الحقل الفكري.
فعلي سبيل المثال الحرية في لحظة معينة كانت تتمحور على التحرر من الطغيان، ثم تحولت إلى أداة لتبرير الاستعمار تحت مظلة تحرير الشعوب البدائية، وهكذا، لم يكن المفهوم بريئا، بل كان دائما خاضعا لمن يتحكم في صياغته.
وعلى منوال ذلك تعرضت مفاهيم الحداثة، والتنوير، الأخلاق، والهوية، التسامح، والعقلانية، والديمقراطية وفي كل مرة يروج لمفهوم لا يكون أداة للفهم، بل هو معركة للسيطرة على العقول.
إن صراع المفاهيم واستلاب الفكر لا يقف عند محاولات السيطرة عليها، بل يمتد إلى تفكيكها حتى تفقد معناها، وفي العصر الحديث، لم يعد الصراع حول من يحدد المفهوم، بل حول وجود المعنى وإنكاره.
وهذه الأزمة الفكرية إنما كانت وليدة حتمية لتفكيك كل المفاهيم الكلية بحجة نقد المطلقات، فأصبحت الحرية نسبية، والهوية سائلة، والأخلاق وجهة نظر، والحقيقة مجرد “سردية”. وهكذا، انتقلنا من استبداد المعنى، حيث تفرض النخب الفكرية مفاهيمها على الجميع، إلى سيولة الفكر، حيث فقدت المفاهيم قدرتها على أن تكون مرجعا ثابتا تهمين عليها سيولة التفاهة على وسائل التواصل الاجتماعي .
فهل يمكن للفكر أن يستمر دون مفاهيم واضحة؟ هل يمكن للإنسان أن يعيش في عالم حيث لا توجد حقيقة ثابتة، ولا هوية محددة، ولا قيم متفق عليها؟ أم أن التفكيك، في نهاية المطاف، مجرد شكل جديد من أشكال السيطرة، حيث تصبح الفوضى الفكرية بيئة مثالية لإعادة تشكيل وعي الشعوب وفقًا لمنطق السوق والقوة؟
والحقيقة أنها عندما ينهار مفهوم قديم، يظهر مفهوم جديد ليحل محله، لكن هذا المفهوم الجديد لا يكون دائما أكثر تحررا، بل قد يكون مجرد نسخة أخرى من الاستلاب، فمثلا عندما انهارت الأيديولوجيات الشمولية لم يؤد ذلك إلى ميلاد فكر حر، بل إلى صعود أيديولوجيات السوق والاستهلاك، التي أعادت تشكيل الإنسان وفقا لمنطقيتها المادية.
وهنا يظهر التحدي: كيف يمكننا تحرير المفاهيم من الاستبداد دون أن نسقط في الفراغ؟ كيف نحافظ على المعنى دون أن يتحول إلى أداة للقمع؟ هل يمكننا إنتاج مفاهيم تكون حرة بالفعل، أم أن كل مفهوم يحمل داخله سلطته الخاصة؟
فإذا كان صراع المفاهيم هو صراع على السلطة، فإن تجاوزه لا يكون بإنكار المفاهيم أو هدمها، بل بإعادة صياغتها بحيث تكون أكثر انفتاحا على التأويل، وأقل خضوعا للهيمنة. وهذا يتطلب منا ما يلي:
- الوعي بتاريخ المفاهيم: إذ لا توجد فكرة محايدة، وكل مفهوم له تاريخ من الاستخدامات المختلفة. علينا أن نكون مدركين لكيفية تشكُّل المفاهيم قبل أن نتبناها، وهنا أميز في لغتنا العربية بين ثلاث لغات متصارعة، لغة العرف، ولغة المعاجم، ولغة الكلام، لكنها في وقتنا المعاصر تعددت بأساليب مختلفة حتى أصبنا بداء المشقة والفرقة والاختلاف والتصادم والصراع.
- التعددية التأويلية: بحي لا يمكن اختزال أي مفهوم في قراءة واحدة، بل يجب أن نسمح بوجود تفسيرات متعددة، دون أن يتحول ذلك إلى فوضى فكرية.
- التفكير النقدي دون إسقاط الحقيقة: يمكننا أن ننقد المفاهيم ونفككها، لكن دون أن نقع في إنكار المعنى تماما أذ أن هناك فرق بين رفض الاستبداد الفكري، وبين السقوط في العدمية.
- تحرير المفاهيم من المصالح الضيقة: كل مفهوم يجب أن يُفهم في سياقه، لكن لا ينبغي أن يُستخدم فقط كأداة للمصالح الخاصة فالحقيقة، إن وُجدت، يجب أن تكون قادرة على تجاوز الحدود الأيديولوجية.
وأخيرا فإن صراع المفاهيم ليس مجرد لعبة فكرية، بل هو المعركة الحقيقية التي تحدد كيفية فهم العالم، وفهم ذواتنا، وكيف يمكن أن يكون المفهوم إنسانية يتجاوز الدوائر ويحقق الأمن العالمي المشترك، ويلغي منابع الأحادية والهيمنة والتطرف والأناذية (هاالأناذية هو مفهوم استعلائي يكون من ثلاث مفردات( الهاء لاثبات المركزية، والأنا لتعظيمها وذيه، تعني الإشارة إلى المحور الذي يجب على الآخر الدوران فيه) : في النهاية، لا يتعلق الأمر فقط بمن يحدد المعاني، بل بمن يملك القدرة على جعلها قابلة للحياة.
هل يمكننا أن نصل إلى مفاهيم وأفكار تكون متحررة من السلطة، لكنها ليست فارغة المعنى؟ هل يمكننا أن نؤمن بفكرة دون أن نجعلها مطلقة، وأن ننقدها دون أن نسقط في العدمية؟
ربما يكون الحل ليس في الانتصار في الصراع، بل في تجاوزه، و في خلق فكر قادر على استيعاب التعقيد دون أن يفقد المعنى وعلى احتضان التعدد، دون أن يتحول إلى فوضى.
لأن الحقيقة ليست في امتلاك المفهوم الأقوى، بل في امتلاك القدرة على إعادة التفكير المستمر الذي يحقق حقيقة التسمية الآدمية لصناعة الاستخلاف.