التحسس وتحديات العلاقات المجتمعية والانسانية
التحسس بين أزمة النفس والمجتمع
د. جمال الهاشمي
يقول جان بول ساتر “إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعاني بوعي، فيخلق لنفسه جحيما من كلمات الآخرين.” ذلك أن أزمة التحسس هي حصيلة بيئة قولبت الإنسان على نمطها فقد تنمو هذه الحساسيات بالمدرسة والجامعة حيث يكون التعليم وأساليب التربية من أدوات الهدم والتدمير وقمع الآراء ونشر ثقافة العبودية.
حين يمر النسيم بين أغصان الروح الهشة والقلقة قد يكون أزيز صوته اعتى من الرياح العاتية، إن التحسس اليوم يعكس هشاشة النفوس وعنفها ، إنه ذاك الشعور الطاغي الذي يحول الكلمات العابرة إلى سهام، والنظرات العادية إلى محاكمات، والمواقف البريئة إلى جروح لا تندمل.
فما الذي يجعل بعض النفوس أكثر هشاشة من غيرها؟
فالتحسس النفسي ليس مجرد انفعال لحظي بل هو انعكاس لطبقات عميقة من التجارب والخبرات التي تراكمت على مدى العمر، فأصبحت في النفس جزءا منها وطبعا فيها، يقول أفلاطون: “نحن لا نرى الأشياء كما هي، بل كما نحن.” أي أن تفسيرنا للأشياء تكس نفوسنا عليها لا كما هي عليها في الحقيقة، وهنا تتمحور في الذات إشكالية الحقيقية، وتكمن المعضلة، فالأرواح التي حملت أثقال الماضي تنظر إلى الحاضر بعين الجراح لا بعين الحقيقة.
كثيرا ما يكون التحسس نتيجة ثقة مهشمة تشكلت بفعل تربية قاسية، أو بيئة تعليمية أو مجتمعية سيئة أو نقد لاذع متكرر، أو حب مشروط بمقابل، وكل هذه التجارب جعلت التوجس الدائم في البعض حتى من نظرات الآخرين.
وكما قال نيتشه: “ما يحطم الإنسان ليس ما يمر به، بل تفسيره لما يمر به” فالتحسس النفسي في جوهره ليس استجابةً لما يحدث، بل لِما ترويه النفس عن الحدث.
ومع هذا ليس التحسس ضعفا، بل هو دليل على وعي عاطفي مرتفع قد يتحول بالعوامل إلى نعمة أو نقمة؛ فالرهافة قد تجعل الإنسان شاعرا يرى ما لا يراه الآخرون، وقد قد تسجنه في قفص التأويلات المفرطة، وعندما قال ديكارت: “أنا أفكر إذن أنا موجود”، لم يكن يتخيل أن التفكير الزائد قد يجعل من وجوده أكثر من الحاجة لدرجة تؤذيه، وهكذا البعض يعسى للتواجد في كل شيء لدرجة يفقد فيه الشغف ويتحول إلى إحساس مفرط وشخصية مستبدة تكمن وراءها نفسية لا تقبل نفسها، وقد تدخله في متاهة من التفسيرات المبالغ فيها، و قد تكون الكلمة العابرة في حديث عادي بمثابة طعنة لمن اعتاد أن يُساء فهمه، وقد تصبح النظرة غير المقصودة تأكيدا على شعور داخلي بالرفض أو الإقصاء.
ورغم أنه هذه المنحة من الذكاء العاطفي تدير التدمير للشخص وتدخله في عزلة تفكك عرى العلاقات المجتمعية والأسرية، فإنه في المقابل ليس مطالبا أن يلغي حساسيته، وإنما عليه أن يتعلم كيف يديرها.
وليأخذ بقول ماركوس أوريليوس: “لا تؤذيك الأشياء ذاتها بل رأيك عنها” وأن الحل ليس في تغيير العالم بل في تغيير زاوية النظر إليه والتعامل معه بضوابط القيم الدينية والإنسانية والعدلية والحذر من حسن العبر والشك من سوء الفطن وهنا نتطرق إلى وضع قواعد أساسية تعيد توطين الذاتية العاقلة من خلال:
- الوعي الذاتي: وهو أن نضع لأنفسنا إدراكا موضوعيا فنوطن النفس على أن ما نشعر به ليس دائما انعكاسا للواقع، بل لانعكاس تفسيرنا عليه، هنا يمتزج الحسن بالعقل فيؤدي الى وعي متزن متوازن بين النفس والعقل.
- إعادة التأطير: وهو توطين النفس على قبول النقد ومعارضة الرأي وذلك من خلال إعادة رؤيتنا للنقد على أنه تقييم وليس إهانة، وأن الناقد قد يدفعنا بنقده نحو الكمال، وقد ورد في الأثر “رحم الله من أهدى لي عيوبي”.
- التصالح مع الذات: وهذا التصالح يقودنا إلى قبول أنفسنا على أن الإنسان ناقص وأن سعيه وكدحه ومكابدته طريقه نحو الكمال او التمام.
- تقوية الثقة بالنفس: فالشخص الواثق لا يتأثر بسهولة بتقلبات الآراء من حوله، بل يزنها بميزان العدل والواقع والمصلحة، لذلك نجد كثيرا من الناس تبرز وجودها بالنصائح والمشورات ولكنها لا تستطيع أن تسلك مسالك نصحها ومشورتها، فالمستشار قد يكون عاجزا قاصرا لأن المشورة تعنى المشاركة .
وهناك علاقة عميقة بين الحساسية والنفاق، فقد يلجأ الحساس إلى التكيف مع كل الظروف لحفظ مصالحه، فينتقل من الدفاع عن النفس وتبرير تصرفاتها تتبع الزلات واذاعتها، وقد رأى الغزالي أن للقيم دورا في تهذيب هذه النفسية وأن التجرد منها يقود إلى النفاق، فيقول” المؤمن يغفر زلات الناس والمنافق يتربص لها” .
والتحسس ليس مجرد استجابة عاطفية بل هو عدسة مشوشة يٌرى من خلالها العالم، فمن تهين عليه الظنون لا يطمئن للنوايا، ولا يرى في العالم سوى مرآة لقلقه الداخلي.
يقول الغزالي في الإحياء “الأصل في المعاملة حسن الظن ومن غلب عليه سوء الظن فقد أتعب نفسه وأفسد دنياه” وهذا الفساد يقود إلى إفساد العلاقات ومن ثم فساد المجتمع ، وهذه الفساد أصبح من أهم مظاهر المجتمعات التي رزحت تحت عباءة النفاق الديني أو تحت وطأة الاستبداد السياسي، أو تحت عبودية المصلحة الذاتية، ويقول ابن تيمية: “إذا صار القلب ضعيفا اشتد تأثير الوهم عليه، فصار يرى ما لا حقيقة له”.
وهذا هو جوهر العلاقة بين التحسس وانعدام الثقة؛ فالشخص المتحسس يشعر بأن السهام عليه وأنه مستهدف من كل شيء، ولذلك نجد أن كثير من متخصصي علم النفس مأسورون لهذه المعضلة، لا سيما أولئك الذين لم تكن لهم قاعدة أخلاقية أو دينية يحتمون بها، لأن القيم تهذب النفوس وتعيد تربيتها ، ومن النفس من تصل إلى مرحلة الطمأنينة فتشعر معها الاطمئنان، أو تكون أوابة لوامة لنفسها فلا تخاف معها العدل أو تصل إلى السوء المحض لأن بداية سوء النفس يكون بإساءة الظن ، فإذا اجتمع فيها حساسية النفس والظن تولدت النفسية السيئة، وانعتق عليها فلا تنبت إلا سوءا.
وعند ديكارت: “الشك هو أصل الحكمة، لكنه أيضا قد يكون أصل العذاب.” وقد ورد عن ابن حزم أن سوء الظن من حسن الفطن، عكس الشافعي الذي قال: حسن الظن من حسن الفطن، ويرجع ذلك إلى اختلاف البيئتين، ذلك أن بيئة الشافعي بيئة عربية محضة تقاربت الثقافة مع بعضها من غزة إلى مكة ومنها إلى اليمن ومصر، كل هذه الجغرافيا كانت تحمل ثلاث بنيات ثقافية ، بنية القيم الإسلامية وبنية القيم العربية وبنية القيم المسيحية الأريوسية أو المرقيونية ومعها تحض على النبالة والأخلاق فكان حسن الظن في هذه البيئات هو الأعم الأغلب .
أما بيئة ابن حزم في جزيرة إيبرية فقد كان التداخل الثقافي واحد من أهم قوارض الأخلاق، إذ تستغل الثقافات الدنيا الثقافات العلية مما يحفز في الثقافة العلية ثقافة الممانعة ثم المماثلة ثم الاندماج، وهذه الذي أشار إليها ابن حزم ما تزال تهيمن على المجتمعات التي تتعدد فيها الثقافات وتتداخل مع بعضها على مستوى العامة والعوام، لأن هذه القاعدة الكبرى تميل إلى التكيف والتقليد لاحتكاكها المتواصل مع الناس بالمهن والأعمال والتجاربة، ولذلك برزت مهن محتقرة في الثقافة العربية ، وهي أيضا ثقافة محتقرة في المجتمعات الأوروبية ، ولذلك يجعل القاضي من مهنة الشخص ومهنة والديه وثقافته الأصلية وسائل مقاربة لمعرفة الحقيقة.
فالشك إن خرج عن حدوده الطبيعية لا يقود إلى فهم الحقائق بل تشويهها، ولا يقوي العلاقات المجتمعية بل يهدمها، ولا يؤدي الى العزلة بل إلى الاغتراب النفسي، ومن يعيش في دائرة الشك الدائم، لن يجد في العالم سوى ما يعزز قلقه وقد ينجو أحيانا بشكوكه لا بفطنته ويخسر الكثير من العلاقات الصادقة التي قد تخرجه من الانطواء وأزمة النفس والاحباط والفشل.
ويؤكد ابن القيم أن “النفوس الطاهرة لا تحمل إلا حسن الظن. وأما المريضة فلا ترى إلا السوء”، فالطهارة قيمة في النفس تمنعها من التصاق الشوائب والأدران وترفع من مكارم السلوك.
وقد أحسن جلال الدين الرومي بمقولته “لا تحبس نفسك في قفص أفكارك فالأفق أوسع من أن يُرى بعين واحدة.”
وفي أعماق النفس البشرية يوجد خيط رفيع بين التحسس المفرط والنفاق الاجتماعي؛ ويقول أبو حامد الغزالي: “من غلب عليه التحسس وسوء الظن، ضاق قلبه واشتد بلاؤه، حتى يظن بالناس ما لا حقيقة له.” وهذا هو جوهر المشكلة لأنه يرهق النفس بتأويلات لا تنتهي حيث يضعف حسن الظن ويتحول العقل إلى ساحة من الافتراضات السلبية، وعندما يصبح الفرد حساسا فإن حساسيته تتحول الى عنف كامن و قد يُخفي مشاعره الحقيقية متظاهرا بالتقبل والوداعة والمديح لكنه يحمل في داخله استياء مكتوما، وسوءا قد يتحول إلى أزمة أخلاقية وهنا يتحول التحسس إلى ما يشبه النفاق النفسي؛ حيث يظهر الإنسان على غير ما يشعر، ويتعامل مع الآخرين بمظاهر القبول من وراءها غصة لا تزول.
والنفاق عند ابن تيمية يبدأ حين يُظهر الإنسان غير ما يبطن، خوفا أو طمعا أو مراعاة للناس، وعندما يكون الشخص متحسسا، فإنه يخشى المواجهة ويعتزل الناس بل ويصل به إلى كتمان الشهادة وهذه من أكبر مفاسد المجتمعات الخوف من مقولة الحق لأن الشهادة هي رقابة مجتمعية وأحد ضوابط التربية الذاتية للفرد والجماعة ، ومع هذا فإن النفس لا تتحمل الكتمان المستمر فتلجأ إلى:
– الانتقام غير المباشر: حيث يتجنب الشخص المواجهة الصريحة لكنه يُظهر امتعاضه في تصرفات مبطنة، وقد يبحث عمن يدافع عنه.
– الغيبة والنميمة: لأن الشخص الحساس لا يواجه بل يُفضل أن يبث شكواه لمن حوله بدلا من مواجهة من تسبب في ألمه حيث يكون الانتقاد الذي يكون من الخلف بدلا من النقد الذي يتطلب المواجهة.
– المبالغة في التودد مع وجود كراهية داخلية: وهذا هو النفاق في أوج صوره حيث يُظهر الشخص عكس ما يشعر به، “وإن يقولوا لتسمع لقولهم”
لذلك، فإن الحل يكمن في:
- تعلم التعبير عن المشاعر بلياقة أدبية دون مبالغة أو عدوانية أو تجاوز للحق.
- التوقف عن البحث عن المعاني الخفية في كل موقف والحكم بالظاهر .
- الإدراك بأن الناس ليسوا بالضرورة أعداء، وأن المعاملة تقوم على البراءة الأصلية.
- التعامل الواضح وأن النفاق لا يحمي الإنسان أو يدافع عنه بل يلقيه في أتون من الصراع النفسي ومتابعة الأخرين والتصنع والإنهاك النفسي.
أخيرا يقول:جلال الدين الرومي. “أنت ما تخفيه لا ما تُظهره”.