التحالف العائد: السعودية وأمريكا بين الواقعية السياسية و إعادة تشكيل النظام العالمي

0 12

 

التحالف العائد: السعودية وأمريكا بين الواقعية السياسية و إعادة تشكيل النظام العالمي

 

د. جمال الهاشمي

يعيد التاريخ تشكيل التحالفات الكبرى عندما تلتقي مصالح الدول ومع مدركات التوازن، وتعد زيارة الرئيس دونالد ترامب الثانية إلى المملكة العربية السعودية، وتوقيع اتفاقية استثمارية واستراتيجية بقيمة تريليون دولار عودة واعية لتحالف يعيد رسم توازن القوى في الشرق الأوسط والعالم.

كما تأتي أهمية المملكة العربية السعودية  من أهمية موقعها في قلب العالم الإسلامي وثروتها النفطية وثقلها السياسي هو حجر الزاوية في معمار الشرق الأوسط وفي المقابل تمثل الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الطرف الأكثر قدرة على فرض قواعد النظام العالمي وفي هذه اللحظة الحتمية التي تشهد  تراجع الليبرالية في النظام الدولي وتزداد فيها ملامح التعددية القطبية بعودة روسيا وصعود الصين اختارت كل من الرياض وواشنطن إعادة التمركز في الدولي كضرورة استراتيجية يميلها العقل السياسي واستراتيجية المصالح الدائمة ونستعرض هنا أبعاد إعادة إحياء التحالف القديم:

الجغرافيا السياسية وإعادة ترتيب الأدوار.

إن طبيعة التحالفات تتحول مع متغيرات محلية ودولية ولم تعد القواعد العسكرية والنفط وحدها أدوات النفوذ. بل تطورت اليوم مع البيانات والطاقة المتجددة و الأقمار الصناعية و أنظمة الدفاع السيبراني، وعقود الذكاء الاصطناعي التي تعد من أسلحة القرن الجديد.

والسعودية، بتحالفها مع واشنطن على أسس جديدة تدخل هذا العصر كدولة تعيد تعريف دورها لا كطرف تابع بل كفاعل يملك القرار والنفوذ، انطلاقا من مقولة كيسنجر “أن الدولة التي لا تستطيع تحديد مصالحها، ستجد نفسها دائما تخدم مصالح الآخرين وفي 2025 يبدو أن السعودية بدأت تكتب مصالحها بنفسها.

وتعمل هذه  الاتفاقية الجديدة مع ترامب 2025 على إعادة ضبط معادلة الردع والتوازن في المنطقة التي باتت تشهد فراغا استراتيجيا بعد غزو دولة العراق وتخلله حينها تدخلات إقليمية وتصاعد في الحركات الجهوية والطائفية والعقدية ثم استتبعه انسحاب تدريجي للقوى التقليدية مع تزايد في صعود جهات فاعلة غير نظامية.

وإيران في ظل رفع بعض العقوبات وتقاربها مع الصين لم تعد مجرد تهديد نووي بل مشروع نفوذ إقليمي، وتركيا تعود كلاعب متعدد الاتجاهات  وروسيا تعمق وجودها في البحر الأبيض المتوسط بينما الصين تبني نفوذا اقتصاديا ناعما في الخليج والقرن الإفريقي.

وفي هذا السياق تمثل السعودية حائط الصد الأول بينما تمثل أمريكا القوة الكاسحة المترددة والتحالف بينهما يعيد صوغ الردع الوقائي الذي اعتمدته واشنطن إبان الحرب الباردة.

ولم يعد الخليج العربي مجرد مصدر نفط شريان الطاقة المغذية للاقتصادات الناشئة في الصين الهند، وإنما أيضا مسرحا للتقنيات السيبرانية والجيوفضائية  (أقمار اصطناعية، مراقبة موانئ، أنظمة دفاع جوي) وهو ما جعل أمن الخليج أحد أعمدة الأمن العالمي.

والاتفاقية الجديدة توفر للسعودية وصولا لمنظومات الدفاع الأمريكية المتقدمة (THAADوالدفاع السيبراني والذكاء الاصطناعي العسكري)  ما يجعلها مركزا تنسيقيا للأمن الجماعي الخليجي.

كما أن السعودية بتوسطها بين البحر الأحمر والخليج العربي ومن خلال مشروعات نيوم البحر الأحمر والموانئ الجديدة  تتحول إلى بوابة استراتيجية تربط بين آسيا الوسطى بالبحر الأحمر والقارة الإفريقية بطرق التجارة الرقمية والمادية والغرب بالمشرق العربي.

والاستثمار الأمريكي في هذه البنى التحتية ليس مجرد ربح اقتصادي بل تثبيت لنفوذ طويل الأمد ضمن منافسة شرسة مع الصين التي تدفع بمبادرة الحزام والطريق نحو نفس الفضاء الجغرافي.

لا سيما وأن الشرق الأوسط لن يتحول في المدى المنظور إلى منطقة سلام دائم وهو ما قد يجعل من التحالف الأمريكي–السعودي أداة لإدارة الفوضى لا لإنهائها نظرا لتعقد هذه الأزمات وتداخل الأبعاد المحلية والدولية، كما قد يؤدي هذا التحالف إلى دعم التوازن في اليمن، سوريا، والعراق والضغط على القوى الفوضوية دون الانخراط العسكري المباشر معها، وتعزيز “الاحتواء النشط” لإيران دون الذهاب إلى صدام شامل، بهذه العلاقة يصبح التحالف أداة واقعية لا مثالية ( أوتوبيوتيكية).

إعادة تعريف الجغرافيا الاستراتيجية:

في بدايات القرن العشرين لم تكن الجزيرة العربية سوى مساحة فارغة في خرائط القوى الأوروبية. أما اليوم و في ضوء التحولات العالمية التي تشهد انتقال مركز الثقل من المحيط الأطلسي إلى أوراسيا والمحيطين الهندي والهادئ فإن المملكة العربية السعودية  بموقعها بين البحرين الأحمر والخليج صارت أكثر من صحراء… إنها نقطة تقاطع بين المحاور الكبرى للتجارة والطاقة والتقنية والسيطرة السياسية.

وتتمركز القوة الحاسمة في أوراسيا في قلب العالم الممتد من وسط روسيا إلى آسيا الوسطى. أما القوى البحرية (البحرية الأمريكية والبريطانية سابقا) فهي القوى المحيطية التي حاولت دوما تطويق هذا القلب وفي هذا السياق:

تقع السعودية على حافة قلب العالم لكنها تتحكم بممراته؛ باب المندب يربط المحيط الهندي بالبحر الأحمر والخليج العربي يربط ممرات الطاقة بالعالم الصناعي، والدرع العربي النوبي يضعها على تماس مع القرن الإفريقي وصحراء مصر.

ومن هنا فإن السيطرة الناعمة أو التحالف مع السعودية يعادل امتلاك نقطة ارتكاز استراتيجية تطوق قلب أوراسيا وتراقب مسارات الصين وإيران وروسيا في آن واحد، تدرك الولايات المتحدة أن سيطرتها لم تعد مطلقة.

وأن الانكفاء عن الشرق الأوسط جلب فراغا ملأته موسكو وبكين، ولذا، جاء استثمار التريليون دولار السعودي في الاقتصاد الأمريكي ليس فقط لدعم واشنطن بل لإعادة الربط الجيوسياسي بين القوة البحرية الأمريكية والموقع البري الحيوي للسعودية، هذا التحالف وهذا يبقي واشنطن على تماس مباشر مع ممرات الطاقة البحرية، يمنح السعودية أدوات تكنولوجية تجعلها حارسا رقميا للطوق حول قلب أوراسيا، ويخلق كتلة استراتيجية تمتد من الخليج إلى المتوسط يمكن استخدامها ضد التمدد الإيراني والصيني.

وهنا يمكننا أن نحدد المشهد العالمي في ميزان الجغرافيا من خلال:

– اندفاع الصين نحو الخليج عبر مشاريع الحزام والطريق وفي المقابل تصطدم بجدار التحالف السعودي–الأمريكي.

– إيران تحاول بناء هلال نفوذ عبر العراق وسوريا ولبنان وفي المقابل تعزز السعودية دفاعاتها وتحالفاتها الإقليمية.

– أن روسيا تواصل التحرك في البحر الأسود وسوريا لكنها معزولة جغرافيا عن الخليج باستثناء قناة برية ضيقة.

وفي هذا الميزان تصبح السعودية بوابة عبور لا غنى عنها، وقاعدة إمداد، وصمام توازن بين اليابسة والبحر.

وفقا لمنطق ماكندر، فإن القوى الكبرى لا تسيطر بالأساطيل فقط بل بـ مفاتيح الجغرافيا، وبعد قرن من التجاهل الجغرافي للمملكة أثبتت اليوم أن من يسيطر على مفاصل شبه الجزيرة وممرات الطاقة والمواقع البحرية الحرجة يمتلك سلطة حقيقية على حركة الاقتصاد والسياسة والسلاح.

في عام 1890، كتب ألفريد ماهان إن مفاتيح القوة العالمية ليست في البر وحده بل في السيطرة على البحر حيث تمر التجارة وتخاض الحروب وتصنع الإمبراطوريات وبهذا المنطق البحري الواقعي اكتشفت السعودية والولايات المتحدة اهذه الحقيقة وهو ما يعبر عنه التحالف الاستراتيجي الذي يعيد رسم خرائط النفوذ البحري في الخليج والبحر الأحمر والمحيط الهندي؛ إنه تحالف من أجل الطوق – طوق بحري يحيط بقلب أوراسيا ويمنح أمريكا وحلفاءها القدرة على احتواء خصومها الجغرافيين عبر سيطرة بحرية ناعمة وصلبة.

ووفق منطق ماهان فإن الدولة التي تتحكم بمضائق بحرية  وتملك موانئ استراتيجية وتستثمر في أسطول مدني وتجاري وعسكري قوي يمكنها أن تعيد صياغة مقدرات القوة العالمية وبناء عليه فإن السعودية تشارك في الإشراف على مضيق باب المندب في مدخل البحر الأحمر ومضيق هرمز على الخليج العربي وموانئ ناشئة على البحر الأحمر (ينبع، جدة، نيوم) وعلى الخليج (الجبيل، الدمام) وبهذه المزايا فإن السعودية تمثل نقطة ارتكاز بحرية ضمن طوق يربط المحيط الهندي بالمتوسط ويقف بوجه المحور الصيني–الإيراني.

 

من الجغرافيا الصلبة إلى الجيوسياسة المتحركة

إن الدورة في نظر فريدريش راتزل، مؤسس الجيوبوليتيك الألماني، كائن حي ينمو ويتمدد وفق منطق الأرض لا الإيديولوجيا وفي ضوء هذا المفهوم لا يمكن فهم اليمن وسوريا اليوم كملفات أمنية معزولة بل كعقدتين استراتيجيتين في خريطة التمدد الإقليمي وبوابتين لتكامل سعودي–أمريكي جديد في مشروع توازن الشرق الأوسط.

فالاتفاقيات الأمريكية–السعودية لم تكن مجرد شراكات أمنية واقتصادية فحسب وإنما هي خارطة تمدد جيوبوليتيكي محسوبة لن تكون الحدود حواجز ثابته وإنما هي مساحات قابلة للتشكيل، واستشهد براتزل الذي يرى أن السيادة البحرية تبدأ من الأرض الصلبة وتمثل اليمن من مضيق باب المندب إلى سواحل المهرة قاعدة استراتيجية لممرات الطاقة ومجالا حيويا للهيمنة على البحر الأحمر وخط تماس مباشر مع القرن الأفريقي ومنه إلى المحيط الهندي.

ومن هنا فإن الاستثمار السعودي الأمريكي في إعادة تأهيل الدولة اليمنية (عبر الأمن، الطاقة، الموانئ، الاتصالات) ليس مجرد دعم سياسي بل امتداد طبيعي لدولتين تسعيان لتأمين حدودهما الحية من التآكل الإيراني والاضطراب الداخلي.

وتعد سوريا من جهة أخرى الهضبة الشمالية للمجال العربي الحيوي وفي قلب الهلال الخصيب ومن يسيطر على الهضاب الداخلية يحدد مصير المناطق الساحلية المجاورة حيث تتحكم بتقاطع طرق الطاقة والأنابيب من العراق إلى المتوسط وخطوط النفوذ الروسي والإيراني وهي ومدخل التوازن مع تركيا شمالا.

وقد تضمن في الاتفاقيات السعودية – الأمريكية إعادة إدماج سوريا في المنظومة العربية بدعم أمريكي–سعودي مشروط وتعد محاولة لجر دمشق بعيدا عن المجال الجيوسياسي الإيراني–الروسي وإعادتها كعازل حيوي في قلب المنطقة، وفي النظريات الجيوسياسية ما يؤكد على أن لا تترك المناطق الإستراتيجية دون لاعب مهيمن والتحالف السعودي–الأمريكي يتجه نحو ملء الفراغات الجيوسياسية في اليمن وسوريا عبر أدوات التنمية و الأمن والاستثمار وتحويل هذه المناطق من ساحات للنفوذ الخارجي إلى نقاط ارتكاز داخلية في مشروع الاستقرار الإقليمي.

ومن هذا المنظور لا لن اليمن وسوريا عبئا على دول المنطقة والأمن العالمي وإنما امتدادان طبيعيان لمجال النفوذ، وفق مبدأ المجال الحيوي.

هذا الامتداد الحضاري الذي يربط اليمن كعمق استراتيجي بسوريا كمجال حيوي عبر القلب في المملكة العربية السعودية يعد من أهم مرتكزات صناعة المشروع الحضاري العربي وأحد ملامح تشكيل خارطة الشرق الأوسط الجديد بعقلية عربية وهي عكس عقلية الشرق الأوسط الأمريكية.

من جهة أخرى نجد الصين تتحرك في البحر الأحمر والقرن الأفريقي عبر الموانئ والقروض، وإيران تحاول تكريس نفوذها العميق في صنعاء ودمشق كأوراق تفاوض عالمية، وهذه التحركات تحدث ضغطا جيوبوليتيكيا يستدعي رد فعل من القوى المجاورة ذات الطموح الإقليمي، وهنا يأتي التحالف السعودي–الأمريكي بعد فشل التحالف العربي كاستجابة استراتيجية لتلك الضغوط وغايتها تثبيت الحدود الجيوسياسية قبل أن يعاد رسمها من قِبل منافسين طموحين والحقيقة أن إن من لا يفهم منطق الجغرافيا سيخسر معارك الجيوسياسة واليمن ليست أزمة إنسانية كما تنظر اليه قوى النفوذ المحلية المتصارعة بل ركيزة جغرافية بحرية، وسوريا ليست فقط ساحة صراع بقدر ما هي هضبة مركزية في قلب الشرق العربي.

وبين الرياض وواشنطن لا يعاد ترتيب الأوراق وهذا ضروريا وإنما يعاد رسم المجال الحيوي للمستقبل ووفقا لهذه الرؤية يسعى التحالف لرسم ما يلي:

  • خريطة جيوبوليتيكية تعيد تشكيل المجال الحيوي العربي
  • رسم مشروع إحكام الطوق الجغرافي الاستراتيجي.
  • رسم المحور البحري من خلال العمق الاستراتيجي لليمن والبحر الأحمر والهدف من ذلك إعادة تأهيل الموانئ (النفطية واللوجستية) لتأمين خطوط التجارة عبر البحر الأحمر، وأن تظل سقطرى قاعدة بحرية–بيئية للمراقبة المتقدمة ببحرية عربية مشتركة، ومن ثم تحييد النفوذ الإيراني في الحديدة وتعز عبر أذرع محلية مدعومة.

والنتيجة من ذلك تحويل اليمن من ساحة فوضى إلى حاجز جيوبوليتيكي يمنع التمدد الإيراني ويحمي الشريان الملاحي العالمي.

أما بالنسبة للمحور البري في سوريا والهلال الخصيب فإن إعادة إدخال سوريا ضمن الطوق العربي المعتدل فمن دمشق إلى دير الزور تتربع مشاريع ربط طاقي (أنابيب غاز محتملة من الخليج عبر الأردن، ومن  الرقّة – إدلب – حلب  اختراق تدريجي للنفوذ التركي والهدف منها الحد من سيطرة الجماعات غير المنضبطة ويعدعم دمشق مقابل كبح إيران ضمن استراتيجية فك الارتباط الناعم.

والغاية منها استعادة سوريا ككتلة جيوبوليتيكية تمنع تشكل ممر شيعي من طهران إلى بيروت، وتعيد مركزية الدولة العربية، ويتربع المحور الجوي في قاعدة خميش مشيط جنوب السعودية كمركز مراقبة جوية للتقاطعات بين اليمن، القرن الأفريقي، والبحر الأحمر، وسيكون موقعا للأقمار الصناعية وتحليل البيانات بشراكة سعودية–أمريكية لمراقبة الحركة الإقليمية وتدفقات السلاح.

والاستثمار في الاقتصاد أيضا مهما لضمان ديمومة التحالف الاستراتيجي، وهو ما نسميه بالطوف الاقتصادي التنموي حيث سيعلن مستقبلا بإعلان صندوق تنمية سوري–يمني مشترك بتمويل سعودي–خليجي، وبإدارة تقنية أمريكية، وسيتم إنشاء مدن لوجستية ذكية من عدن إلى حماة من أجل اخضاع الجغرافيا لمعادلة الاستثمار كبديل للحرب، ويمكن اشراك ايران في التنمية السلمية إذا ما تخلت عن مشاريعها الطائفية في المنطقة مع دعوات ترامب الجديدة الذي تحركه صفقات تجارية ونظام السوق والتنمية.

ومن هنا يتبين لنا أن السعودية تتحول إلى مركز ثقل جغرافي–سياسي عربي وأمريكا تستعيد نفوذها بذكاء دون احتلال وبذلك تحتوي الصين وإيران عبر شبكة الجغرافيا الناعمة.

الشرق الأوسط واقتراب المباريات:

خلال العقود الماضية  كان ينظر إلى الشرق الأوسط كساحة صراع بين اللاعبين الكبار بينما دخلت في اللعبة أرقام إقليمية وفي مقدمتها العربية السعودية وبعقلية حداثية أشبه بتحديثات القيصر الروسي والدولة القيصرية ونفس السياق اليوم من خلال القوة المالية الناعمة التي من خلالها تنتقل المعرفة عبر الجغرافيا،

ولأول مرة منذ قرن تحولت الدول الإقليمية وعلى رأسها السعودية  إلى فاعلين استراتيجيين مستقلين  واختارت الرياض ألا تكتفي بلعب دور الموازن الإقليمي وإنما بما تمتلكه من مقومات  تملي إيقاعها الخاص في التوازن بين واشنطن وبكين وطهران وتل أبيب.

إن الشرق الأوسط وفقا لارهاصات ممتدة ما يزال من أعقد مناطق العالم في أزماته و لا يمكن فهمه بمنطق التعايش وإنما بمنطق السيطرة ونظرية الحجاج الثقفي وعقلية عبد الملك بن مروان،  لا سيما وقد تحول من ساحة تتقاذفها الإمبراطوريات إلى مسرح تتصارع فيه قوى إقليمية وعالمية وكل لاعب يحاول  أن يكون الأمير لا التابع وهو ما يعيدنا إلى منطق ميكافيللي عراب الواقعية القاسية أن العالم لا تحكمه المبادئ بل المصلحة ولا تقوده العدالة بل القوة، ولا تصنعه النوايا بل الأفعال.

لقد كانت دول الشرق الأوسط في الماضي موضوعا للسياسة لا فاعلا فيها. أما اليوم فقد تغير المشهد حيث أن السعودية حولت المال إلى نفوذ وقفزت من هامش النفط إلى مركز الجغرافيا، بينما إيران تسيطر عبر الوكلاء وتستخدم الطائفة أداة للحكم خارج الحدود وتركيا ترفع راية الخلافة السياسية وتوازن بين الغرب وخصومه وإسرائيل لم تعد مجرد كيان دفاعي بل لاعب تقني–أمني على مستوى القارات والإمارات وقطر تخوضان حربا ناعمة داخل العقول والفضاء الإعلامي.

وهنا تبدو لي أن الميكافيلية واضحة فمن لا يمتلك أدوات التأثير يصبح ساحة لصراع غيره مهما كانت نواياه.

كما لم تعد أمريكا تنظر إلى الشرق الأوسط كخزان نفط فقط بل كجبهة أمامية في صراعها الأوسع مع بكين، وهنا تظهر السعودية لا كحليف تقليدي  بل كأمير ميكافيللي جديد تتفاوض بندية وتبرم صفقات من موقع القوة وتبني استراتيجيتها على قاعدة الولاء مقابل المصالح لا المبادئ.

أما ترامب في نظر ميكافيللي ليس رجلا عاطفيا بل تاجرا في أسواق السلطة، ولهذا فهو يعرف جيدا؛ أن من يملك المال والنفوذ مثل السعودية لا يخطب وده  بل يطلب شراكته.

وفي المقابل يتربع الأمير الصيني الآخر الذي يتقدم بلا دماء، ويعجبني ميكافيللي بمقولته المعروفة أن الحروب الذكية تكسب قبل أن تبدأ، مما يعني دقة التخطيط في وضع الاستراتيجيات قبل الدخول فيها وهذا بالضبط ما تفعله الصين في الشرق الأوسط:

  • تبني موانئ
  • تمنح القروض
  • تزرع التقنية وتشتري الصمت.

ومع هذا فإن الشرق الأوسط الجديد بعد سنوات من الفوضى صار يدرك أن التبعية الناعمة قد تكون أخطر من الاحتلال العسكري ولهذا فإن السعودية والإمارات ومصر… لا تفتح الأبواب مجانا بل تضع ثمنا لكل خطوة.

يضع مكافيللي قاعدة جديدة وهي قاعدة الحجاج بن يوسف قبله ، أن الأمير الحكيم هو من يُخشى لا من يُحب والشرق الأوسط اليوم لم يعد يثق بالحب الدولي ولا بالعهود الغربية.

بل بات يصنع أدواته بنفسه:

  • الصناعات الدفاعية،
  • القواعد الجوية،
  • الإعلام العابر للحدود،
  • مشاريع السيطرة على الممرات البحرية.

لم تعد المنطقة تطلب الأمن من غيرها بل تبني أمنها بيديها حتى لو احترقت.

لا أخلاق في سياسة اليوم وإنما الثقة بالنتائج على الواقع وأن الأمراء الجدد في منطقة الشرق الأوسط المعاصر لم يعودوا دمى على خريطة الآخرين بل أقلام على جدار الزمن لأن المنطقة لم تعد ملعبا بين الغرب والشرق فقط بل رقعة شطرنج حقيقية تتقدم فيها بيادق عربية كلاعبين مؤثرين ومن لا يجرؤ على اللعب سيخرج من الحلبة إلى الأبد.

السياسة وفن التوازن بين القوة والاضطراب

لا تقاس السياسة الخارجية بالخطابات أو النوايا التي تهمين كثيرا على دول الأزمات من خطابات ثورية إلى خطابات الشكوى والمظلومية، وإنما تقاس بميزان القوى وقواعد النظام العالمي وبأدوات حفظه أو تعديله، ودونالد ترامب رغم خطابه الشعبوي تحرك وفق تصور براغماتي بارد ليس السعودية كحليف اقتصادي ، وإنما يسعى لتشكيل محور جديد يعيد فيه ضبط التوازن في منطقة الشرق الأوسط بعد ما اعتبره سنوات من الانكفاء الأميركي وتمكين الخصوم، ولغته البراجماتية لا تقصي إيران عن الدخول في هذا المحور وهنا نجد أن توجهاته لإيران أعمق من موضوع المعرفة النووية التي قد تفصل ايران كلية عن العالم الغربي، وهذا المشروع الجديد للشرق الأوسط هي رؤية جديدة ضمن تحالف فرضه توازن القوى وهو بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط فرصة ذهبية لنقل المعرفة التكنولوجية والتقنية من خلال العلاقات الاقتصادية.

إن المصلحة لا تعني الولاء بقدر ما تعبر عن الحاجات المتبادلة ومن هذا المنظور تحرك ترامب نحو السعودية مدفوعة باعتبارات الاقتصاد والطاقة و صفقات استثمارية ضخمة ووعود بتوليد وظائف داخل أمريكا واحتواء إيران من خلال السعودية كدرع إقليمي لوقف التمدد الإيراني أو لدمجها في مشروع الشرق الأوسط الجديد التي ترسمه ملامح الاقتصاد العابرة للحدود لا الاعتبارات العسكرية ومن ثم التمهيد لنظام إقليمي جديد تنخرط فيه إسرائيل والعرب ضمن تصور أمريكي للهيمنة الناعمة وهذه التحركات هي محاولة لإعادة هندسة التحالفات بما يخدم إعادة إنتاج التفوق الأميركي.

فالسلام الدائم لا يولد بالانتصار بقدر ما يولد من التوازن فهل يشكل هذا التحالف أول ملامح توازن جديد في شرقٍ أوسطٍ أنهكته الفوضى؟

 

الاستراتيجية المالية كأداة قوة ناعمة وصلبة:

ليس الرقم وحده ما يثير الانتباه في الاتفاقية الجديدة بل اتجاه الاستثمار،  فحين تلتزم دولة مثل السعودية بضخ تريليون دولار في الاقتصاد الأمريكي وهي بهذا لا تشتري عقارات أو أسهما فقط وإنما تدخل في مفاصل القوة الأمريكية: الذكاء الاصطناعي، صناعة الفضاء، أمن الطاقة، وحتى إعادة هندسة البنية التحتية الدفاعية.

بهذا المعنى لم تعد السعودية تابعا نفطيا وإنما شريك يعيد تعريف العلاقة الثنائية بكونها علاقة تبادلية تؤسس لتحالف استراتيجي متعدد الأبعاد.

ومع العولمة لم يعد المال مجرد وسيلة تبادل وإنما تحول إلى سلاح جيوسياسي، و المبالغ المالية التي التزمت بها المملكة العربية السعودية في استثمارات استراتيجية مع الولايات المتحدة لا تعبر فقط عن رغبة في الربح أو التنويع بل تعكس نقلة نوعية في استخدام المال كأداة قوة ناعمة وصلبة في آن.

في هذا السياق يمكن قراءة هذا التحول عبر عدستين متكاملتين:

عدسة جون كينز حيث تصبح الاستثمارات الضخمة أداة لإعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي ودعم الطلب الكلي.

وعدسة آدم سميث: حيث تظل اليد الخفية للسوق حاضرة لإعادة توجيه رؤوس الأموال حيث توجد المصلحة والحرية الاقتصادية.

وفي أوقات الاضطراب أو التحول لا يكفي الاعتماد على السوق الحرة وحدها بل تحتاج الدولة أو التكتلات الكبرى إلى ضخ الإنفاق الاستراتيجي لخلق استقرار جديد.

وفي الحالة السعودية–الأمريكية 2025 يمثل المال السعودي إنفاقا تحفيزيا عالميا يعيد الحيوية للقطاعات الأمريكية كما يوفر رافعة دبلوماسية واقتصادية مما يجعل السعودية شريكا في تصميم مستقبل النظام المالي والتجاري لا مجرد متلق له وبالمنطق الكينزي فإن هذه الصفقة تعني أن السعودية لا تشتري أصولا بقدر تستثمر في استقرار عالمي مشترك لكن لا يمكن فهم هذه الصفقة بعيدا عن منطق آدم سميث حيث يعاد توجيه رأس المال بحرية نحو الفرص الأعظم قيمة. وقد اختارت السعودية الاستثمار في أمريكا لا لأنها الأقرب بل لأنها الأكثر قدرة على توليد المعرفة والقوة والربح في آن واحد، كما ينظر إلى هذه الصفقة كدعم مباشر لمنظومة السوق وليس تحديا لها، فالأموال المتدفقة ليست عملا سياديا بل خدمة ذاتية عقلانية تخدم المصلحة المشتركة ، فحين يتلاقى دافع الربح مع مصلحة الدولة تولد الشراكات التاريخية.

ويعد رأس المال وسيط حضاري من منظور القوة الناعمة فالتريليون يمكن السعودية من:

دخول شبكات التأثير الأمريكية  في وادي السيليكون، الجامعات، مراكز الابتكار، وتعمل على إعادة تقديم نفسها كصاحبة مصلحة لا كمصدر للنفط وبذلك يتحول المال إلى لغة مشتركة تقرب الثقافات وتبني الجسور لا الحواجز.

كما أن الاستثمار السعودي في السوق الأمريكي يمثل قوة صلبة في شكلها الجديد لأنه يشتري الوصول إلى الأسواق والعقود الدفاعية والتكنولوجيا ويمنح السعودية قدرة تفاوضية داخل المنظومة الأمريكية نفسها من البنتاغون إلى وول ستريت فالمال هنا يشبه حاملات الطائرات الحديثة لا يطلق الصواريخ لكنه يغير موازين القوى.

إن هذه الاستثمار يعد وثيقة جيواقتصادية تعيد رسم الحدود بين السياسة والاقتصاد وهو ما يجعلنا نرى ملامح عصر جديد سيصبح رأس المال أداة تعبير عن السيادة والتأثير والتحول الحضاري.

الردع والهندسة الاستراتيجية:

نبدأ مع خطة مارشال  لاحتواء أوروبا والسوفيت من خلال مشروع إلاعمار والذي شكل أداة توازن طويلة الأمد ضد النفوذ السوفيتي عبر بناء شبكات اقتصادية سياسية عابرة للحدود، ومع عودة ترامب تحول التحالف الأمريكي–السعودي إلى مركز ثقل جديد يسير على نفس النموذج لإعادة بناء العالم واحتواء التهديد الصيني . والسعودية كما كانت ألمانيا الغربية حجر الأساس لنظام أوروبا ما بعد الحرب حيث تتحول السعودية إلى:

  • قوة مالية: صندوق الاستثمارات العامة في أمريكا.
  • قوة تكنولوجية صاعدة مع مشاريع نيوم والذكاء الاصطناعي.
  • قوة أمنية–بحرية في الطوق الممتد من بحر العرب إلى شرق المتوسط.

وبهذه الخصائص شبكة توازن جديدة تتكامل مع واشنطن بدل أن تعتمد عليها فقط.

كما أن الصين لا تواجه فقط بالأساطيل أو العقوبات وانما من خلال تحالفات ذات جذور اقتصادية وتقنية وشبكات نفوذ تمتد عبر الطاقة، التجارة والممرات البحرية والسعودية اليوم تمسك بخيوط متعددة من مضيق هرمز إلى قناة السويس ومن أفريقيا إلى البلقان عبر النفوذ المالي واللوجستي ما يجعلها شريكا مركزيا في الخطة المضادة للحزام والطريق إن جاز التعبير.

والتحالف الجديد ليس تحالفا نفعيا بل بنية توازن ذكية نواة هندسية لتحالف يمتد بثلاثة أذرع:

  • الذراع الأمني: عبر اتفاقيات الدفاع و التدريب والانتشار البحري المشترك.
  • الذراع الاقتصادي: عبر الترليون السعودي كرافعة داخل الاقتصاد الأميركي وضد الاستقطاب الصيني.
  • الذراع التكنولوجي–القيمي: عبر استثمارات مشتركة في التقنية والبنى الثقافية؛ الإعلام، التعليم، المدن الذكية.

ومن جهة أخرى فإن التحالف الامريكي مع السعودية لا يهدف إلى تثبيت الوضع القائم، بل إلى:

  • هندسة شبكة تحالفات تضم مصر، الأردن، المغرب، الإمارات، وربما العراق
  • تأسيس ما يمكن تسميته بـ الجبهة المرنة في وجه التغلغل الصيني والإيراني في المنطقة.

مثلما كانت خطة مارشال أداة لربط أوروبا ببعضها ثم بأمريكا؛ فالسعودية اليوم ليست طرفا بل مهندسا مشاركا في شبكة تحالف عابرة للمجال العربي.

وترامب قد يكون الرئيس الذي يطلق النسخة الجديدة من خطة مارشال لكن السعودية اليوم هي الدولة التي تملك أدوات التنفيذ: المال، الإرادة، العمق الجغرافي، والشبكات الإقليمية فحين تبني مع حليف يملك الرؤية والقدرة فإنك لا تصنع تحالفا.. بل تشكل العالم القادم.

التطبيع من القطيعة إلى الشراكة

لقد كان برنارد لويس يرى الشرق الأوسط  مساحة للصراع والذاكرة، فكل قرار سياسي في هذه المنطقة مهما بدا عصريا يحمل ظلالا من التاريخ من بغداد الأموية إلى صلح الحديبية ومن سقوط القدس إلى اتفاق أوسلو.

والتطبيع في هذا السياق ليس لحظة سياسية عابرة وإنما هو تجسيد لتغير طويل في مفهوم الذات والآخر و في موازين القوة  وفي تصور المصالح لكن في القرن الحادي والعشرين، تغيّرت الأسئلة:

لم يعد سؤال من هو عدونا؟ بل: من هو شريكنا في ضمان الاستقرار ضد الفوضى؟ وهذه نقلة من المبادئ إلى المصالح و من السرد إلى الحساب.

وإذا كان برنارد لويس حيا لوصف ذلك  بالنضج التاريخي الذي رسم له خارطة من التاريخ على السياسة والواقع، وقد  كانت المملكة حارسا للرمزية العربية–الإسلامية ولكنها مع رؤية 2030 بدأ الواقع الجديد يرسم عقليات مختلفة تتناسب مع المتغيرات الدولية ، وهي ليست الأولى فقد سبقتها دولا نحو رسم واقعها خارج اطار القضية الفلسطينية إلا أنها اتبعت طريقا مختلفا للموازنة بين المصالح والمبادئ والمثاليات والواقع؛ براغماتية هادئة وتوازن بين الداخل المحافظ والخارج المتغير وفهم عميق بأن التطبيع لا يعني التخلي عن المبادئ، بل إعادة ترتيبها وفق الواقع وإن الدولة الذكية لا تغير عقيدتها بل تغير في طرق تفعيلها.

إن التطبيع ليس انسجاما مع إسرائيل بقدر ما هو اتساق مع تحولات البيئة الإقليمية؛ إيران تتصرف كقوة إمبراطورية لا كدولة طبيعية وتركيا تحاول تصدير نموذجها السياسي بصيغة عثمانية ناعمة وإسرائيل؟ لم تعد معزولة بل باتت قوة تكنولوجية–أمنية لا يمكن تجاهلها ولديها علاقات دبلوماسية معلنة وخفية مع دول عربية وإسلامية وما تزال السعودية توازن مصالح الدولتين بحلهما والاعتراف بها وفقا لاتفاقيات كانت محل إجماع .

هذا يعني أن العرب يتعاملون مع الأمر الواقع لا مع الأسطورة فالمكانة لا تسترد بالإنكار بل بالمنافسة الذكية والتفوق الإقليمي وحدود الإمكانيات والقدرات.

ولكن هل التطبيع يعني نهاية القضية الفلسطينية؟ والحقيقة إن القضية لم تمح و لكنها لم تعد المفتاح الوحيد للمنطقة وأن الحقوق لا تنتزع بالشعارات بل باستراتيجية تتناسب مع معادلات القوة، والتطبيع قد يخلق أدوات ضغط جديدة لم تكن متاحة في زمن القطيعة فليست الخيانة أن تتحدث مع عدوك… بل الخيانة أن تجهل كيف تحول خصومتك إلى ورقة تفاوض، ومن هنا فإن التطبيع هو إشارة على أن المنطقة لم تعد تدور حول جرحها بل تحاول تجاوزه، وقد لا يكون ذلك حلا أخلاقيا وهنا يكمن إشكالية أخرى حول مفهوم الأخلاق والتي من ضمنها الحقوق الإنسانية والسياسية والمدنية، وإذا كان القرن العشرون زمن المقاومة فإن القرن الحادي والعشرين هو زمن إعادة التعريف للواقع في ظل هذا التصدع القائم والاختلاف : من نحن؟ مع من؟ وضد من؟ ولماذا؟  وهذه التساؤلات فسرت بعض في مسارات التطبيع التاريخية وسياقاتها الزمنية كالتالي:

  • اتفاقية كامب ديفيد (1978-1979) بين مصر وإسرائيل

حيث تعد مصر أول دولة عربية توقع اتفاقية سلام مع إسرائيل أول دولة عربية تعترف بها رسميا، وترتب عليه انسحاب إسرائيلي من سيناء وتجميد العلاقات بين مصر وبقية الدول العربية لفترة حيث كان هذا بداية مسار مفصلي في تحول الصراع العربي-الإسرائيلي من الصراع الجماعي إلى الصراعات الثنائية.

  • اتفاقية وادي عربة (1994) بين الأردن وإسرائيل

وقد جاء بعد مؤتمر مدريد (1991) وتقدم مسار أوسلو وترتب عليه تبادل سفراء و اتفاقات تجارية ومائية وأمنية والدفاع من ذلك حماية المصلحة الأردنية باستقرار الحدود وتحقيق المكاسب الاقتصادية والمائية.

  • اتفاقيات أوسلو (1993–1995) بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل

وترتب عليها فتح الباب لعلاقات جزئية مع دول عربية أفضت إلى قيام السلطة الفلسطينية، لكنها لم تُنه الاحتلال أو الاستيطان ما جعلها موضع جدل فلسطيني واسع.

  • التطبيع غير الرسمي/الرمادي (2000–2020)

وقد شمل لقاءات سرية و تعاون أمني ومؤتمرات دولية بين إسرائيل ودول عربية؛  السعودية، الإمارات، قطر، عمان، والمغرب وكان الدافع الأساسي هو الخوف المشترك من النفوذ الإيراني والتقارب مع واشنطن.

  • اتفاقيات أبراهام (2020) بين اسرائيل الإمارات، البحرين، المغرب، السودان برعاية أمريكية (إدارة ترامب)، بعيدا عن مسار حل القضية الفلسطينية وهو تطبيع شامل في قطاعات السياحة و الأمن و التكنولوجيا والاقتصاد وتهميش فعلي للمبادرة العربية (2002) التي ربطت التطبيع بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وقد كانت علاقات دافئة وسريعة التطور خاصة مع الإمارات والمغرب وفي المقابل كان هناك رفض شعبي عربي واسع مع دعم رسمي مستمر.

ومع هذا فإن هذه التطبيع قد يتخذ عدة مسارات منها التسارع الإقليمي وسيكون لها محفزات منها التقارب الاستراتيجي بين الدول العربية وإسرائيل ضد إيران أو وعود أمريكية/غربية بمساعدات، اتفاقيات دفاع مشترك، واحتمال تطبيع السعودية في ظل صفقات أمنية نووية مع واشنطن.

مما قد يؤدي الى تراجع مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب الرسمي العربي تحول إسرائيل إلى شريك طبيعي في المنطقة.

كما قد يؤدي إلى جمود أو تراجع في مسار التطبيع لا سيما إذا حدث تصعيد ميداني كبير في فلسطين (مثل حرب غزة الأخيرة أو انتفاضة شعبية) أو حدوث تغيرات في الحكومات العربية أو تصدع  داخلي في إسرائيل أو انحسار الدعم الأمريكي وسيكون من نتائجه تجميد الاتفاقيات الجديدة أو خفض مستوى العلاقات وعودة الضغط العربي (ولو رمزيا).

وقد يحد تطبيع مشروط أو تدريجي مرتبط بالفلسطينيين وهي مقاربة وسطية بعض الدول تربط تطبيعها بخطوات إسرائيلية تجاه حل الدولتين وهذا هو ما تقدمه السعودية.

ويبقى مسار التطبيع رغم تطوره من صفقات سلام ثنائية إلى شراكات استراتيجية متعددة الأطراف لكن هذا  المسار ليس خطيا وإنما هو عرضة لتغيرات كبيرة حسب التطورات السياسية الإقليمية والدولية.

وهنا فإن السعودية في إطار هذه العلاقات قد تعمل على الانخراط في التطبيع المشروط مع إدارة ترامب أو قد تحدث وفقا لهذه الدبلوماسية قطيعة بين إدارة ترامب وإسرائيل التي تصر على التطبيع دون أية تنازلات مما يغير طبيعة العلاقات الغربية مع إسرائيل.

القوة الناعمة والتوازن الاستراتيجي

تعتبر العلاقات بين الدول الكبرى مثل السعودية والولايات المتحدة من الأنظمة المعقدة التي تتأثر بمجموعة من العوامل تتراوح من التحولات الداخلية إلى القوى الجيوسياسية الإقليمية والدولية.

و في هذا السياق نجد أن إعادة إحياء العلاقات السعودية الأمريكية تحت قيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد تلقي بظلالها على المستقبل الاستراتيجي لهذه العلاقات، ومع الزيارة التاريخية يتبين لنا مدى تأثير القوة الناعمة والتوازن الاستراتيجي كما نظر لها المفكران جوزيف ناي ونعوم تشومسكي.

فمن منظور جوزيف ناي يمكن فهم إعادة إحياء العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة على أنها عملية تقوية للنفوذ الأمريكي في المنطقة الخليجية عبر أدوات غير قسرية مثل الثقافة، والتجارة، والتكنولوجيا و في هذه الديناميكية تلعب السعودية دورا مهما في تعزيز استقرار المنطقة مما يحقق الاستفادة المشتركة للطرفين، وفي فترة ولاية ترامب ظهرت القوة الناعمة كجزء أساسي في العلاقات الأمريكية الخليجية  خاصة فيما يتعلق بالتعاون في مكافحة الإرهاب والتجارة والاستثمارات في التكنولوجيا المتقدمة.

و من جهة أخرى يمثل الأمير محمد بن سلمان القوة السعودية الناعمة التي تسعى إلى تحسين صورة المملكة عالميا من خلال برامج تنموية وثقافية مثل رؤية 2030 وهو ما يتيح لها تحسين قدرتها على جذب الاستثمارات الأمريكية من خلال تقليل الاعتماد على النفط وتعزيز التنوع الاقتصادي.

وعندما تجتمع هذه الرؤى نجد أن القوة الناعمة هي العامل الرئيسي في إبراز العلاقة بين الرياض وواشنطن كحليفين استراتيجيين مع إعطاء الأولوية للمصالح المشتركة بدلا من المنافسة المفتوحة أو التوترات الإقليمية.

ومن جهة أخرى يوضح لنا نعوم تشومسكي طبيعة الديناميكيات الإقليمية والدولية من خلال منظور التوازن الاستراتيجي يتبين لنا أن القوى الكبرى تعمل على تفكيك التوازنات الإقليمية لصالح سياساتها الخاصة، ولكننا وفي في حالة السعودية نلاحظ أن المملكة تتعامل مع القوى الكبرى خصوصا الولايات المتحدة والصين وروسيا بمهارة دبلوماسية لتجنب الوقوع في فخ التبعية لأي طرف.

وأن زيارة ولي العهد السعودي المرتقبة إلى الولايات المتحدة تأتي في لحظة استراتيجية حيث تمر فيها العلاقات الدولية بتقلبات نتيجة للانقسامات بين الولايات المتحدة والصين إضافة إلى العلاقات المتزايدة بين الرياض وكل من موسكو وبكين مما يمكن للسعودية أن تستخدم هذه الديناميكيات لصالحها عبر بناء جبهة توازن تجمع من خلالها بين الاستفادة من القوة الاقتصادية الصينية والقدرة العسكرية الأمريكية والنفوذ السياسي الروسي.

وأن إعادة إحياء العلاقات مع واشنطن من خلال هذه الزيارة تمثل فرصة للسعودية ليس فقط لإعادة تقييم دورها الإقليمي بقدر ما هو مهم لتعزيز قدرتها على التأثير في صنع القرار الأمريكي عبر قنوات متعددة.

وهنا ندرك أن الزيارة التاريخية لترامب في المملكة السعودية  تعد نقطة تحول في السياسة الخارجية السعودية و بمثابة اختبار حقيقي لعلاقة القوة الصلبة عبر التعاون العسكري والأمني والقوة الناعمة من خلال استراتيجيات الثقافة والاقتصاد بين السعودية والولايات المتحدة.

وأكثر من ذلك ستكشف الزيارة عن قدرة السعودية على إعادة بناء توازن استراتيجي يضمن لها القدرة على المناورة بين القوى الكبرى دون أن تقع في قبضة أي طرف وعندما ننظر إلى مفهوم القوة الناعمة سنجد أن الولايات المتحدة تسعى للحفاظ على نفوذها في الخليج عبر استثمارات اقتصادية وتعاون أمني مع السعودية و في المقابل تركز السعودية على الاستفادة من هذه العلاقات لتطوير تنويع اقتصادي محلي مع فتح قنوات لتوسيع شراكاتها مع الصين وروسيا.

إلا أن التوازن الاستراتيجي يدعو إلى معرفة كيف تتعامل السعودية مع التحولات العالمية التي قد تضعها بين المطرقة والسندان بين متطلبات التحالف الأمريكي وحاجتها إلى تنويع شراكاتها الدولية.

وهذا الصراع المحتمل بين الاعتماد على القوة الناعمة الأمريكية وحاجة السعودية إلى تحولات استراتيجية تتطلب توازنا دقيقا في العلاقات مع واشنطن ومع تطور هذه الديناميكيات تصبح الأسئلة الجوهرية خارطة طريق لبناء الوعي الاستراتيجي: فهل ستتمكن السعودية من الحفاظ على موقفها كداعم أساسي للتوازن الإقليمي؟ وكيف ستوازن بين العلاقة مع الولايات المتحدة والحاجة لتوسيع نفوذها في إطار علاقاتها مع الصين وروسيا؟

في النهاية، تظل الزيارة التاريخية  بمثابة مرحلة فاصلة ستكشف عن قدرة السعودية على استثمار قوتها الناعمة وفي نفس الوقت إظهار براعتها في المناورة بين القوى الكبرى دون التأثير على توازناتها الإقليمية.

وستظل المملكة لاعبا رئيسا في صياغة المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط و الأهم من ذلك هو قدرتها على بناء استراتيجيات أكثر استقلالية تجعلها أقل اعتمادا على القوى الكبرى وتمنحها مرونة أكبر في مواقفها الدبلوماسية المستقبلية.

 

الكونجرس وانعكاسات العلاقة السعودية الأمريكية على القوى الإقليمية

إن العلاقة الاستراتيجية بين السعودية والولايات المتحدة، التي تتعمق تحت قيادة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وسيكون لها تأثيرات بعيدة المدى على الأمن الإقليمي والسياسات العالمية لا سيما مع اقتراب الزيارة التاريخية لولي العهد السعودي إلى واشنطن حيث تتزايد التوقعات حول كيفية تأثير هذه العلاقة على القوى الإقليمية والدول المحيطة خاصة من منظور الكونغرس الأمريكي الذي يلعب دورا رئيسا في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية.

فمن منظور الكونغرس تمثل العلاقة المتنامية بين السعودية والولايات المتحدة مصدر قلق كبير لإيران التي لطالما اعتبرت نفسها المنافس الإقليمي الرئيسي للمملكة وفي ظل تعمق التعاون بين الرياض وواشنطن في مجالات الأمن والعسكري خاصة في مواجهة التهديدات الإيرانية تزداد المخاوف الإيرانية من أن يؤدي هذا التقارب إلى مزيد من العزلة السياسية والاقتصادية لطهران.

وتسعى إيران ستسعى للتكيف مع هذه الديناميكيات الجديدة وقد تكون أحد التحديات الرئيسية للكونغرس الأمريكي في دعم السعودية في سياق تزايد التوترات النووية الإقليمية من جانبها مما قد يدفع إيران للاعتماد على حلفائها في المنطقة مثل حزب الله في لبنان والميليشيات العراقية لمحاولة التأثير في السياسة الإقليمية.

وبعض أعضاء الكونغرس قد يميلون إلى التشكيك في استمرار الدعم الأمريكي غير المشروط للسعودية في ظل تقاربها مع الولايات المتحدة خاصة مع تصاعد التوترات في اليمن والملف الإيراني كما أن  قوى مثل الجناح التقدمي في الكونغرس قد يدعو إلى مراجعة التحالفات الأمريكية في المنطقة حيث يتم التركيز على حقوق الإنسان والضغط على الرياض فيما يتعلق بالصراع في اليمن.

من جهة أخرى تعتبر تركيا قوة إقليمية كبيرة في الشرق الأوسط ولها مصالح متناقضة أحيانا مع السعودية خاصة فيما يتعلق بالصراعات في سوريا و ليبيا وعلاقة السعودية الوثيقة مع واشنطن يمكن أن تثير قلق تركيا التي تسعى لتوسيع نفوذها في المنطقة عبر تحالفاتها مع روسيا وأحيانا مع إيران.

وعلى الرغم من التوترات بين الرياض وأنقرة في بعض الملفات فإن السعودية قد تسعى لتعزيز موقفها الإقليمي في مواجهة تركيا خاصة في ظل دعم واشنطن المستمر لها في ملفات مثل مكافحة الإرهاب والأمن الإقليمي.

كما أن العلاقات الأمريكية مع السعودية قد تزيد من استقطاب الدول الكبرى في الشرق الأوسط مما يدفع تركيا إلى تحسين علاقاتها مع روسيا أو تكثيف جهودها لموازنة التأثير الأمريكي في المنطقة.

وفي هذا السياق قد يتعامل الكونغرس الأمريكي مع تركيا بحذر أكبر، حيث تثير علاقاتها المتنامية مع روسيا خاصة في مجال الدفاع (مثل صفقة إس-400) بعض المخاوف في واشنطن وقد يدعوا بعض أعضاء الكونغرس إلى تعزيز الدعم السعودي على حساب تركيا خاصة في سياق توازن القوى في سوريا وليبيا.

ومن جهة أخرى فإن العلاقة العميقة بين السعودية والولايات المتحدة قد تلقي بظلالها على باقي دول الخليج مثل الإمارات و قطر و عمان.

حيث ترى الإمارات التي تشارك السعودية في العديد من التوجهات الأمنية والاقتصادية في العلاقة الأمريكية السعودية فرصة لتعزيز نفوذها الإقليمي خاصة في مواجهة تحديات مثل الأمن البحري في الخليج والمشاركة في التحالفات العسكرية.

ومن منظور الكونغرس الأمريكي قد تدعم بعض القوى في الكونغرس تقارب واشنطن مع الإمارات نظرا لاهتمامها في مكافحة الإرهاب ودعم استقرار المنطقة وهذا قد يؤدي إلى منافسة داخل دول مجلس التعاون الخليجي خاصة في مجالات الاقتصاد والأمن.

وقد تشعر قطر بالقلق من التقارب الأمريكي السعودي مما قد يؤثر على موقعها كوسيط إقليمي قوي؛ علاوة على ذلك قد يؤدي تعزيز التعاون العسكري بين الرياض وواشنطن إلى تهديد التوازن الإقليمي في الخليج مما يدفع قطر إلى تعزيز مواقفها المستقلة أو بناء شراكات جديدة مع قوى عالمية أخرى.

ومن جهة أخرى قد تتعرض عمان بسبب هذا التقارب الى الخروج عن حياديتها الدبلوماسية  أما بالنسبة للكونغرس فإنه سيرى أن دعم عمان في الحفاظ على استقرارها يمكن أن يكون خيارا استراتيجيا لتعزيز الحوار بين القوى الإقليمية المختلفة وخاصة في الملفات المتعلقة بالأمن البحري.

وفي ظل تزايد النفوذ الأمريكي في الخليج العربي فإن الصين وروسيا قد تنظران إلى التقارب الأمريكي السعودي بعين الحذر خاصة مع تصعيد منافستها مع واشنطن في المنطقة.

فالصين تعد من أكبر المستهلكين للنفط السعودي وهو ما يخلق مجالا لتعزيز العلاقات التجارية بين الرياض وبكين.

و لكن الكونغرس الأمريكي سيظل مراقبا لتوسيع هذا التعاون خاصة إذا أثر ذلك على حصة الولايات المتحدة في أسواق الطاقة الخليجية لذا قد تتجه بعض الضغوط للحد من التعاون السعودي مع الصين في مجالات حساسة مثل التكنولوجيا والطاقة.

ومن جانب آخر ترى روسيا في السعودية شريكا استراتيجيا في العديد من الملفات الإقليمية مثل سوريا و اليمن، ومع ذلك قد يعترض بعض أعضاء الكونغرس على تعزيز العلاقة بين الرياض وموسكو خوفا من تأثير ذلك على الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط مما قد تدفع هذه الديناميكيات إلى مزيد من الانقسام بين مؤيدي تقوية العلاقات مع الرياض ومعارضيها داخل الكونغرس، وفي النهاية ستظل العلاقات السعودية الأمريكية محورية في تشكيل ملامح السياسة الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.

مخاطر التحالفات المؤقتة على الأمن الاقليمي:

يرى البعض أن زيارة ترامب للصفقات ولكنها في العمق تمثل أيضا عودة لمنطق الواقعية السياسية التي ترى في التحالفات مصالح لا شعارات، و هذه الزيارة تذكرنا بأن السياسة الخارجية لا تبنى على الوعود الأخلاقية وحدها وإنما على قدرة الدول كذلك و على توقع التحولات والبقاء داخل دوائر النفوذ.

إلا أن الإفراط في الاعتماد على التحالفات دون منظومة قيم أو رؤية استراتيجية واضحة يولد هشاشة ومن هذا المنظور فإن علاقات ترامب بالسعودية حملت معها صورا مختلفة عن الولايات المتحدة منها:

  • تفويض مفرط دون ضوابط ترتب عليه دعم شبه مطلق للسعودية أضعف النفوذ الأميركي كوسيط.
  • أن قضية خاشقجي خلقت توترات داخل المؤسسات الأميركية نفسها تحت مزاعم اهتزاز القيم الأخلاقية للولايات المتحدة والتي كانت تشتغل عليها إدارة بايدن.
  • تسليع العلاقة و تحويل السياسة إلى صفقات قلل من فاعلية أدوات الضغط التقليدية.

إن الثقة تعد رصيد استراتيجي وإن أُضعفت هذه الثقة تراجع النفوذ حتى وإن زادت الصفقات وهو ما يعني أن علاقات ترامب مع السعودية ودول العالم تقوم على الصفقات وليس على الثقة التي تؤسس لاستراتيجيات بعيدة المدى وهذه العلاقة يترتب عليها ربح وخسارة أو المقاسمة بينهما وهذه المقاسمة هي التي جعلت من السعودية وأمريكا أطراف متكافئة وإن كانت السعودية هي الأكثر ربحا منها إذا استمرت استراتيجيتها على نفس المنوال دون أن تتعرض لمعوقات إقليمية.

ومن هنا نجد أن العلاقات الأميركية–السعودية بعد عودة ترامب إلى المشهد تقف على حافة توازن حرج:

  • إذا استمرت على نهج الصفقات فقط فإن القدرة الأميركية على قيادة المنطقة ستتآكل.
  • إذا وظفت المصالح ضمن إطار مؤسسي مشترك فإن واشنطن يمكن أن تستخدم الرياض كقوة موازنة أمام الصين وإيران.

والأصل في التحالفات أن لا تبنى على الإعجاب وإنما على تصور مشترك للتهديد والفرص المواتية، وهنا يمكنني القول أن عقلية ترامب عقلية واقعية هدفت إلى تقليص التدخلات المباشرة وتحويل الشرق الأوسط إلى فضاء قابل للتفاوض لا للغز، إلا أن ما يفتقر إليه ترامب ليس الفهم الجيوسياسي بل القدرة على خلق نظام دائم لا أن يكون مجرد لحظة مؤقتة للصفقات فالمصالح، تحتاج إلى بنية والبنية تحتاج إلى عقل بارد لا إلى خطابات أو تغريدات أو تسويق للمنجزات.

ومن مخاطر التحالفات أن تتحول إلى علاقة شخصية كبديل عن العلاقات المؤسسية التي تمنحها الثقة والثبات والاستمرارية؛ فالعلاقات بين الدول لا تبنى على الأشخاص وإنما تبنى على المصالح، والنظام الدولي لا يحتمل الفراغ لأنه يحتاج إلى إعادة ترتيب عند كل تحول حضاري في العالم.

وتجدد هذه العلاقة مع ترامب ليس تكتيكا بقدر ما هي ضرورة استراتيجية تفرضها خرائط التهديد والمصلحة، ويبقى السؤال المهم: إلى أين تسير العلاقة؟ وهل ستبقى ركيزة للنظام الإقليمي أم تتحول إلى عبء على الاستقرار؟

ومن جهة أخرى فإن تنافس الإمارات وقطر والسعودية على توقيع اتفاقيات أمنية أو اقتصادية حصرية مع واشنطن قد يضعف مجلس التعاون الخليجي مما قد يؤدي الى تضارب السياسات الإقليمية (في ليبيا، اليمن، السودان) وسيكون من مخاطره تجزؤ الخطاب الخليجي وفقدان القدرة على التفاوض الجماعي والتحول إلى “زبائن استراتيجيين كبديل عن الشراكات القائمة، كما أنه سيحول دول الخليج إلى سوق لشراء السلاح والتقنيات الأمريكية، ما يحول العلاقة إلى سوق لا شراكة. استراتيجية ومن ثم ستستفيد واشنطن من المنافسة لتضخيم مبيعاتها دون التزام سياسي واضح.

مما قد يؤدي إلى فقدان أدوات الضغط الخليجي الجماعي وتتعامل أمريكا مع كل دولة  كحالة  فردية في البيروقراطية الأميركية.

كما لأن بعض الدول الخليجية ستستخدم علاقتها بواشنطن كورقة شرعية داخلية أو إقليمية وهذا سيضعف استقلال القرار ويجعل العلاقة رهينة لتغيرات داخلية ومن ثم هشاشة في الموقف الإقليمي عند كل تغيير في الإدارة الأمريكية وفتح المجال لاختراقات من قوى منافسة كالصين و روسيا،  وأن ضعف الجبهة الخليجية الموحدة سيدفع بعضها للارتماء في أحضان الصين أو روسيا كبديل أو للضغط على واشنطن، كما قد تستغل واشنطن الانقسام الخليجي لصالح أجندات ثنائية تعمق الانقسام، وبالنهاية تتشكل محاور متناقضة داخل الخليج مما يهدد استراتيجية الأمن الجماعي الموحد.

وأنا أرى أن التحالفات الثنائية دون رؤية موحدة لن تؤسس لاستراتيجية بعيدة المدى إن كان كل طرف فيها يسعى لتهميش الآخر أمام القوة الكبرى واذا لم تتحرك دول الخليج نحو إعادة بناء خطاب تفاوضي موحد مع واشنطن فإن القوة الناعمة الخليجية ستتحول إلى قوة متآكلة بالداخل.

كما يعد رحيل دونالد ترامب عن الساحة السياسية الأمريكية في عام 2028 نقطة تحول هامة في سياق العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية إذ قد تؤدي التغيرات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة إلى تأثيرات كبيرة على العلاقات الثنائية بين البلدين.

و من خلال اتباع منهجية تحليلية يمكننا النظر إلى المخاطر المرتبطة بالانتخابات الأمريكية القادمة على العلاقات بين الرياض وواشنطن بعد انتهاء ولاية ترامب حيث سنقوم بتناول هذه المخاطر في نقاط أساسية تتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية وأيديولوجيات المرشحين وتوجهات الكونغرس بالإضافة إلى التأثيرات الإقليمية والعالمية.

  • التحولات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة

إذا تولى الحزب الديمقراطي أو جناح أكثر يسارية في الحزب الجمهوري زمام الأمور فمن المحتمل أن تشهد السياسة الخارجية الأمريكية تحولا كبيرا قد يؤدي هذا التحول إلى تغييرات في أولويات واشنطن فيما يتعلق بحلفائها التقليديين بما في ذلك السعودية كما أن الانتخابات الرئاسية 2028 قد تفتح الباب أمام مرشح يعارض سياسات ترامب مثل التركيز على حقوق الإنسان وقد تكون هناك دعوات لتغيير العلاقة مع السعودية خاصة في الملفات المتعلقة بالحرب في اليمن وقضايا حقوق الإنسان في المملكة.

وفي حالة فوز مرشح متشدد في المواقف تجاه السعودية، مثل الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي قد يتعرض التعاون الأمني والاقتصادي مع السعودية للتهديد مما يؤدي إلى إعادة تقييم التحالفات الاستراتيجية.

  • حالة الاستقطاب السياسي في أمريكا

من المرجح أن يزداد حالة الاستقطاب في الانتخابات القادمة مما قد يؤدي إلى سياسة خارجية أكثر تقلبا وغير مستقرة، في مثل هذا السياق فإن السياسة الأمريكية تجاه السعودية قد تتأثر بشكل كبير بالتيارات السياسية السائدة داخل الولايات المتحدة في ذلك الوقت.

ومن جهة أخرى فإن الانقسام المحتدم في الكونغرس الأمريكي قد يضيف مزيدا من التعقيد في تنفيذ أي سياسة موحدة تجاه السعودية لا سيما إذا كانت الأغلبية في الكونغرس معارضة لتوجهات الإدارة الجديدة.

  • التحديات المرتبطة بالتحولات الإيديولوجية للمرشحين

قد تؤدي الانتخابات الأمريكية إلى ظهور مرشحين يمثلون تيارات إيديولوجية متباينة وفي حال كان المرشح الجديد معاديا للسياسات التقليدية تجاه الشرق الأوسط ربما قد يتصاعد التوتر مع السعودية.

فالمرشح الديمقراطي قد يولي أهمية أكبر لقضايا حقوق الإنسان والشفافية السياسية وهو ما قد يشكل ضغطا على السعودية في ملفات حساسة مثل قضية جمال خاشقجي أو الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان في المملكة.

وفي كال كان المرشح جمهوري فقد يعيد بعض السياسات المؤيدة للسعودية لكنه قد يكون أقل رغبة في العمل الجماعي مع شركاء آخرين في الشرق الأوسط مثل إيران مما قد يؤدي إلى تعميق التوترات الإقليمية.

  • تأثير السياسات التجارية والاقتصادية

ستكون السياسات الاقتصادية إحدى المخاطر التي قد تواجه العلاقات الأمريكية السعودية بعد رحيل ترامب ففي حال تولي إدارة ديمقراطية قد يواجه التعاون الاقتصادي مع السعودية تحديات متزايدة.

في المقابل، قد تتجه إدارة جمهورية جديدة نحو تعزيز العلاقات التجارية في مجالات الطاقة والبيع العسكري لكنها قد تضع شروطا جديدة على السعودية بشأن تقليص النفوذ الروسي والصيني في المنطقة.

  • الآثار المحتملة على الشراكات العسكرية والأمنية

يعتبر التعاون العسكري بين الولايات المتحدة والسعودية حجر الزاوية في العلاقات الثنائية بين البلدين لكنه قد يتغير هذا التعاون بناء على توجهات السياسة الدفاعية للرئيس المقبل.

ففي حال تولت إدارة ديمقراطية قد يحدث تغيير في الأولويات العسكرية حيث قد يقلص الدعم العسكري الأمريكي للسعودية وهذا قد يثير قلق الرياض التي تعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا العسكرية الأمريكية.

وفي حال كانت إدارة جمهورية قد تستمر في دعم السعودية كحليف استراتيجي في مواجهة التهديدات الإيرانية وتعزيز التعاون الدفاعي في إطار التحالفات الأمنية الخليجية.

وفي حال تصاعد الضغط السياسي داخل الكونغرس الأمريكي، قد يتعين على الرئيس الجديد مراجعة الاتفاقات العسكرية مع السعودية خاصة في ظل حملات حقوق الإنسان والضغط من بعض الأعضاء على وقف مبيعات الأسلحة هذا قد يعرقل التعاون العسكري طويل الأمد بين البلدين.

وفي المجمل يشكل رحيل ترامب عن الساحة السياسية الأمريكية في 2028 نقطة تحول هامة في العلاقات الأمريكية السعودية وتحمل الانتخابات القادمة في طياتها عدة مخاطر تؤثر بشكل غير مباشر أو مباشر على السياسات الأمنية والاقتصادية بين الرياض وواشنطن والذي يمكن فهمه  من خلال مواقف المرشحين وتوجهاتهم الإيديولوجية وتغيرات السياسة الدفاعية والضغوط السياسية داخل الكونغرس مما يتعين على السعودية أن توازن بين تعزيز علاقتها التقليدية مع واشنطن وبين التعامل مع التحولات الجيوسياسية في المنطقة والعالم.

السيناريوهات المستقبلية لأبعاد العلاقة السعودية–الأمريكية

السيناريو الأول: شراكة تكنولوجية تقود النظام الجديد

تقوم السعودية بضخ استثمارات استراتيجية في شركات التكنولوجيا الأمريكية مثل الفضاء و الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني حيث سيتم إنشاء مراكز بحثية مشتركة على أراضي المملكة مما يحول السعودية إلى جسر تقني بين الغرب والعالم الإسلامي ويشكل تحالف نوعي يعيد إنتاج مفهوم “الردع” و”التحكم بالتكنولوجيا الحيوية.

السيناريو الثاني: تحالف أمني جديد في ظل تراجع واشنطن العسكري

وهو أن تقلص الولايات المتحدة وجودها العسكري المباشر في المنطقة لكنها تبني مع السعودية تحالفا دفاعيا مرنا عبر الناتو العربي أو شراكة استخباراتية وتقنية متقدمة، وهنا الرياض تصبح قائدا لنظام أمني إقليمي جديد بغطاء أمريكي غير مباشر لتحقيق توازن إقليمي جديد يكبح إيران ويراقب الصين من البوابة الخليجية.

السيناريو الثالث: تحالف متوزان ومتعدد الأطراف

تستمر السعودية في تعزيز علاقاتها مع بكين وموسكو مما يجعل علاقتها مع واشنطن جزءا من شبكة توازنات مدروسة وهنا يصبح التحالف مع أمريكا مشروطا فكلما حافظت واشنطن على احترام سيادة الرياض وخياراتها التنموية، تعمقت الشراكة وهذا سيشكل نموذجا جديدا من العلاقات الدولية القائمة التوازي الاستراتيجي بين قوى متعددة.

 

سيناريوهات ما بعد ترامب:

السيناريو الأول: التحالف المؤسسي  من صفقة ترامب إلى البنية المؤسسية العميقة

إعادة صياغة العلاقة الأمريكية–السعودية ضمن إطار استراتيجي طويل الأمد يتجاوز الأفراد والإدارات من خلال مجلس مشترك دائم لتنسيق الأمن والطاقة والاقتصاد ورؤية متكاملة لاحتواء الصين في الشرق الأوسط ودعم سعودي لمشاريع إعادة التوازن في اليمن وسوريا ولبنان ومشاركة سعودية في شبكات الأمن السيبراني الإقليمي حيث تحول المصالح إلى هندسة إقليمية طويلة المدى.

السيناريو الثاني: التحالف المشروط  بين الانجذاب والتوجس

تستمر العلاقة ولكن ضمن حالة من الحذر والانكشاف وسط ضغوط من الداخل الأمريكي وأزمات الإقليم مما يترتب عليه استمرار التنسيق في ملفات إيران والطاقة وتناقض في المواقف حول الصين وروسيا تصعيد في قضايا حقوق الإنسان والحوكمة وهشاشة في إدارة ملفات كاليمن والسودان ويتمخض عنه تحالف غير مستقر يقوم على الضرورة لا القناعة ويبقي واشنطن والرياض في موقع الشريك المتردد.

السيناريو الثالث: التفكك الاستراتيجي  العودة إلى الأحادية

وهو فشل في بناء إطار مؤسسي وتراجع في الثقة المتبادلة مع انزياح سعودي نحو التعددية الدولية؛ الصين، روسيا، الهند وهذا سيؤدي الى تخفيض الشراكات الأمنية واستثمارات سعودية ضخمة خارج المنظومة الغربية ونشوء شرق أوسط ما بعد أمريكا تقوده قوى إقليمية متعددة وانسحاب أمريكي تكتيكي مشابه لنموذج أفغانستان والعراق مما قد يؤدي الى فراغ جيوبوليتيكي يتسابق عليه اللاعبون وتتحول السعودية من حليف إلى لاعب مستقل برؤية مختلفة.

أخير إن التحالفات الجيدة تبنى على الخوف المشترك لا الحب المشترك وتموت حين تستخدم كسلاح داخلي أو أداة ترويج لكنها تخلد حين تصاغ كجزء من بنية عالمية دائمة وما بين السعودية وواشنطن، يبقى التحدي الأكبر. فهل يمكن تحويل مزيج المال والنفط، والقوة والمخاوف إلى نظام إقليمي متماسك؟ أم سنعود إلى لعبة الكر والفر التي لا تنتج إلا هشاشة واستنزافا متبادلا؟

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.