البعد الجيوبوليتيكي اليمني وانعكاساته على الدولة والخليج والقرن الإفريقي

من إشكالية الإدراك الاستراتيجي لدى مختلف المكونات السياسية والاجتماعية حيث يظهر قصور واضح في فهم العمق الاستراتيجي لليمن ليس فقط كمجال جغرافي بل كعنصر فاعل في معادلات القوة الإقليمية والدولية، و هذا الجهل بالمقومات الاستراتيجية جعل القوى المحلية تتعامل مع اليمن كجغرافية مجزأة لا ككيان متكامل، مما أفقده القدرة على استثمار موقعه وثرواته لصالح مشروع وطني جامع.

0 38

البعد الجيوبوليتيكي اليمني وانعكاساته على الدولة والخليج والقرن الإفريقي

 

د. جمال الهاشمي

تتربع اليمن على  الامتداد الجغرافي المتوتر بين البر والبحر و بين التاريخ والجغرافيا وبين المعتقدات وبعضها و بين الداخل المفكك والخارج المتدخل،  تقف اليمن في نقطة التقاطع الملتهبة التي تلتقي فيها جغرافيا  الشرق الأوسط وتربط أوتارها على انغام غير متناغمة.

إن موقعه عند مضيق باب المندب وتباين الجغرافيا الداخلية في مراكز نفوذ متعددة لم يكن مزية جغرافية، بل أزمة  استراتيجية جعلته حبيس الحسابات الدولية والصراعات الإقليمية،

حيث لا يُنظر إليه ككيان سياسي مستقل وكقاعدة ومسرح للصراع بين القوى الدولية والساعين لضبط ميزان القوى على مستوى المنطقة والعالم.

إن أي قراءة متأنية لمأزق اليمن تستدعي الغوص في طبقات الجغرافيا التي حكمت مصيره منذ القدم إذ لم يكن يوما كيانا سياسيا موحدا يمكن أن يعبر عن نفسه وفق إرادة شعبه، بل كان مسرحا دائما لتجاذبات القوى العابرة سواء في صراعات الإمبراطوريات القديمة أو في زمن الحرب الباردة، أو حتى في سياق المنافسة الحادة بين الدول الإقليمية في العقود الأخيرة.

فالجبال الأنفة الامتطاء بوعورتها هي التي شكلت حصونه الطبيعية التي كانت وما تزال في عداء مع النظام والمدنية، بل كانت وما تزال من أهم القيود الثقافية التي تمنع الانفتاح على الآخر، حتى أصبحت اليمن ضمن مناطق منعزلة عن بعضها في الداخل عززت الانقسام المحلي تحت ذرائع النعرات القبلية التي تعد أخطر على الجغرافيا السياسية من الجهويات الجغرافية، وهي أشبه بغيتوات عرقية ودينية تفصل الجغرافيا عن بعضها ليس من خلال هيمنة الأغلبية  بل بقرارات وإرادات ذاتية، وأن الموانئ التي كان يمكن أن تشكل جسورا اقتصادية تحولت إلى مواقع استنزاف وتحديات للملاحة الدولية، والقبائل التي شكلت نسيجه الاجتماعي وكانت قاعدة لإثراء الحضارة الإسلامية بأفرادها ورجالها أضحت وقودا للحروب الاقتصادية المفتوحة وعسكرة الارتزاق للقوى الدولية أو لحسابات محلية طامحة للنفوذ والفرض والهيمنة.

إن أزمة اليمن ليست مجرد حرب أهلية كما يروج لها الإعلام الدولي بل هي انعكاس مباشر لصراع الإرادات الجيوبوليتيكية، حيث تتحرك القوى الكبرى وفق مصالحها الباردة دون اكتراث لهوية الأرض التي تتحول إلى رماد، وللسكان الذين يتحولون إلى أشلاء مبعثرة .

هذا الموقع الذي كان يمكن أن يكون قوة اقتصادية تحول إلى ورقة يتساوم فيها القوى المصارعة  في لعبة النفوذ البحري وصراع التوازن العسكري على جغرافية البحر الأحمر. فمن جهة تشكل اليمن ورقة ضغط بيد القوى الإقليمية التي تخشى تمدد نفوذ خصومها، ومن جهة أخرى يتعامل معها اللاعبون الدوليون باعتبارها ساحة اختبار لمعادلات القوة وإعادة تشكيل خرائط السيطرة على خطوط التجارة والطاقة.

لكن الأزمة اليمنية تتجاوز حدود الجغرافيا السياسية لتغرق في تفاصيل البنية الاجتماعية والاقتصادية حيث لا يمكن اختزال الصراع في أبعاده الخارجية دون النظر إلى هشاشة الداخل؛ فالاقتصاد الريعي المتآكل، والفساد البنيوي، وانهيار مفهوم الدولة الوطنية، كلها عوامل جعلت من اليمن ساحة مفتوحة لتدخلات لا تنتهي.

إن انعدام مركزية القرار الوطني أتاح للأطراف الفاعلة – سواء كانت دولا أو ميليشيات – أن تقتطع لنفسها مناطق نفوذ وتحول القضية اليمنية إلى ملف تفاوضي تستخدمه لتحقيق مصالحها دون اعتبار لحقيقة المعاناة التي يعيشها الشعب.

وفي ظل هذا المشهد المعقد، يصبح من الصعب الحديث عن حلول قابلة للتنفيذ، إذ أن كل سيناريوهات المستقبل تصطدم بجدران المصالح المتشابكة، حيث لا أحد يريد يمنا قويا ومستقلا، بل يراد له أن يبقى جرحا مفتوحا ونقطة توتر دائمة تبرر استمرار التدخلات، وتمنح القوى المتصارعة ورقة تفاوضية في معارك أخرى أكثر اتساعا.

فاليمن ليس مجرد دولة تعاني من الفوضى بل هو انعكاس حي لصراع الإرادات في النظام الدولي، حيث تذوب مفاهيم السيادة والاستقلال أمام منطق القوة والمصلحة.

إن الجيوبوليتيك اليمني لم يكن يوما شأنا داخليا، بل كان رهينة وما يزال لمعادلات أكبر منه حيث تتغير أسماء الفاعلين، ومراكز نفوذهم المحليين، لكن يبقى المشهد ذاته، مشهد وطن معلق بين جغرافيا لا ترحم، وسياسات لا تعرف الرحمة.

إذا نظرنا إلى الجيوبوليتيك اليمني من منظور الاستراتيجية البحرية لألفريد ماهان، سنجد أن اليمن لم يكن مجرد بقعة جغرافية معزولة، بل جزءا من شبكة دولية ممتدة بأعماقها في محيطات العالم وبحارها  يتحدد منطق قوتها بالسيطرة على البحار والممرات الاستراتيجية،  فمنذ أن صاغ ماهان نظريته حول “قوة البحر” في مطلع القرن العشرين أصبح التحكم في المضائق والموانئ أحد الأعمدة الأساسية لبسط النفوذ العالمي.

وفي هذا السياق يحتل اليمن موقعا حيويا عند باب المندب؛ أحد أهم الممرات البحرية في العالم، حيث تمر نسبة كبيرة من التجارة الدولية، خصوصا في مجال الطاقة؛ إضافة إلى عمقه الاستراتيجي الذي يربط القرن الأفريقي بالمحيط الهندي وجغرافية القلب في جزيرة العرب وحتى أطرافه في كل من العراق ومنطقة الشام ومصر.

ومن منظور  القوة البحرية فإن قيمة كل دولة منحت  هذه الميزة الخطرة  يكمن بقدرتها على تأمين موانئها وتفعيل قيمها الإنسانية وأخلاقها التجارية ومعاييرها الإنتاجية وقوتها الأمنية المؤهلة وتعزيز أسطولها البحري وضمان خطوط إمداد آمنة في أعالي البحار وعلى مسارح البحر الأحمر والعربي والمحيط الهندي وعلى أمتداد 2000 كيلومتر،

وما يزال اليمن غائبا  عن قراراته السيادية والوطنية إذ ظلت جغرافيته البحرية مجالا للقوى الدولية، ولم يسع لتطوير هذه القوة المتوازنة، إذ ظل في صراع محتدم  على جغرافيته البرية بدليل اختياره صنعاء عاصمة برية على النمط العسكري القديم  منفصلة عن استراتيجية الرؤية البحرية والانفتاح على العالم المعولم.

حيث لم يمتلك في تاريخه الحديث قوة بحرية مستقلة قادرة على فرض سيادته على مياهه الإقليمية، إن خروجه من هذه المعادلة البحرية و هذا الفراغ الاستراتيجي جعل اليمن عرضة لتنافس القوى البحرية الإقليمية والدولية التي تدرك أن السيطرة على هذه المنطقة تعني امتلاك قلب التجارة العالمية بين المحيط الهندي والبحر الأحمر، وبالتالي السيطرة على  ديناميكيات التجارة العالمية.

إن الاستراتيجية البحرية لماهان تتأسس على ما تفتقر له اليمن من رؤية بحرية، هذه الرؤية التي ظلت مهمشة منذ خروج الدولة العثمانية ودولة المماليك جعل من اليمن اضعف حلقات العالم في استراتيجيتها البحرية، حتى أصبحت جزره اليمنية مؤجرة لدول أخرى أو أنها عرضة لأطماع دولية، وما احتلال جزيرة حنيش إلا دليلا على ضعف الأمني البحري لهذه الدولة التي تهمشت بتعدد نفوذها وانقسامها.

يرى ماهان أن القوة الاستراتيجية البحرية تقوم على الأسطول البحري القوي و القواعد البحرية المنتشرة  والسيطرة على المضائق الحيوية.

وإذا أسقطنا هذه النظرية على المشهد اليمني، فسنجد أن القوى الفاعلة في الصراع اليمني تتنافس على السيطرة على موانئه ومضايقه  وليس فقط على أراضيه الداخلية؛  فميناء عدن رغم تاريخه العريق كأحد أهم موانئ المنطقة ظل متراجعا بسبب الحروب المحلية  وعدم الاستقرار  مما أتاح لقوى أخرى فرض نفوذها على جيبوتي وجزر البحر الأحمر وموانئ أرتيريا والصومال، وبذلك حرم اليمن من ميزاته الاقتصادية والأمنية.

أما جزيرة سقطرى، التي تحتل موقعا استثنائيا في المحيط الهندي فقد تحولت إلى ساحة تنافس بين عدة دول تسعى لإنشاء قواعد بحرية فيها، تطبيقًا عمليا لمفهوم ماهان عن أهمية القواعد البحرية في توسيع النفوذ البحري، لكن الأهم من ذلك، هو الصراع على باب المندب الذي أصبح نقطة اشتباك جيوبوليتيكي بين مختلف الأطراف.

وبينما تسعى القوى الإقليمية لضمان عدم سيطرة خصومها على هذا الممر الحساس تحاول القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين تأمين وجودها البحري في المنطقة؛ سواء عبر قواعد عسكرية مباشرة أو عبر دعم وكلاء محليين يضمنون لها نفوذا غير مباشر.

هذه المنافسة على المضيق ليست مجرد قضية يمنية  بل هي جزء من صراع أوسع على مستقبل الهيمنة البحرية في القرن الحادي والعشرين حيث يشكل باب المندب نقطة التقاء بين استراتيجيات الولايات المتحدة التي تسعى لضبط النفوذ الصيني في المحيط الهندي واستراتيجيات القوى الإقليمية التي تحاول ضمان موقعها في الترتيبات الأمنية للمنطقة.

إن اليمن، من هذا المنظور، لم يعد مجرد دولة تعاني من حرب أهلية بل هو قطعة في لعبة شطرنج بحرية لها أبعاد استراتيجية تغيب عن العقل السياسي أو الاستراتيجي للمؤسسات والدولة اليمنية، حيث تتحرك القطع الشطرنجية وفق مصالح لا علاقة لها بالشأن اليمني الداخلي، فالقواعد البحرية والموانئ الاستراتيجية والممرات البحرية أصبحت أكثر أهمية من الحكومة المركزية أو الشرعية السياسية  أو حتى مستقبل الوحدة اليمنية.

وهو ما يقود إلى قناعة بأن أي تسوية سياسية في اليمن لن تكون كافية لإنهاء الصراع  ما لم تأخذ بعين الاعتبار المعادلات البحرية التي تحكمه وفق منطق الاستراتيجية البحرية لماهان، حيث من يسيطر على البحر يسيطر على مصير الدولة اليمنية وعلى الأمن البحري والأمن القومي لجزيرة العرب ومنطقة الشرق الأوسط.

وإذا أسقطنا الجيوبوليتيك اليمني على استراتيجية القوة الجوية كما تبلورت في نظريات جوليان كوربت ووليام ميتشل فسنجد أن السيطرة على المجال الجوي اصبح عنصرا حاسما في إعادة تشكيل التوازنات الداخلية والإقليمية؛ حيث لم يعد الصراع في اليمن يدور فقط حول الأرض والموانئ والمضائق بل تحول إلى معركة جوية فرض منطق التفوق الجوي والسيادة الجوية والقدرة على الضربات الاستباقية والتحكم في الأجواء، كل هذا من العوامل الرئيسة في تحديد ملامح المشهد الاستراتيجي لليمن السعيد، التسمية للرحالة اليونان الذي أطلقوها على اليمن الموحد .

وتقوم استراتيجية القوة الجوية الحديثة على عدة ركائز، أبرزها الردع الجوي، الاستطلاع والتجسس، الضربات الدقيقة، والدعم اللوجستي الجوي.

وفي الحالة اليمنية، يتضح أن المجال الجوي لم يعد ملكا لليمنيين بل غدا مسرحا مفتوحا للقوى الإقليمية والدولية التي تستخدمه لتعزيز نفوذها وحماية مصالحها،  فمنذ بدء العمليات العسكرية في اليمن باتت القوة الجوية العامل الأكثر حسما في الصراع، حيث لعب سلاح الجو التابع للتحالف دورا رئيسا في فرض معادلة الردع ضد الحوثيين، الذين ردوا بتطوير قدراتهم في مجال الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية محولين المجال الجوي من ورقة بيد القوى التقليدية إلى ساحة مواجهة غير متكافئة تستخدم فيها تقنيات الحرب غير المتماثلة.

وبالعودة إلى أفكار ميتشل الذي اعتبر أن من يسيطر على الجو يتحكم في مسار الحرب، نجد أن الحرب في اليمن تعكس هذه المقولة بشكل واضح؛ فمنذ اللحظة التي فقدت فيها الدولة اليمنية سيطرتها على مجالها الجوي باتت الفصائل المتحاربة غير قادرة على فرض سيادتها على الأرض وأصبحت التحركات العسكرية مرهونة بتفوق أو ضعف الغطاء الجوي.

و هذه المعادلة لم تؤثر فقط على مسار العمليات القتالية بل أعادت رسم التوازنات السياسية حيث أصبحت الأطراف التي تمتلك دعما جويا قادرة على فرض شروطها في أي مفاوضات.

لكن الأخطر من ذلك هو أن اليمن تحول إلى ساحة اختبار لتكتيكات الحرب الجوية الحديثة خاصة فيما يتعلق باستخدام الطائرات المسيرة كبديل للقوة الجوية التقليدية.

فالحوثيون، رغم افتقارهم لسلاح جو نظامي استطاعوا فرض معادلة تهديد مستمر عبر تطوير ترسانتهم من الطائرات بدون طيار التي باتت تستخدم في عمليات هجومية ضد البنية التحتية الحيوية لخصومهم سواء داخل اليمن أو في عمق الأراضي السعودية والإماراتية.

هذا التحول يعكس ملامح الحرب الجوية المستقبلية حيث لم يعد التفوق الجوي حكرا على الدول الكبرى التي تمتلك أساطيل من المقاتلات المتطورة بل أصبح بالإمكان تغيير موازين القوى عبر تكنولوجيا منخفضة التكلفة لكنها ذات تأثير استراتيجي عال يتناسب مع لعبة القدرات الجوية للدفاع والحماية وحتى الهجوم.، وأن الصراع اليمني من منظور القوة الجوية لم يعد مجرد حرب بين أطراف متنازعة بل تحول إلى مختبر لتطور استراتيجيات الحرب الجوية في القرن الحادي والعشرين.

فمن ناحية، نشهد استمرار الاعتماد على سلاح الجو التقليدي في الضربات الجوية المكثفة ومن ناحية أخرى نرى بروز تقنيات جديدة تعيد تعريف مفهوم التفوق الجوي؛ حيث لم يعد من الضروري امتلاك أسراب من الطائرات الحربية المكلفة بل بات بالإمكان إحداث تأثير استراتيجي عبر استخدام الطائرات المسيرة وصواريخ الكروز، وهو ما يعيد تشكيل المشهد الأمني ليس في اليمن فقط بل في المنطقة بأسرها.

وفي ظل هذه التحولات  يتضح أن مستقبل اليمن لن يحدد فقط على الأرض أو في البحر بل في المجال الجوي أيضا، فالقوى التي تستطيع فرض سيطرتها على الأجواء ستملك اليد العليا في أي تسوية مستقبلية، بينما ستظل الأطراف التي تفشل في تحقيق توازن جوي رهينة لضربات الخصوم، و هذه الحقيقة تجعل من الأجواء اليمنية أكثر من مجرد ميدان معركة، بل ساحة تنافس استراتيجي طويل الأمد حيث ستحاول كل قوة فاعلة تأمين موطئ قدم لها في سماء اليمن، ليس فقط من أجل حسم الصراع القائم ولكن لضمان نفوذها في المستقبل القريب.

وإذا نظرنا إلى الجيوبوليتيك اليمني من منظور استراتيجية القوة البرية، كما صاغها كلاوزفيتز ولِيدِل هارت، نجد أن السيطرة على الأرض في اليمن لم تكن مجرد مسألة عسكرية، بل كانت معادلة معقدة تحكمها الجغرافيا الوعرة والبنية القبلية وتداخل النفوذ الإقليمي والدولي.

فالقتال ليس فقط مواجهة بين جيوش نظامية بل هو صراع متعدد المستويات حيث يتداخل التكتيك التقليدي مع حرب العصابات  وتتحول السيطرة على الأرض إلى معركة استنزاف مستمرة يصعب فيها الحسم العسكري المطلق.

ووفقا لكلاوزفيتز، فإن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى وفي اليمن لم تكن السيطرة البرية مجرد هدف عسكري بل أداة تفاوض سياسي،  فالمناطق التي تسيطر عليها الأطراف المتنازعة ليست مواقع استراتيجية فحسب، بل أوراق ضغط تستخدم لأي مفاوضات مستقبلية، وهذا هو تفسيرنا لسؤال لماذا لا تسعى الأطراف المتصارعة إلى حسم المعركة بشكل كامل؟  بل تعمل على إدارة الصراع بطريقة تبقيها في موقع قوة دون استنزاف كامل لمواردها.

أما من منظور لِيدِل هارت، الذي ركز على مفهوم “النهج غير المباشر” في الحرب البرية، فإن اليمن يمثل حالة نموذجية لهذا المبدأ،  فبدلا من المواجهة المباشرة تعتمد الفصائل المتحاربة على تكتيكات الحركة السريعة  والسيطرة على التضاريس الحاكمة وشن هجمات خاطفة ضد خطوط إمداد العدو.

فالتضاريس اليمنية بجبالها الوعرة ووديانها العميقة تمنح المقاتلين المحليين ميزة تكتيكية ضد الجيوش النظامية وتجعل من الصعب فرض سيطرة كاملة على الأرض، وهذا تفسيرنا لتساؤل أخر  لماذا لم تنجح أي قوة عسكرية سواء داخلية أو خارجية  في تحقيق نصر حاسم رغم سنوات التي تجاوزت العقد ونصف من الفناء.

وهنا ومن منظور الحرب البرية الحديثة يمكن تقسيم الصراع اليمني إلى ثلاث مستويات استراتيجية:

  • السيطرة على المراكز الحضرية: حيث تتركز القوات النظامية في المدن الرئيسية مثل صنعاء، عدن، ومأرب، لكن السيطرة على المدن لا تعني بالضرورة التحكم الكامل في الإقليم المحيط بها، حيث تبقى المناطق الريفية مساحات مفتوحة للمناورة العسكرية للقوات غير النظامية.
  • التحكم في خطوط الإمداد: فكل طرف يسعى للسيطرة على الطرق والممرات الاستراتيجية التي تربط بين المدن والموانئ، وهو ما يفسر المعارك العنيفة حول مناطق مثل الحديدة وتعز حيث لا تمثل هذه المناطق مجرد مراكز سكانية بل نقاط عبور حيوية تؤثر على حركة القوات والموارد.
  • استخدام الحرب غير المتكافئة: حيث تستفيد الجماعات المسلحة مثل الحوثيين من التضاريس الوعرة لشن هجمات غير مباشرة على القوات النظامية مستخدمة تكتيكات الكمائن والهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة، لتعويض التفوق الجوي والبحري لخصومها.

و ما يجعل الصراع البري في اليمن أكثر تعقيدا هو البنية القبلية للمجتمع؛ ففي العديد من الحالات لا تخضع السيطرة على الأرض للمنطق العسكري التقليدي بل يتم تحديدها وفق تحالفات قبلية متغيرة؛ فالقبائل ليست مجرد وحدات سكانية بل هي فاعلة عسكريا وسياسيا واقتصاديا و يمتلكون قواتهم الخاصة، ويغيرون ولاءاتهم بناء على تطورات الصراع، وهذا  ما يجعل أي استراتيجية للقوة البرية في اليمن غير قابلة للتطبيق بشكل صارم حيث يمكن أن تتحول أي منطقة من الولاء الى التمرد عليه تلعب على أوتارها ومصالح ومتغيرات محلية.

كما أن القوة البرية في اليمن لا تنحصر بالجنود والسلاح، بل شبكة معقدة من النفوذ المحلي والتكتيكات غير النظامية والتضاريس الحاكمة، ومن هنا، يمكن القول إن من يريد كسب الحرب البرية في اليمن لا يحتاج فقط إلى قوة عسكرية بل يحتاج إلى فهم عميق للجغرافيا القتالية والتركيبة القبلية وديناميكيات التحالفات المحلية، وبدون هذا الفهم، ستظل أي محاولة للسيطرة على الأرض اليمنية مجرد حملة عسكرية أخرى تنتهي بالاستنزاف كما حدث مع كل من حاول فرض سيطرته على هذه الأرض الصعبة عبر التاريخ.

وفي هذا السياق لا يمكن أن نتجاهل مدى تأثير القوى الدولية على مسار النزاع اليمني وأبعاده الجيوسياسية،  فكل قوة تضع في حسبانها استراتيجياتها الخاصة في الاستفادة من الموقع الجغرافي لليمن الذي يمثل حلقة وصل بين الشرق الأوسط وأفريقيا وبين محيطات متعددة؛ فالموقع الحساس لليمن جعل منه عنصرا لا يمكن التغاضي عنه في أي عملية تحليل جيوسياسي تتعلق بالأمن الدولي، وهذا البعد كان مغيبا لدى الأطراف اليمنية التي أخطأت حسابات المتغيرات الدولية.

فالولايات المتحدة تتعامل مع اليمن كأداة استراتيجية في حربها ضد التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش منذ بداية الصراع، وقد بدأت واشنطن في تنفيذ غارات جوية استخبارية باستخدام طائرات مسيرة كما قدمت الدعم العسكري والاستخباراتي لقوات التحالف العربي.

لكن دورها لا يقتصر على ذلك، بل يتعداه إلى تأمين الممرات البحرية الحيوية في البحر الأحمر وعلى رأسها مضيق باب المندب وهو الممر الذي يُعد من أهم الممرات المائية في العالم حيث يمر عبره تجارة النفط العالمية،  لذا تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على حرية الملاحة فيه من أي تهديدات قد تنشأ نتيجة الانقسامات الداخلية في اليمن أو انتشار الجماعات المسلحة، وهو ما شكل دافع قوميا لأمنها الاقتصادي بما تقوم به من ضربات جوية على معاقل الحوثيين.

ومع استمرار الحرب وتعدد الفاعلين على الأرض وتحاول واشنطن الحفاظ على التوازن في المنطقة بين القوى المحلية، حيث تركز على عدم تمكين أي طرف من الهيمنة بشكل كامل على المفاصل الاستراتيجية التي قد تهدد مصالحها في المستقبل.

في المقابل تسعى روسيا لاستعادة نفوذها في منطقة البحر الأحمر وهو ممر استراتيجي يعزز من حضورها في منطقة الخليج العربي والقرن الإفريقي بعد صراع طويل في سوريا حيث  تبحث موسكو عن دور متزايد في اليمن لتعزيز موقفها الجيوسياسي في مواجهة الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة.

وتعد أحد المحاور الأساسية التي تنظر إليها روسيا هو قدرتها على إقامة قاعدة بحرية على سواحل اليمن أو في دول القرن الإفريقي مما يتيح لها وجودا دائما في البحر الأحمر.

مما يمكنها من تحقيق توازن استراتيجي أمام القواعد البحرية الغربية المنتشرة في المنطقة، وترى من اليمن ورقة ضغط دبلوماسي على الغرب ووسيلة للتفاوض مع القوى الكبرى حول ملفات أخرى مثل الملف النووي الإيراني، حيث تتمتع إيران بعلاقات وثيقة مع الحوثيين.

وبالنسبة لإيران فإنها تستفيد من الفوضى في اليمن لتعزيز نفوذها في المنطقة بما يتماشى مع استراتيجيتها العامة في توسيع دائرة هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط، وهي الداعم الرئيس  للحوثيين ماليا وعسكريا كما تزودهم بتكنولوجيا متقدمة مثل الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، حيث  تعتبر اليمن جزء أساسي من مشروعها الإقليمي لأن وجود الحوثيين على باب المندب  يشكل تهديدا لدول الخليج، لا سيما المملكة العربية السعودية، الخصم الرئيسي لإيران في المنطقة، كما تسعى إيران إلى استخدام اليمن كـ ورقة ضغط في مفاوضاتها الدولية مع القوى الكبرى حيث يبدو أن الملف اليمني أصبح جزءا من سياق أكبر يتعلق بالملف النووي الإيراني والتوازنات الإقليمية في منطقة الخليج.

وبالنسبة  لطموحات الصين الاقتصادية والجيوسياسية فإنها ومن منظور استراتيجيتها ترى من اليمن عنصرا مهما في مشروعها التي أطلقته تحت تسمية الحزام والطريق؛ فهي تسعى لتأمين وصولها إلى الأسواق الأوروبية والأفريقية عبر البحر الأحمر، مستفيدة من موقع اليمن كحلقة وصل بين المحيط الهندي والبحر الأحمر لا سيما وأنهها  تمتلك استثمارات كبيرة في موانئ القرن الإفريقي؛ جيبوتي وإريتريا  مما يعزز قدرتها على تحقيق تدفقات تجارية ضخمة عبر المنطقة.

إلى جانب ذلك، لا تقتصر مصالح الصين في اليمن على الجانب الاقتصادي فقط، بل تنظر إلى المنطقة كقاعدة استراتيجية لتعزيز نفوذها البحري من خلال موقع اليمن الاستراتيجي في البحر الأحمر لتحقيق أمنها البحري في مواجهة أي تهديدات محتملة للخطوط التجارية الصينية.

ومن جهة مغايرة فإن  الاتحاد الأوروبي يقدم دورا  مختلفا حيث يركز بشكل رئيسي على الجانب الإنساني والصراع السياسي. ولا تسعى القوى الأوروبية إلى التدخل المباشر في العمليات العسكرية،  ولكنها تلعب دورا مهما في الدعم الدبلوماسي والمساعدات الإنسانية، و يقدم الاتحاد الأوروبي تمويلا للبرامج الإغاثية حيث يخصص مبالغ ضخمة لمساعدة المدنيين المتضررين من الحرب  في حين يضغط على أطراف النزاع للوصول إلى حل سلمي عبر الحوار، كما تسعى فرنسا وألمانيا إلى الحفاظ على استقرار البحر الأحمر من خلال ضمان سلامة الملاحة.

ومن جهة أخرى نجد أن تركيا التي لم تكن طرفا رئيسا في بداية الحرب فإنها ومن خلال حسابات فكرية بدأت ببناء نفوذها الإقليمي في اليمن مستفيدة من الفراغ الاستراتيجي الذي خلفته القوى الكبرى حيث تبحث عن تعزيز دورها في القرن الإفريقي وتحاول أن تلعب دورا مهما في حل الأزمة اليمنية عبر الوساطة السياسية في بعض الأحيان.، وتعمل في الوقت ذاته على تعزيز علاقاتها مع الأطراف في الجنوب اليمني من خلال مشاريع تنموية ومساعدات إنسانية، وهو ما يمنحها قاعدة دعم في المستقبل إذا تم الوصول إلى أي تسوية سياسية،  كما أن تركيا تسعى إلى تكثيف وجودها العسكري في المنطقة، خاصةً في إطار مشروعها الهادف إلى إعادة النفوذ العثماني في بعض المناطق.

وفي الحقيقة لا تكمن خطورة اليمن الجيوبوليتيكية في موقعه الجغرافي الفريد وإن كان كذلك، بل في التداخلات الديناميكية الناتجة عن تحوله من نقطة اضطراب دائم تؤثر على الخليج والقرن الإفريقي بطرق تتجاوز المفهوم التقليدي للتهديدات الأمنية؛ فاليمن لم يعد ساحة للصراعات الداخلية كما يراها المحللون المحليون، بل أصبح مفصلا استراتيجيا حيث تتشابك التنافسات الإقليمية والدولية، مما يجعله عنصرا غير قابل للإهمال في حسابات الأمن القومي لكل من دول الخليج ودول القرن الإفريقي.

وقد تحول اليمن من كونه دولة ذات أهمية بحرية إلى عامل متغير يعمل  على إعادة رسم موازين القوى الإقليمية، حيث باتت كل قوة إقليمية ترى في اليمن فرصة لتعزيز نفوذها أو ساحة لتصفية حساباتها مع خصومها، و هذا الوضع يجعل استقرار اليمن أكثر تعقيدا من مجرد وقف لإطلاق النار أو اتفاق سياسي بين أطراف الصراع، بل هو مرتبط مباشرة بالتحولات الاستراتيجية في منطقة الخليج والقرن الإفريقي.

وعلى الجانب الخليجي يعد اليمن بوابة تهديد مباشر في حال تمكنت قوى مناوئة لدول الخليج من استخدام أراضيه كمنصة لإطلاق الضغوط السياسية والعسكرية سواء عبر الصواريخ الباليستية أو النفوذ السياسي في مناطق استراتيجية مثل المهرة وسقطرى، ووسيلة من وسائل الاستنزاف الأمني للدول الخليجية وكذلك مدخل من مداخل تمدد النفوذ الخارجي ليس في اليمن فحسب وإنما في منطقة الخليج العربي وهو ما يعني انتقال الاستراتيجية الدولية من  احتضان قوى المعارضة لأنظمتها  إلى استخدام الجغرافيا الفاشلة والمعتقدات المتصارعة.

أما على الجانب الإفريقي؛ فاليمن هو المفتاح لفهم التوازنات الجديدة بين القوى المتنافسة في البحر الأحمر وخليج عدن، حيث تلعب القواعد العسكرية الدولية في جيبوتي وأرتيريا والصومال دورا في احتواء الفوضى القادمة من اليمن أو استغلالها كعامل ضغط على دول الجوار.

كما لم يعد باب المندب وحده العنصر الوحيد في معادلة الخطورة الجيوبوليتيكية لليمن بل أصبح مجمل الجغرافيا اليمنية عنصرا غير مستقر يمتد تأثيره ليشمل كل الممرات الحيوية المحيطة به؛ فالتحولات التي شهدها اليمن منذ 2015 جعلت الساحل الغربي نقطة صراع مستمر لأن أي اضطراب في هذه المنطقة لا يؤثر على الملاحة الدولية فحسب، بل يعيد تشكيل التحالفات العسكرية والاقتصادية في الإقليم، مما يغير المعادلات الاستراتيجية.

وما يزيد من خطورة اليمن في هذه المعادلة هو أنه لم يعد كياناًجيوسياسيا موحدا، بل هو فسيفساء من القوى المتنافسة، بعضها يمتلك ارتباطات خارجية وبعضها يعمل وفق منطق السيطرة المحلية وهو ما يجعل من الصعب التنبؤ بمدى استقرار أي منطقة جغرافية فيه على المدى الطويل.

وبالنسبة لأمن الخليج فإن تشكل بيئة أمنية غير مستقرة على الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية يتطلب جهودا أمنية واقتصادية وهو ما يستنزف الموارد الاقتصادية والعسكرية على المدى الطويل، وأن تحويل اليمن إلى ساحة حرب غير متكافئة بين القوى الإقليمية لم يقتصر الصراع على الأرض  بل تتوسع الخطورة لتشمل  ا المجال السيبراني والجوي مما يزيد من تعقيد الصراع.

كما أن استمرار التهديد المباشر للممرات البحرية الخليجية يؤثر بشكل مباشر على تجارة النفط القادمة من الخليج مما يعزز من إمكانية لجوء الدول الكبرى إلى فرض ترتيبات أمنية بحرية جديدة قد تحد من سيادة دول المنطقة على ممراتها الحيوية.

وفي الجانب الأخر نشهد تصاعد موجات اللجوء  اليمني غير المنظم مما يشكل ضغطًا إضافيا على الدول الهشة في المنطقة على الصومال وإريتريا، ويساهم في تهريب الأسلحة والمخدرات عبر خليج عدن والبحر الأحمر حيث أصبح اليمن نقطة انطلاق رئيسية لهذه الأنشطة التي تؤثر على الأمن الداخلي لدول القرن الإفريقي.

كما التنافس الدولي على عسكرة المنطقة يساهم في تعميق  الفوضى اليمنية ويعد ذلك فرصة للقوى الدولية من اتخاذ هذه الفوضى مبررا  لتعزيز وجودها العسكري في القرن الإفريقي ومنطقة الخليج، مما قد يؤدي إلى خلق توازنات جديدة تعيد تشكيل الخارطة السياسية والاقتصادية للمنطقة وفقا لمصالح القوى المهيمنة.

وفي حال استمرار الوضع كما هو فإننا على أعتاب ثلاث سيناريوهات:

  • سيناريو الفوضى المستمرة:

في هذا السيناريو، يستمر اليمن في حالته الراهنة من الانقسام والصراع مما يؤدي إلى تحول بعض مناطقه إلى مناطق نفوذ لقوى خارجية واستمرار عمليات القرصنة والهجمات على الممرات البحرية وهو ما يعزز من حالة عدم الاستقرار في القرن الإفريقي ويستنزف دول الخليج أمنيا واقتصاديا.

–  سيناريو التسوية الجزئية:

يقوم هذا السيناريو على فكرة الوصول إلى نوع من التسويات المرحلية التي تحافظ على الوضع كما هو ولكن تحت ترتيبات أمنية جديدة  تستدعي  وجود قوات دولية في بعض المناطق الاستراتيجية أو فرض ترتيبات بحرية تمنع أي طرف من السيطرة الكاملة على باب المندب.

–  سيناريو إعادة التوحيد والاستقرار:

وهو السيناريو الأكثر تفاؤلا، ويتطلب إعادة بناء الدولة اليمنية بشكل يضمن دمج جميع الفصائل المتحاربة في منظومة سياسية وأمنية موحدة بحيث يتم استبدال الحرب بآليات سياسية ويتم إعادة هيكلة العلاقات بين اليمن ودول الخليج والقرن الإفريقي على أسس تعاون اقتصادي وأمني مشترك.

ولمواجهة الخطورة التي يمثلها الموقع الجغرافي لليمن على المنطقة يجب العمل على:

– تعزيز الاندماج الاقتصادي بين اليمن ودول الخليج، بحيث يتم توفير بدائل اقتصادية تمنع استمرار الصراع عبر تحويل اليمن من نقطة تهديد إلى عنصر استقرار إقليمي.

– إيجاد منظومة أمنية مشتركة للبحر الأحمر وخليج عدن بحيث لا تبقى مسؤولية تأمين هذه الممرات على عاتق القوى الدولية فقط بل يتم إشراك الدول الإقليمية فيها، بحيث يتشكل تحالف بحري أمني مشترك بقيادة موحدة تضم اليمن والسعودي وعمان والأمارات وقطر والبحرين والصومال وارتيريا  على امتداد جغرافيا البحر الأحمر والمحيط الهندي والبحر العربي وحتى مضيق هرمز.

– إعادة هيكلة الترتيبات العسكرية في اليمن بحيث يتم إنشاء قوات أمنية موحدة قادرة على ضبط الأمن الداخلي ومنع تحوله إلى منصة تهديد لجيرانه.

ومن وفي  قلب الأزمة اليمنية تكمن إشكالية الإدراك الاستراتيجي لدى مختلف المكونات السياسية والاجتماعية حيث يظهر قصور واضح في فهم العمق الاستراتيجي لليمن ليس فقط كمجال جغرافي بل كعنصر فاعل في معادلات القوة الإقليمية والدولية، و هذا الجهل بالمقومات الاستراتيجية جعل القوى المحلية تتعامل مع اليمن كجغرافية مجزأة لا ككيان متكامل، مما أفقده القدرة على استثمار موقعه وثرواته لصالح مشروع وطني جامع.

وبدلا من هذا الإدراك الجيواستراتيجي  للنخب السياسية والعسكرية أن اليمن بموقعه الجغرافي وبنيته الديموغرافية يشكل كيانا استراتيجيا واحدا، نجد أن كل مكون يركز على بيئته المحلية وافقه المصلحي الضيق،  مما يعمق الانقسامات الداخلية،  فالتعامل مع اليمن كـمجموعة كيانات متصارعة أدى إلى فقدان السيطرة المركزية على مناطقه الحيوية ما جعل قوى خارجية تستفيد من هذه الفجوة لإعادة رسم خرائط النفوذ داخل البلد.

على سبيل المثال تنظر بعض القوى المحلية إلى الساحل الغربي كمجرد منطقة صراع  دون استيعاب أن السيطرة عليه تعني التحكم بأحد أهم شرايين التجارة الدولية، وفي الجنوب هناك من يتعامل مع عدن والموانئ القريبة منها على أنها ملكية محلية أكثر من كونها منفذا استراتيجيا لمستقبل اليمن الاقتصادي، بينما تهمل القوى في الشمال حقيقة أن باب المندب ليس مجرد معبر مائي، بل ورقة قوة في التوازنات الإقليمية.

ومن جهة أخرى فإن اليمن يمتلك  ثروات طبيعية وبشرية هائلة،  لكن المكونات السياسية والعسكرية تتعامل معها كمصادر للتمويل العسكري أو كأدوات لتعزيز نفوذها الذاتي، بدلا من استثمارها كقوة مادية لدعم التنمية و الاستقلال الاستراتيجي للبلاد ، ويتعامل مع  النفط والغاز على أنهما موارد دعم للسيطرة الميدانية بدلا من كونهما عناصر استراتيجية لبناء اقتصاد وطني مستقل يخرج المجتمعات من الضيم والضعف إلى الإنتاج والفاعلية.

هذا الجهل بأهمية هذه الثروات كركائز للعمق الاستراتيجي جعل اليمن رهينة التدخلات الخارجية ، حول اليمن من دولة قادرة على فرض شروطها في سوق الطاقة الإقليمية إلى مجرد نقطة ضعف يتم استغلالها من قبل القوى الإقليمية والدولية.

ولعل أحد أكبر الأخطاء التي وقعت فيها المكونات اليمنية هو عدم إدراكها ب أن الصراعات الداخلية ليست معزولة عن السياق الإقليمي والدولي، فقد تعاملت بعض القوى مع الحرب كمسألة محلية بحتة دون أن تدرك أن كل معركة في الداخل اليمني تعيد رسم خطوط النفوذ الإقليمي، حيث لم تدرك بعض القوى أن تمكين أطراف خارجية من السيطرة على الجزر اليمنية يعني فقدان اليمن لسيادته على ممرات مائية حيوية، كما أن الصراع على مناطق النفط والغاز لم يكن مجرد صراع اقتصادي، بل إعادة توزيع للقوة الإقليمية داخل اليمن نفسه حيث تحولت مناطق الإنتاج إلى ساحة صراع بين قوى إقليمية ودولية تسعى لتعزيز نفوذها في المنطقة.

 

ومن المفترض استراتيجيا وأمنيا  أن تكون هناك علاقة تفاعلية بين الداخل اليمني وامتداداته الإقليمية وخصوصا مع منطقة الخليج العربي والقرن الافريقي،  إلا أن غياب هذا الإدراك جعل المكونات اليمنية تفشل في تحقيق توازن استراتيجي يحمي مصالحها، كما لم تدرك بعض القوى أن موقع اليمن يمنحها أوراق ضغط جيوسياسية كان من الممكن استثمارها بذكاء لصالح البلاد، بل على العكس، تم استغلاله لإثارة الصراعات الداخلية بدلا من فرض نفوذ مستقل إقليميا.

على سبيل المثال لم يتم استغلال وجود اليمن على ممرات بحرية استراتيجية في بناء شراكات اقتصادية ذكية مع القوى الكبرى بل تحول اليمن إلى ساحة للتنافس الدولي على هذه الممرات في ظل غياب مطبق لوجوده ومكانته متجاهلا أهمية موقعه الاقتصادي – البحري وإشرافه على الممرات البحرية، مما أفقده القدرة على المناورة السياسية.

هذا القصور في الإدراك الاستراتيجي أدى إلى نتائج كارثية على الواقع اليمني، أبرزها:

  • تحول اليمن إلى ساحة صراع إقليمي ودولي بدلا من أن يكون لاعبا مستقلا في معادلة التوازنات الإقليمية.
  • تفكك السيطرة المركزية، مما جعل القوى الخارجية تتعامل مع اليمن كجغرافيا مجزأة يمكن اقتطاع أجزاء منها لخدمة أجنداتها الخاصة.
  • ضياع فرص استثمار الموقع والثروات، حيث أصبح اليمن يعتمد على الدعم الخارجي بدلا من تطوير اقتصاده الذاتي.
  • استمرار حالة الفوضى، حيث أن غياب الوعي بالمصالح الاستراتيجية أدى إلى إعادة إنتاج الأزمات بدلا من حلها.

ولحل هذه الأزمة الإدراكية، تحتاج المكونات اليمنية إلى تغيير جذري في طريقة تفكيرها وتعاملها مع اليمن ككيان استراتيجي متكامل من خلال:

  • تعزيز مفهوم “اليمن الواحد” جغرافيا واستراتيجيا بحيث يتم التعامل مع كل منطقة على أنها جزء من منظومة قوة متكاملة وليست مجرد ساحة صراع منفصلة.
  • تطوير رؤية وطنية لإدارة الثروات بحيث يتم استغلال الموارد كمصدر لتعزيز الاستقلال الاستراتيجي وليس كأدوات للتمويل العسكري.
  • بناء وعي جيوسياسي حقيقي داخل المكونات اليمنية بحيث تفهم أن كل تحرك داخلي له تأثير مباشر على الخارطة الإقليمية.
  • إعادة تعريف العلاقة بين اليمن ودول الجوار بحيث تكون مبنية على المصالح المشتركة لا التبعية السياسية أو العسكرية.

وأخيرا فإن المصالحة الوطنية في اليمن ليست خيار سياسي أو حلا تفاوضيا بين أطراف متصارعة بل هي ضرورة جيوبوليتيكية للخروج من الحلقة المفرغة التي أعادت إنتاج الصراع مرارا، حيث يتشابك البعد الداخلي مع التدخلات الإقليمية والدولية في شبكة معقدة من المصالح والتوازنات؛ فاليمن الذي تحول إلى ساحة صراع مفتوح لا يمكن أن يجد استقراره عبر الانتصار العسكري لأحد الأطراف بل عبر إعادة صياغة معادلة السلطة والثروة، وبناء دولة جامعة قادرة على احتواء التنوع السياسي والقبلي والمذهبي ضمن إطار وطني متماسك.

و ليس المطلوب مصالحة شكلية بين النخب السياسية أو اتفاقا هشا يعيد تقاسم السلطة وفق المحاصصة التقليدية، بل مصالحة تتجاوز الحلول الترقيعية إلى إعادة هندسة النظام السياسي بحيث لا يُعاد إنتاج الصراعات، ولا تبقى الدولة مجرد أداة في يد مراكز القوى المتناحرة.

فالتاريخ اليمني حافل بالتسويات السياسية التي لم تصمد لأنها تعاملت مع الظواهر الشكلية وليس عمق و مع جذور المشكلة حيث ركزت على توزيع المناصب أكثر من معالجة الخلل الهيكلي في بنية الدولة والمجتمع والقوة العسكرية.

إن أكبر تحدٍ أمام المصالحة الوطنية هو استعادة الثقة ليس فقط بين الفرقاء السياسيين بل بين الدولة والمجتمع، فقد خلقت الحرب واقعا متأزما  تراجعت  فيه فكرة الدولة لصالح الولاءات الطائفية والقبلية والمناطقية مما يعني أن أي مصالحة يجب أن تترافق مع إعادة بناء العقد الاجتماعي ومفهوم الدولة المدنية والقوانين العدلية، بحيث يشعر اليمنيون بأن الدولة ليست مجرد أداة للمنتصر في الحرب بل كيانا ضامنا للحقوق والعدالة والتنمية.

ولكي تنجح المصالحة لا بد من معالجة الملفات العالقة التي كانت دائمًا وقودا للحروب والانقسامات وعلى رأسها:

–  إعادة توزيع السلطة بشكل عادل، بحيث لا تبقى الدولة محتكرة من قبل فئة أو جماعة بل تكون قائمة على مبدأ الشراكة الحقيقية بين مختلف المكونات.

– إصلاح القطاع العسكري والأمني، بحيث يتم تفكيك الميليشيات وإعادة دمج القوى المسلحة في إطار جيش وطني موحد لا يخضع للأجندات الخارجية أو الولاءات المناطقية.

–  تحقيق العدالة الانتقالية، من خلال معالجة انتهاكات الحرب وتعويض الضحايا ومنع ثقافة الإفلات من العقاب التي كانت أحد أسباب تكرار الأزمات.

– تحقيق تنمية اقتصادية متوازنة، بحيث لا تبقى بعض المناطق مهيمنة على الثروة بينما تعاني مناطق أخرى من التهميش، مما يخلق بيئة دائمة للتمرد وعدم الاستقرار.

–  تحييد اليمن عن الصراعات الإقليمية، حيث يجب أن تتبنى المصالحة موقفا واضحا بأن اليمن ليس ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية بل يجب أن يكون دولة ذات سيادة قادرة على حماية مصالحها دون أن تكون أداة لأي طرف خارجي.

إن المصالحة الوطنية ليست ترفا سياسيا، أو صرخة إعلامية أو مسرحا للخطابات العنترية بل شرطا وجوديا لبقاء اليمن، فالتاريخ يثبت أن الحروب في اليمن لم تنته بانتصار طرف على آخر، بل  كانت تدفع الجميع إلى طاولة المفاوضات بعد استنزاف طويل من الطموحات الساذجة أو عسكرة الارتزاق العسكري.

وإذا كان لابد من المصالحة في نهاية المطاف  فلماذا لا تكون وفق رؤية استراتيجية تستبق المزيد من الدمار وتؤسس لمستقبل مستدام بدلا من أن تكون مجرد وقف مؤقت لإطلاق النار قبل اندلاع جولة جديدة من الصراع؟

إن اليمن ليس فقيرا بالموارد، لكنه ظل فقيرا بالإرادة السياسية الجامعة، والمصالحة الحقيقية الصادقة، و لن تأتي من تدخلات خارجية، بل من قناعة داخلية بأن لا أحد قادر على إلغاء الآخر، وأن بناء الدولة أقوى من أي انتصار عسكري زائل. وهذا هو التحدي الأكبر، فهل يستطيع اليمنيون تجاوز الماضي لبناء مستقبل لا يكون مجرد نسخة متكررة من صراعاتهم القديمة؟

الخاتمة:

إن خطورة الموقع الجغرافي لليمن لا يكمن فقط في تحكمه بالممرات البحرية بل في قدرته على إعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية في الخليج والقرن الإفريقي، فاليمن، سواء كان في حالة حرب أو سلم سيظل عنصرا مؤثرا في المعادلة الإقليمية ولن يكون هناك استقرار حقيقي في الخليج أو القرن الإفريقي دون حل شامل ونهائي للمعضلة اليمنية،  وهذا ما يجعل أي تجاهل لموقع اليمن أو اعتباره مجرد أزمة داخلية خطأ استراتيجي قد يكلف المنطقة الكثير في المستقبل.

كما أن الصراع اليمني لا يمكن فصله عن محيطه الجيوسياسي، فاليمن في النهاية ليس مجرد دولة في أزمة بل هو نقطة ارتكاز تتداخل فيها مصالح القوى الكبرى؛ الولايات المتحدة، روسيا، إيران، الصين، والاتحاد الأوروبي، وكلها تدخل في صراع محتدم على النفوذ في الممرات الاستراتيجية التي تمر عبرها التجارة الدولية مما يجعل من اليمن عنصرا أساسيا في إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية.

ومما يعرقل مشروع بناء الدولة المدنية هو جهل المكونات اليمنية بمقومات العمق الاستراتيجي ، وتحويله من مشروع استراتيجي الى حصره الضيق في كونه فقط إشكالية فكرية – عقائدية وجهوية، وهو جعلها سبب رئيسي في استمرار الأزمة الحالية. غيبت بدور اليمن في  استثمار الموقع الجغرافي والثروات في بناء دولة قوية ومستقلة وحولته  إلى نقطة ضعف في معادلات التوازن الإقليمي حيث يتم التعامل معه كأداة في صراعات الآخرين  بلا من أن يكون قوة فاعلة في تحديد مستقبله وتنمية وجوده ودوره الحضاري.

ونحن في هذه الرؤية والدعوة ندعو دول الخليج العربي والقرن الافريقي والمجتمع الدولي وخصوصا الاتحاد الأوربي الأكثر توازنا عقليا في التعاطي مع القضايا والأزمات العربية في أن تعميق مفهوم الدور الإنساني العالمي الذي يسمح لليمن بأن يكون قوة أمنية لا يستقيم أمن الخليج العربي والقرن الأفريقي إلا بها ليس أن تعود اليمن إلى ما كانت عليه قبل الأزمة بل ليكون اليمن نسخة من المستقبل الذي يتحاوز الماضي برؤية استراتيجية حضارية هي جزء مكمل لاستراتيجية البعد الحضاري الإقليمي والدولي.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.