الانتهازية بين ثبات المبادئ واستغلال القيم
ما طبيعة الانتهازية ؟ وهل هي استثناء أخلاقي أم قاعدة ضمنية في السلوك الإنساني؟
الانتهازية بين ثبات مبادئ الأخلاق والدين واستغلال القيم
د. جمال الهاشمي
تتفاوت مراتب الانتهازيين من يعطل الدين باسم الدين ومن يعطل النظام باسم النظام وبين يستظل تحت مظلة الأخوة والقيم الإنسانية والأخلاق والمصالح العامة.
فهناك من يتحرك تحت مظلة التحرير و الثورة لإنقاذ المجتمعات والشعب من ظلم طام فيدخلهم في ظلم أطم، ومنهم من يرى تدهورا في مظاهر القيم فيتعمق باسم الشرائع والتجديد لاجتثاث أصولها، ومنهم من يأتي بمصالحه المبطنة تحت مظلة الإنقاذ ويحمل في طياته الهلاك، وبقيم العروبة تبكي المروءآت، وتحت عدالة الإسلام يشتعل الطغيان، وبفلسفة الأخوة تتسع الفرقة، وباسم المظلومية ينتشر الظلام.
هنا من يدافع عن الوحدة ، ومن ينادي بالانفصال ومن يطالب بالاستقلال ومنهم من ينادي بالجهويات ومنهم من يدافع عن قيم الوطن والبعض ينتصب للدفاع عن القضايا العامة ؛ المحلية والإسلامية والإنسانية، وكلهم يتزعم القيادة ويتوهم الزعامة ويأمل المهدية، ويتأزر بصفة المنقذ، ويعتم بسمة المنصور، وجميعهم يتاجرون بدماء اتباعهم قبل أن يغوصوا في دماء خصومهم، كلهم شهداء على بعضهم بالضلال والله وقيمه وقيم الإنسانية والشرائع والأديان بريئة من شهاداتهم .
إن الانتهازية ليست موقف عابر أو سلوك فردي، بل هي ظاهرة تشير إلى تحولات القيم في نفس الفرد وداخل المجتمعات، وتعيد فرضية التفسير حول العلاقة بين المصلحة والمبدأ، وبين القيم والسلوك، فمنذ أرسطو إلى سارتر تعاقبت الرؤى الفلسفية بين الإدانة والتبرير، بين اعتبارها خيانة أخلاقية واستراتيجية سياسية.
فما طبيعة الانتهازية ؟ وهل هي استثناء أخلاقي أم قاعدة ضمنية في السلوك الإنساني؟
لقد كان لأرسطو مواقفه المناهضة للسلوكيات الانتهازية، حيث اعتبر الفضيلة حدا وسطًا بين الرذائل والعدالة لتحقيق الموازنة العدلية بين العلاقات الاجتماعية، والانتهازي هو الذي يخل بهذه التوازنات حيث يتحايل على المبادئ لتحقيق مصالحه الأناذية.
وعلى النقيض، فإن البراغماتية الحديثة، كما عند وليم جيمس، ترى أن الحقيقة ذاتها تُقاس بنتائجها العملية، مما يجعل الانتهازية امتدادا منطقيا لفلسفة النفعية .
وقد برر نيقولو مكيافيلي استخدام الحيلة والخداع كأدوات للسلطة تحت قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”، وهذا الموقف بالنسبة له وإن بدا انتهازيا من منظور الأخلاق التقليدية إلا أنه يؤصل للفلسفة الواقعية التي تسير عليها السياسات الدولية القومية الحديثة والمعاصرة، فهو يرى أن المصلحة العليا تسبق الأخلاق المجردة وأن المثاليات صناعة وهمية تسقط الإنسانية عند الممارسة، وخاصة في عالم السياسة حيث تكون السلطة غاية في حد ذاتها.
وانطلاقا من هذه القيم المسيحية يرى معظم الفلاسفة المسيحيين، مثل جاك ماريتان أن فكرة ماكيافيلي تتناقض مع هذه القيم السامية لأن السياسة يجب أن تخضع للأخلاق، لأن الانتهازية تدمر البنية الروحية للفرد والمجتمع، ومن خلال هذه الرؤيتين نجد أن الأحزاب الإسلامية المعاصرة بكل طوائفها دمرت بنيتها الروحية المؤثرة في المجتمعات لارتباطها وتقمصها الفكرة الميكافيلية واستغلالها للديمقراطية وأسلمتها لكثير من المفاهيم الغربية أسلمة وسائلية، وهو ما أدى إلى انحسار مكانتها في سلم القيم الإسلامية والإنسانية والسياسية والمجتمعية، حيث نجد الانتهازية تتملك هذه الفصائل من خلال المؤشرات السياسية والعسكرية المشاهدة وتعدد الولاءات والانقلاب عليه تارات كثيرة، وعدم وضوح تصرفاتها نظرا لأنها تجردت عن كل المعايير الأخلاقية والدينية والإنسانية، وهذه التصرفات بدأت اليوم تتجه نحو النمو في أوروبا وأمريكا تحت مظلة القيم المسيحية ، حيث يتقابل مع مسحنة القيم المسيحية أسلمة القيم الإسلامية في أبرز صور التطرف الديني – الدنيوي المعاصر .
وفي المقابل يقف إيمانويل كانط على النقيض تماما حيث يبني رؤيته على مبدأ “الأمر المطلق” أي أن بنية الفعل تقوم على الواجب لا المصلحة الشخصية ، وأن الانتهازية بالنسبة له تعد تحريفا لعقلية الأخلاق لأنها تتعامل مع الآخرين كوسائل لا كغايات، وهذا ما تفعله المعتقدات السياسية والأحزاب حينما تتعامل مع قواعدها الحزبية وأتباعها كوسائل تبني عليها طموحاتها السياسية مخالفة مقولة عمر بن الخطاب “لرجل واحد من المسلمين أحب إلي من الروم وما حوت، فلا مكاسب في فقه عمر إذا كان ثمنه دم فرد واحد من الأتباع ، بينم تهدر الدماء لمكاسب زائلة في وعالمنا المعاصر تحت مظلة الحق والواجب ليس في مواجهة الآخر وإنما لسفك دماء من أتقاسم معه النسب والقيم والإسلام.
وفي إنجيل متى يقول: المسيح (ع). “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين؛ لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر” حيث تشير هذه الآية إلى نبذ الازدواجية في الولاء والتي هي ميزة الإنسان المعاصر المتكيف والتي تتناقض مع المعايير الثابتة، وقد ورد في سفر الأمثال “وزن الغش مكرهة عند الرب، والوزن الصحيح رضاه” وفي القرآن الكريم قصة شعيب التي ورد فيها معايير إنسانية للتجارة، وأبلغ من ذلك وردت سورة المطففين لتميز بين خبث الانتهازين ودورهم في إفساد دولهم ومجتمعاتهم بل ودورهم في تهديد الأمن والسلم العالمي والملاحة الدولية على مستوى الدول والتنظيمات المسلحة والتي يتصارع فيها قراصنة صغار وكبار تجتمع فيها خصال الانتهازية، إلا أن سورة المطففين تنبئهم بعالم الديمومة والدينونة، بينما تصور لهم قصة شعيب المصير العاجل في حياتهم.
هذه الرؤى في الكتب المقدسة والقرآن تؤكد على أن السعي وراء المصلحة الذاتية بطرق غير أخلاقية محتقرة، ويقدم القديس أوغسطينوس في مدينة الله رؤية فلسفية عميقة حول الفرق بين “مدينة الله” التي تقوم على المحبة والعدالة، و”مدينة الإنسان” التي تحكمها الأهواء والمصالح، فمدينة الله ضابط للقيم الإنسانية المحمودة، ومدينة الإنسان ضابطها أمزجة التصرفات البشرية المنبوذة ، وفي هذا السياق تنتمي الانتهازية إلى مدينة الإنسان التي يتكيف فها صور الخداع والتلون من أجل الوصول إلى السلطة والثروة.
قد يُفهم من فلسفة نيتشه أن الانتهازية قد تكون مبررة إذا كانت تعبر عن إرادة القوة، لأنه يرى الأخلاق التقليدية بأخلاق العبيد التي تقيد الأقوياء الفاعلين لصالح الجماهير، وقد يفهم أن ذلك تبرير للانتهازية، والمفهوم عنه أنها دعوة لتجاوز القيم الموروثة التي تجعل من الخضوع قيمة أخلاقية، وهو نفس المذهب الماركسي الذي دعا للتحرر من قيم الأرثوذكسية وعمم فكرتها على الأدين وابتكر مصطلح “الدين أفيون الشعوب، وهذه المعركة هي التي دفع الفيلسوف الاجتماعي علي شريعتي حياته ثمنا لنقده للتدين المعاصر في كتابه دين ضد الدين، بل إن هذه الفلسفة النقدية لها جذورها التاريخية.
ويطرح توما الأكويني في الخلاصة اللاهوتية تصورا دقيقًا حول الأخلاق السياسية حيث يفرق بين “الحكمة العملية” التي قد تتطلب بعض المرونة، وبين “الانتهازية” التي تتعارض مع القانون الطبيعي والعدل الإلهي.
ومن ناحية أخرى يقدم بول تيليش منظورا أكثر براجماتية حيث يعتقد أن بعض الظروف قد تفرض قرارات صعبة لكن دون الانزلاق إلى الانتهازية الصريحة التي تفقد الإنسان صدقه الداخلي، وهذا بنظري لا يكن التحكم به إلا من خلال المحددات والمعايير الدينية والإنسانية، حتى لا ينزلق المتدين بالدين إلى التجرد عن الإيمان ومبادئه.
كما يعتبر المفكر كارل بارث أن التدين الوظيفي هي علاقة انتهازية بطرق لا شرعية معتبرا أن الإيمان الحقيقي يستلزم الالتزام بالمبادئ بغض النظر عن الظروف وتحولاتها، لأن المبادئ كاملة تغير الظروف نحو وجهتها ولا تتغير بها، وفي كتابه كنيسة ودولة يوضح أن أي تنازل أخلاقي تحت أي مبرر بدعوى المصلحة يؤدي إلى تآكل القيم المسيحية.
وأن أيدلوجية الإسلمة المعاصرة التي تقوم على قاعدة التمييز المطلق والقائلة أن من ليس معنا فهو علينا، لتعكس أسوأ سمات الانتهازية وأسوأ علة مرضية ملازمة لتصرفاتهم، وحولتهم من ثقافة القيم والدعوة وتبييض الدين في قلوب الناس، إلى استغلاله وتسويده في قلوبهم، من خلال مخرجاتهم التي ترتب عليها تنامي ثقافة الجهل والصراع والتفاهة تحت مظلة الغاية تبرر الوسيلة والله أمرنا بها.
بينما وصف جان بول سارتر الانتهازية – في فلسفته الوجودية- أنها شكل من أشكال سوء النية حيث يتخلى الفرد عن حريته الحقيقية مقابل مكاسب مؤقته يضحي بهذه المكاسب الأنانية مصالح المجتمع والمصالح العامة لأن هذه النوع من الناس يترصد الظروف المواتية ليتنصل عن مسؤولية الأخلاقية التي بالتالي تجرده عن المروءة والأصالة.
وفي هذه الفلسفة الوجودية التي يقودها الفلاسفة الوجودين أمثال جان بول سارتر ومارتن هايدغر، يعتقدون أن الانتهازية تهربا من المسؤولية الأخلاقية وهو ما يتنافى مع كون الإنسان مسؤولا عن اختياراته وأفعاله، ولا يمكنه تبرير سلوكياته الانتهازية بالظرفية أو القوى الخارجية، فالفرد الذي يسعى وراء مصالحه الشخصية دون التفكير في العواقب الأخلاقية هو الذي تخلى عن مسؤولياته تجاه الآخرين، وأنه فرارا من الحرية والاختيار.
ورغم تداخل العقلنة الفلسفية والقيم المسيحية وتقاربهما معا مع المبادئ الإنسانية إلا أن استغلال الدين كاستغلال الفلسفة حيث تطور الفكر الانتهازي لتبرير التصرفات الضالة والمنحرفة والوسائل الإجرامية تحت مبررات الوصول إلى الغايات والأهداف النبيلة، وفي فقه المقاصد الشرعية الإسلامية يرون أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وأن الوسائل اللاشرعية تقود مفاسد محرمة في الشريعة.
وهنا يصور أوغسطينوس معضلة الدين الانتهازي حيث يرى أن الجشع والانتهازية يفسدان المجتمع والفرد لأنهما يُضعفان الالتزام الحقيقي بالقيم المسيحية ويؤديان إلى تحلل العلاقات الإنسانية القائمة على الصدق والثقة، والمعايير الدينية الثابتة.
فالانتهازية من منظور الفلسفة المسيحية والإسلام والأديان ليست مجرد خطأ فردي بقدر ما هي أزمة أخلاقية تهدد منظومة الأخلاق ومنظومة الأمن والسلم المجتمعي ، لأنها تغرق الناس في البحث عن المصلحة على حساب الحقيقة، والعدالة الشرعية، وأن متطلبات الخير الحقيقي لا يتحقق عبر الرذيلة أو وسائل غير أخلاقية وهو ما يجعل الانتهازية خيارا مرفوضا حتى ولو كان في أصعب الظروف.
وبين إدانة كانط وبراجماتية جيمس وواقعية مكيافيلي وقيم الأديان ندرك أن مفهوم الانتهازية هي عبارة عن توتر دائم بين المبادئ والمصالح وهو التعبير الذي أشار إليه ونستون تشرشلوبنى عليه السلوك الفردي والمجتمعي والسياسي الأمريكي الحديث والمعاصر “ليس هناك مبادئ دائمة وإنما مصالح دائمة، وهي الفلسفة الأمريكية التي توارت انتهازيتها وراء القيم الإنسانية، حتى تمكن ترامب من إبرازها إلى العلن، معتبرا أن التواري وراء القيم والمفاهيم الوطنية ليس له قاموسا في منطق الأقوياء.
ولطالما ظلت الانتهازية موضوعا جدليا في الفكر الفلسفي والأخلاقي تعمقت في دراسة السلوك البشري المتكيف مع التوجهات، والذي يفقد بوصلة الاتجاه القيمي إلا في إطار مصالحه الذاتية، وهذه السمة تعد أساسية في مجتمعات التدين المثالي أو المجتمعات التي تعتصرها ثقافات متناقضة، أو المجتمعات التي تعيش وطأة العنف العقائدي والاستبداد الديني.
والانتهازية عند كارل ماركس شكلا من أشكال الاستغلال الطبقي، حيث يسعى الأفراد، أو الطبقات الاجتماعية إلى تحقيق مكاسب مادية على حساب الآخرين مما يؤدي إلى تعميق التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، و في هذا السياق، تعد الانتهازية وسيلة ومحاولة لتوسيع الفجوة بين الطبقات وتعزيز الهيمنة الاقتصادية والسياسية على حساب العدالة الاجتماعية، وبناء عليه دعت الفلسفة الماركسية إلى تغيير النظام الاجتماعي بحيث تكون المصالح الجماعية هي الأساس في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية وليست المصلحة الفردية التي تستغل السلطة والحكم والنفوذ لمصالح طبقية أو فردية.
وتمزج الفلسفة الإسلامية بين النظر والأخلاق، وقد قدمت رؤية نقدية لهذه الأزمة النفسية والمجتمعية، و واعتبرتها انحرافا عن المروءة والمنهج الأخلاقي والحكم السياسية ويعبر عنها دينيا بالنفاق والله يقول:”مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَى هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَٰؤُلَاءِ” وهذه الإدانة للنفاق تبين موقفًا أخلاقيا واضحا ضد التلون والتقلب تبعا للمصالح الشخصية.
أما في سياق الفلسفة الأخلاقية، فقد تناول الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة مفهوم “الإنسان الفاضل”، الذي لا تستقيم فضيلته مع الانتهازية لأن الفضيلة تستلزم الثبات على المبدأ، ويرى أن المجتمعات التي يشيع فيها هذا السلوك تؤول إلى التطرف والعنف و الانحلال، لأن العلاقة بين الأفراد والمجتمعات تنحط إلى درجة الحيوانية المتجردة عن العقل وتصبح قائمة على المصالح المتكيفة وليس على القيم الثابتة.
في المقدمة، يقدم ابن خلدون تحليلًا عميقا للانتهازية باعتبارها سلوكا سياسيا مرتبطًا بدورة الحكم والدولة، وأن الانتقال من العصبية إلى الدولة يؤدي إلى ظهور انتهازيون يتظاهرون بالتقوى والتقية معا و يترصدون الفرص المناسبة لتقوية نفوذهم، فيقول: “إذا استحكمت الدولةُ في ملكها وطال بها العهد، استأثرت بالمجد وحصرته في ذوي القربى والموالين فظهر التملّق والتزلف وضعف الصدق والاستقامة”.
وهذا التحليل يوضح لنا أن الانتهازية ليست فقط خيارا فرديا، بل هي جزءا من الواقع ونتيجة طبيعية لتغير موازين القوى داخل المجتمعات، حيث يسعى بعض الأفراد إلى الاستفادة من التحولات والانكفاء على مصالحهم الأنانية، وهذا يأخذ قوالب متعددة، فالصحفي والأكاديمي والعالم والتاجر يواكبون هذا التحول ما يؤدي إلى هيمنة الانتهازين على موازين القوة ولن يتركوه إلا بتحولات اجتماعية تحدث صراعات مستمرة تنتهي بالمصالحة والعقد الاجتماعي والتحول نحو الدولة المدنية العادلة.
وينتقد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين الأئمة الانتهازيون الذين يستغلون الدين لتحقيق مكاسب شخصية ويصفهم بـ “تجار الدين” الذين يوظفون المظاهر الدينية ومظاهر التقوى لخداع الناس، وبذلك يعد هو أول من أطر للفلاسفة المتأخرين كتاباتهم في نقد التدين أو توظيف الدين ف تخدير الشعوب واستغلالهم، وهو بذلك النقد يرى أن الأخلاق الحقيقية تقوم على الإخلاص وليس على المظاهر، وأن الانتهازية تؤدي بالعالم وغير العالم إلى فساد القلب وانحرافه، إذ أن النية أساس العمل، وأن فساد القلب يقود إلى فساد كل شيء، وهذا الرذيلة الأخلاقية هي عين ما كتب عنها الفقهاء في مصطلح نقدي فلسفي عميق أطلق عليه “الحيلة الشرعية” وهي كناية عن التدين المسموم الذي ينخر في جوهر الحكم و المجتمعات المؤمنة
وقد تعرض ابن رشد المعروف بعقلانيته لهجوم كثير من متفنني الحيل الشرعية، ومن جهة أخرى يميز بين “الدهاء السياسي” الذي يعد ضرورة للحكم، وبين “التلون الأخلاقي” الذي يخرم المروءة.
حيث يشير في فصل المقال إلى أن المجتمع الذي تُدار شؤونه بالحيل والانتهازية هو مجتمع محكوم بالفساد لأن العدل أساس الملك، وما عداه انحراف عن الحكمة السياسية وسقوطا في الفوضى،
إلا أنه يرى أن بعض أشكال التكيف مع الواقع قد تكون ضرورية، كالتقية التي تتناسب مع بعض الظروف وتقيد به ولا تكون مطلقة أو سلوكا أخلاقيا أو عقيدة دينية، وحتى لا تتجاوز حالتها المؤقتة إلى الإطلاق غير المقيد وضع حدا بين السياسة القائمة على الحكمة، وبين السياسة القائمة على الخداع موكدا أن الأخيرة تقود إلى الانحطاط وزوال الدول.
ويرى ابن عربي أن الانتهازية من المعوقات التي تحب النفس من الوصول إلى الحقيقة الإلهية، لأن صاحب هذه السمة يعيش وهم السيطرة، معتقدا أنه بإمكانه التلاعب بالواقع واستغلاله لمصالحه، وحصر الانتهازي بعبوديته لهواه، واتباع الهوى يصبح سمة لا صفة النفس يكمن التشافي منها “في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا”، ويعتقد الرومي أن الانتهازية نار تلتهم صاحبها قبل أن تلتهم غيره، وأنه سيقع في نفس ما أوقع بها الآخرون.
فالانتهازية ليست مجرد ظاهرة سلوكية أو أخلاقية، بل هي إشكالية فلسفية عميقة تتداخل مع الكثير من المبادئ الفلسفية الحديثة، حيث تتعدد الآراء حول الانتهازية بين مقاربات نفعية تعلي من قيمة المصلحة الخاصة، وأخرى تقدم المصلحة العامة، أو مصلحة الجماعة.
ومن هنا ومع الفلسفة الحديثة برزت تيارات متناقضة إلا أن النفعية هي المهيمنة على معظم المجتمعات والنظم السياسية حيث يرى في الفلسفة النفعية كل من جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل أن المصلحة الذاتية تحقق السعادة لمعظم الناس وبذلك فإن الانتهازية في هذا السياق استراتيجية عقلانية تهدف إلى تحقيق أكبر منفعة شخصية ممكنة، وقد تعرضت هذه الفلسفة لنقد واسع من فلاسفة آخرين يرون أن الانتهازية في هذه الفلسفة حالة من ال صراع بين المصلحة الفردية والعدالة الاجتماعية،
وفي الفلسفة الأخلاقية المعاصرة، تُعتبر الانتهازية إحدى الظواهر التي يعاني منها المجتمع في ظل العولمة والاقتصاد الليبرالي المتسارع، وقد تعرضت هذه الفلسفة لنقد كبار المفكرين المعاصرين أمثال ميشيل فوكو وألان باديو حيث يُنظر إلى الانتهازية في هذا السياق كجزء من النظام الاقتصادي الذي يعزز من تركيز السلطة في يد القلة مما يضر بالمجتمع والمصالح العامة ويزيد من حالة عدم المساواة.
وأخيرا فإن الانتهازية هي إشكالية معقدة تتجلى في اضطراب التوازن النفسي بين المصالح النفعية وفلسفتها البراجماتية المتصالحة مع الذات في الثقافة الليبرالية والسياسية، والالتزام بالقيم الإنسانية والدينية باعتبارها انحرافا عن التعاليم الجوهرية التي تقوم على المحبة والتضحية والعدل والرحمة.