الأكاديمي اليمني بين تجديد المعرفة وتأسيس الدولة المدنية
الأكاديمي اليمني بين تجديد المعرفة وتأسيس الدولة المدنية
د. جمال الهاشمي
إن اليمن التي تعاني اليوم من الحروب المتداخلة والمتعددة الاتجاهات والمقاصد في إطار مصالح النخبة القديمة التي أعادت تأطير نفسها في سياقات جهوية وتحالفات تكتيكية شوهت مفاهيم الدولة والعدل والحقوق وانغلقت الدولة تحت شعارتها الطائفية والجهوية والحزبية، وكل المكونات التي تقسم الوطن ضمن مصالحها تمارس إرهابا صلبا أو ناعما على جغرافيتها التي تهيمن عليها بفعل القوة لا بشريعة الاختيار والخدمة.
ومن خلال تعايشنا مع المشاهد اليمنية التي تتلون أولونا مختلفة منذ 2012 نطرح سؤولا مصيريا لا يمكن تجاهله؛ ما هو دور الأكاديمي اليمني في لحظة التحول الوطني؟ وهل هو فاعل في مشروع الدولة المدنية أم مجرد موظف جامعي معزول عن الواقع وعن دورها المجتمعي؟
هل يكتفي بترديد المقررات داخل القاعات المغلقة التي تملأ عليه بالقهر السياسي الذي يغلق العقول بإرهاب الراتب أم يتصدر واجهة تجديد المعرفة وتحرير الوعي؟
في هذا اللحظة التاريخية واليمن تتهاوى الى مزيد من الانهيار وإهانة كرامة الإنسان لم يعد الحياد العلمي فضيلة بقدر ما هو تواطؤا ناعما مع الجريمة وتعطيل العدالة والدولة المدنية وتخليا عن المجتمع والشعب الذي ضمن له راتبه ؟ هل الأكاديمي للوطن والشعب أم هو لفصيل وجماعة وحزب يعادي الشعب أو الأمة اليمنية ؟
إن مواقفه الماضية والآنية هي التي تحدد مكانته من الدولة والشعب ؟ إلا أن تحديد موقفه الآني يجب ما قبله.
إن الجامعة ليست كيانا إداريا ينحصر دوره في منح الشهادات والتوقيع على جدولة الحضور والانصراف وكتابة البحوث للترقيات والمنافسة على الوظائف العامة بل هي بنية استراتيجية لإنتاج المعرفة وصياغة الوعي العام ، وإذا استشعرنا ثقافة النقد الحضاري و والنقد المعرفي والإنساني لاتفقنا أن الجامعات اليمنية تعاني :
- ضعف البنية المعرفية بسبب غياب المعايير الوظيفية.
- تآكل البنية المؤسسية نتيجة الحرب والفساد.
- انفصال الأكاديمي عن محيطه الاجتماعي والسياسي.
- اتخاذ الوظيفة العامة كضمان اجتماعي وليست كوظيفة حيوية بعقد بين الأستاذ والدولة.
- توريث الوظيفة العامة واستغلالها.
كل ما سبق أنتج في الغالب دون تعميم قلما عبدا لا يكتب إلا نصا عبدا على حد تعبير المفكر الإسلامي سيف الدين عبد الفتاح، وهذا يكرس العبودية العامة في إطار عبودية خاصة تأطرت بثقافة الاستحمار وهو مفهوم صكه عالم الاجتماع الاشتراكي علي شريعتي.
إن تحول الأكاديمي إلى موظف مكتبي منطو على نفسه يعيد تتكرار مناهج متهالكة ولا ينخرط في نقد الواقع أو تغييره يعني ببساطة إفراغ دوره من مضمونه الحضاري لأن تجديد المعرفة شرط تأسيسي للدولة المدنية حيث لا يمكن بناء دولة مدنية على أنقاض عقل تقليدي جامد يهاب من انقطاع الراتب ولا يهاب من اسقاط كرامته في نظرية مادية أطاحت بمنظومة القيم الإنسانية والدينية والفطرة الأولى القائمة على كرامة الإنسان.
ذلك أن من مقاصد المال حفظ كرامة الإنسان، فإن كانت بيعة الكرامة وسيلة لاستحقاق المال فذلك الذي يفسد الأمة ويغير مقاصد الدين والإنسانية.
إن التجديد ليس تحديث المقررات أو دمج التكنولوجيا وإنما هو تفكيك للأنماط المعرفية القديمة وإعادة بناء مشروع معرفي ينطلق من الواقع اليمني بكل تعقيداته دون تبعية عمياء لأي نموذج كان أو انغلاق تقليد ران.
لأن الأكاديمي اليوم مسؤول عن:
- نتاج معرفة ترتبط بالتحول الديمقراطي والشورى والعدالة الاجتماعية والحقوق المتساوية
- إعادة وصل الجامعة بالمجتمع لتأخذ زمام القيادة ولتكن منصة فكر لا صدى لبيروقراطية السلطة.
إن بناء الدولة المدنية تتطلب معركة فكرية قبل أن تكون مشروعا سياسيا، فالمدنية ليست شعارا نخبويا ولا منتجا مستورَدا ولا مفاهيم مستوفدة بقدر ما هي عملية تراكمية نقدية تؤسس لعقد اجتماعي جديد انطلاقا من حضارتنا اليمنية وخصوصيتنا الحضارية، ذلك أن تاريخنا مليء بالتجارب بل يقول المسعودي أن فلاسفة اليونان واليونانيون من اليمانية التي استعجمت لسانا وتجددت وأنتجت حضارة بجينات حضارتها الأولى.
وهنا يأتي دور الأكاديمي بوصفه صاحب مشروع معرفي وليس ناقلا للمعرفة مما يتوجب عليه أن:
- يؤصل لمفاهيم المواطنة والعدالة والحرية والعقلانية.
- ينقد البنى التقليدية (القبلية، الطائفية، المذهبية) التي تعطل مشروع الدولة.
- أن يقدم نموذجا جديدا لمفهوم الدولة انطلاقا من واقعه وتاريخه وحضارته وخصوصيته وعقلانية المنفتح على الآخر لا المستكفي بتاريخه.
هنا فرق بين الأكاديمي تحت مظلة الدولة الريعية أو الفاشلة الذي يتحول إلى كائن بيروقراطي يبرر للسائد ويطبع مع الاستبداد ويفكك مفهوم الرسالة العلمية لصالح الخدمة الوظيفية وبين الأكاديمي في الدولة المدنية الذي يرتقي فكرا بنفس القدر الذي ترتقي الدولة بإنتاجاته المدنية.
والمدنية عندي هي تجسيد حضاري للأخلاق الإنسانية والدينية بدليل دولة المدنية المنورة لأنها جمعت بين تجسيد المعرفة في مفهوم المدينة، وبين تنويرها الفكري في مفهوم المنورة.
فالمثقف الجامعي مطالب بإنتاج معرفة تتقاطع مع مشروع التحرر الوطني والعدالة المؤسسية لا أن ينسحب إلى جحر التخصص ويعتزل الفعل الاجتماعي والسياسي.
إن الجامعة ليست معزولة عن المجتمع بل هي دماغه المفكر فإذا شل هذا الدماغ تعطل العقل والتجديد وانهار الجسد الاجتماعي والدولة.
إن التجديد في فكر وثقافة اليمني ضرورة حضارية؛ ويجب على الأكاديمي في السياق اليمني أن يغادر تكرار للاوعي ويكسر هيمنة النسق التلقيني ليؤسس بما يمكن بالاجتهاد المعرفي المقاوم، لأن السكون يدمر الدولة ويعطلها ويخرجها عن مقاصدها الاجتماعية والإدارية والدينية والإنسانية إلى دائرة الاستبداد الضيقة، الاستبداد الذي انتقده علماء الأمة في مواجهة الحجاج ليموت الحجاج بحججهم وتستيقظ الدولة المدنية بعد موته دولة الإنسانية والكرامة.
وهنا نشير إلى مستويين من التجديد:
- تجديد أدوات التحليل و الخروج من أسر النموذج المقلد الذي أتى به الطلاب الوافدون من دول عربية وغربية دون السقوط في ردود الصراعات الأيديولوجية بين ثقافة الموفد وثقافة العمق الحضاري اليماني، الحضارة اليمانية التي لا تدانيها في التاريخ حضارة .
- تجديد العلاقة بالمجتمع دو كسر الحاجز بين الجامعة والشارع و بين المعرفة النظرية والواقع.
إن الدولة المدنية ونحن نستقرأ حضارات اليمن وتأثيرها العالمي الإنساني ليست بناء قانونيا جامدا ولا دستورا إنسانيا خالدا بل هي رؤية شاملة تعيد صياغة العلاقة بين السلطة والمعرفة و بين الفقيه والأكاديمي وبين الإرث والحداثة وبين النص والواقع، والأكاديمي هنا ليس محايدا بل هو جزءا من قوى التنوير .
إن الأكاديمي المثقف المسؤول هو الذي يسائل السلطة ولا يطبع معها ويقترح نماذج جديدة للحكم والإدارة من خلال البحث العلمي والمنهجية الصارمة لا الرأي والرأي الآخر أو الاتجاهات المتعاكسة.
إن الحاجة إلى أكاديمي يمني جديد يتسم بالنقد والاستقلالية ويتميز بالكرامة والحرية والمسؤولية ويؤمن بجدوى التغيير بات أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، فلا مشروع وطني نهضوي ولا دولة مدنية تتأسس بدون نخبة فكرية تقود الوعي وتؤطر لأعماله.
فإما أن ينتج الأكاديمي اليمني معرفة تحرره أولا ليكون حرا أو يعاد إنتاجه كأداة بيد سلطة يعيد إنتاج الاستبداد.
وأخيرا فإن الرهان الحقيقي أن يعيد الأكاديمي اليمني تعريف دوره ويخرج من حدائقه الحزبية والطائفية والجهوية ليكون ضمير دولة وأمة وأخلاق وإنسانية، و ليس خادما للسلطة التي لا تعبر عن إرادة الشعب ولا تتسم بالشرعية ولا بالقبول والقدرة والكفاءة بل منتج للشرعية المعرفية التي تمهد لولادة الدولة المنشودة.