ازدواج الجنسية والتفكيك الوطني: قراءة تحليلية في بنية الوعي الوطني
ازدواج الجنسية وتفكيك الدول العربية من الداخل: قراءة تحليلية في بنية الوعي الوطني.
د. جمال الهاشمي
منذ ولادة الدولة العربية الحديثة في سياقات ما بعد الاستعمار تأسست على تناقض مزدوج؛ فهي دولة ذات سيادة قانونية معترف بها دوليا، لكنها لم تستكمل من الداخل كمشروع وطني جامع ولم تستند إلى عقد اجتماعي عميق الجذور وإنما تأسست عبر ترتيبات فوقية غالبا ما كانت مبنية على توازنات استعمارية أو توافقات مصالح داخلية سطحية، وهذا كان من أهم الأسباب الذي جعل المفكر العربي والباحث والحركات الوطنية والقومية والقيمية يفكر في الظاهرة دون النظر إلى أصولية بنية الدولة مما أوجد مفاهيم مناقضة للدولة القائمة بظواهر مماثلة دون وعي بالأسباب العميقة لوجودها والتحديات التي تحيط بها أو تجبرها على الانهيار تارة أو الفوضى تارة أخرى أو الاستقرار الوهمي .
ومن وسط هذا النقص البنيوي تسرب إلى جسد الدولة شكل ناعم من التفكيك عبر أدوات زرعت الولاءات الارتباطية والانتماءات العقائدية البديلة والجنسية الأجنبية المقنعة كخيار شخصي مع انها في الواقع أداة اختراق استراتيجي.
إن الظاهرة الأخطر التي لم يتعامل معها الفكر السياسي العربي بالجدية اللازمة هو إشكالية تكون طبقة حاكمة (أو نخبوية) ذات هوية هجينة وجنسية مزدوجة وولاء وظيفي مشطور جعلها تعيش بين عالمين وتنتمي إلى ما فوق الدولة وتحت الدولة معا دون أن تندمج فعليا في جسدها.
كانت الجنسية في الفقه السياسي الكلاسيكي تعبيرا قانونيا عن الانتماء. أما في الدولة الحديثة فقد تحولت إلى أداة تعاقد نفعية بين الفرد والدولة.
وحينما تتعدد الجنسيات فإن ما يتعدد فعليا هو حقل المصالح والولاءات ويتحوّل المواطن من كائن منتم إلى كائن متنقل بين الولاءات يقيس وجوده بميزان الحيازة والامتياز لا بميزان التضحية والانخراط التاريخي.
وفي هذا السياق لم تعد النخبة التي تدير الشأن العام داخل بعض الدول العربية مرتبطة بالهوية الوطنية بوصفها بنية تراكمية ممتدة بل أصبحت مرتبطة بشبكات مالية عابرة للحدود، أو مركزة مفهوم المواطنة على الطاعة المطلقة للنظام كعقيدة بديلة دون حقوق وطنية أو تحالفات أيديولوجية فوق وطنية دينية، طائفية، قومية، أممية عابرة للحدود الوطنية وحدود المسؤولية والاختيار العام؛ أي أنها أصبحت نخبة مقطوعة عن الأرض ومعاد تشكيلها في الخارج.
إن ازدواج الجنسية هنا لا يعني جوازا إضافيا بقدر ما هو تكوينا نفسيا بديلا ونقلا تدريجيا لمفهوم الوطن من الانتماء إلى الملاذ ومن المعارضة الى المهجر ، ومن المصير إلى الخطة البديلة.
إن الدولة الحديثة لا تقوم فقط على القانون وإنما أيضا على النسيج الذي يشكل قاعدة الثقة الاجتماعية وهذا النسيج يتكون من معايير غير مادية: شعور بالعدالة و أفق أخلاقي مشترك و مصير واحد و أدوار تكاملية.
وحين تتفكك هذه المعايير يتحول الكيان السياسي من جماعة وطنية إلى مجرد ساكنين مشتركين في حي هندسي واحد وهذا ما نشهده اليوم في بعض المجتمعات العربية:
- طبقة سياسية تحمل جنسية أجنبية أو تدين بالوظيفة والتبعية والحكم للخارج وتدير استثماراتها في الخارج وتدرس أبناءها في مدارس الدول الأخرى وتخطط خروجها من الوطن في أول أزمة قد يهدد حكمها.
- معارضة سياسية من الخارج اتبعت نفس الخطوات وتؤسس وجودها بولاء خارجي لتحرير الداخل من النظام القائم بتنازلات أكبر.
وفي هذه اللحظة تصبح الدولة في معترك الصراع والتنافس من خلال الولاءات الخارجية والخداع الجماهيري حيث يشعر المواطن العادي بأنه يحكم من قبل نخبة لا تنتمي إليه ولا تدافع عنه المعارضة بل تدير شؤونه كما تدار شركة خدمات وفي المقابل تستخدمه المعارضة وقودا لطموحاتها وكل من النظام والمعارضة يؤسسون وجودهم بالتعبير عن الإرادة الشعبية واختيارها ويصبح الشعب وقودا لهذا الانهيار الوجودي للدولة أو أحد مخزوناتها البشرية في التطرف أو الفوضى .
فإذا كان ازدواج الجنسية يفكك الولاء السياسي فإن الولاء العقائدي يفكك الهوية الثقافية، وهنا نلمس أخطر تجليات الاختراق الناعم لا سيما وقد صعدت في العقود الأخيرة نخب تنتمي في وعيها العميق إلى أمة بديلة سواء كانت مذهبية أو أممية و طائفية أو سلفية و يسارية أو حتى ليبرالية معولمة.
وهؤلاء يديرون الدولة لكنهم لا ينتمون لها و يخدمون في مؤسساتها وولاءهم يتجاوز الدولة إلى خارجها أو يضيق الفضاء العام إلى ما هو دونها؛ كطائفة وحزب وجهة وقبيلة و جميعهم يرون الحدود القطرية عائقا أمام مشروعهم الكبير كما يرون المنافسين لهم على السلطة تحد لهذا النفوذ إذ يغيب مشروع الدولة في ولاءات ضيقة و أخرى فوقية.
والنتيجة قرارات أمنية مسربة إلى الخارج لا يعلم المواطن عنها إذا بدأت القوى النافذة خارجيا من إخراج تلك الملفات في حالة أن رأت أن بقاء وكيلها أكثر كلفة عليها أو يهدد مصالحها في هذه الدولة بقوى أخرى صاعدة.
أو تنخر أسس الدولة تعيينات إدارية خاضعة لمنطق المحاصصة العقائدية والحزبية والجهوية كحال اليمن الذي تهيمن عليها المحاصصة في الدولة المدنية الحديثة بأسوأ مما كانت عليها المحاصصات القبلية قبل المدنية.
أو إعلام يخدم أجندات إقليمية بحيث يوجه الإعلام إلى الصراع بين أطراف داخل الدولة باستعداء الدول الخارجية دون أن يؤسس لمشروع وطني يقارب الخلاف ويقوي اللحمة الداخلية للشعب والمجتمع بشفافية ورؤية وانتماء ومسؤولية.
أو مؤسسات تتحول إلى جزر هوياتية متصارعة وهذه الإشكاليات العقيمة ليست أعراضا عرضية بقدر ما هي علامات تفكك سيادي شامل.
إن أخطر ما كشفته العقود الأخيرة هو دور بعض الشخصيات ذات الجنسية المزدوجة في إذكاء الانقسام العقائدي في العالم العربي وخاصة في موجات الربيع العربي إذ أن عددا من هؤلاء لم يكونوا دعاة حرية أو إصلاح، وإنما وكلاء لأجندات خارجية يعملون تحت غطاء قانوني تمنحه الجنسية الأجنبية بينما يديرون خطابا إعلاميا محليا مفخخا بالأيديولوجيا.
وقد أدى هذا إلى:
- استغلال الوظيفة العامة لتصفية الخصوم العقائديين.
- تحويل المؤسسات السيادية إلى أدوات بيد المشروع العقائدي.
- تمويل الفوضى الفكرية تحت ستار الحريات.
لعل المفارقة أن دول الغرب رغم خطابها الليبرالي أكثر وعيا من العرب بخطر تعدد الولاءات فهذا ترامب رغم شعبيته المنخفضة امتلك شجاعة كشف اختراق الهوية الأمريكية عبر برامج التجنيس غير المنضبط واعتبره تهديدا للتماسك القومي وفي فرنسا، أطلقت الدولة حملة ضد ما يسمى الانفصالية الثقافية للمجنسين، إذ لاحظت أن بعض المجنسين لا يعيدون إنتاج ولائهم ضمن قيم الجمهورية وإنما يحتفظون بأيديولوجياتهم الخاصة ويشكلون مجتمعات موازية.
وهنا المفارقة بين الغرب الذي يمنح الجنسيات و يراقب ولاء حامليها وبين العالم العربي الذي يسمح باختراق الدولة عبر مكونات وطنية تتخذ من السفارات مدخلا لنفوذها الخارجي وسندا في مواجهة السلطة.
نحن في عالمنا العربي نتسامح مع ازدواج الجنسية والولاء تحت ذريعة الانفتاح ونسلم مفاصل السيادة لنخب هجينة لا تعترف بالدولة إلا بوصفها موردا أو أداة هيمنة.
لقد تواطأ في هذا الاختراق تياران:
- تيار ديني مؤدلج يرى الدولة الوطنية كيانا طارئا لا يلبي طموحه العقائدي فيجيز لنفسه التحالف مع قوى خارجية والتجنس بجنسيات أجنبية من باب المصلحة الشرعية؛
- وتيار قومي حداثي هش ينتمي ثقافيا للنخب الغربية التي تجنسته فيمارس الوطنية على مستوى الشعارات بينما يعيش كامتداد وظيفي لعواصم النفوذ.
كلا التيارين رغم اختلاف خطابهما ـ أسهم في ضرب العمود الفقري للدولة؛ أي النسيج الوطني القائم على وحدة المصير والمصلحة والولاء الحصري وتفكيك النسيج الوطني من المواطنة إلى المكونات، ونتيجة لهذا الاختراق تحولت الهوية الوطنية الجامعة إلى هويات جزئية متنافسة وتحولت الوظيفة العامة من منصب لخدمة الجميع إلى مجال صراع واستحواذ بين المكونات ولم يعد المواطن العربي يشعر بأن من يحكمه أو يمثله في الدولة هو ابن هويته الجامعة بل يدرك أنه مندوب لمصلحة طائفية أو أجندة دولية أو مشاريع خاصة.
وهنا تصبح الدولة أشبه بجغرافيا ملتهبة تحتها يسكن عصابات تدير الصراعات وليست كيانا سياديا وبذلك تختطف مؤسساتها من قبل نخب تحمل جوازات أجنبية أو ولاءات خارجية تستثمر في الخارج وتعيش فيه عندما تنفجر الأزمات وتخلف الشعب خلفها للحتوف، ثم تعمل على عادة نفسها بقوى خارجية لتمارس الهيمنة باسم الوطنية وهي أبعد ما تكون عنها.
وحينما تتجمع في النخبة الحاكمة جنسية أجنبية وانتماء عقائدي خارجي وشبكة مصالح دولية وافتقار تام للاندماج الوطني فإن الدولة تفقد كل وظائفها التكوينية وتنهار البنية العادلة لتوزيع السلطة وتتحول مؤسساتها إلى أدوات إدارة صراع لا أدوات سيادة وفي هذا السياق لم تعد الدولة شخصية معنوية ذا سيادة بل تصبح واجهة بيروقراطية تدار من خلف الستار بأدوات ناعمة ظاهرها القانون وباطنها التبعية.
إن الوعي بهذا التفكك يجب أن يكون الخطوة الأولى نحو ترميم الدولة وعلى الشعوب العربية أن تدرك أن ازدواج الجنسية والولاء الخارجي ليس امتياز قانوني بقدر ما هو اختراق استراتيجي مركب يفكك الهوية ويمزق النسيج الوطني ويضعف الوظيفة العامة ويحول الدولة إلى أداة نفوذ خارجي للدفاع عن مصالح الآخر بدماء وموارد وأمن دولها ومصالح شعبها.
إن الدول في أصلها لا تؤسس فقط بمؤسسات قانونية وإنما ببناء نسج ثقافية–أخلاقية مشتركة تولد الثقة المتبادلة وتوحد الجماعة السياسية في السلطة والمعارضة ضمن نسق ولائي وحدوي عدلي لا مشاريع تجزيئية وبوعي منهجي لا يقوم على مغالطات قيمية أو توظيفية أو خداعية لأنه عندما تتولى النخبة مناصب سيادية وهي تحمل جنسيات أخرى أو تتبع تحالفات أخرى أو تنتمي لهوية دينية أو سياسية خارجية فإن هذا النسيج يبدأ بالتمزق وتتحول الدولة إلى واجهة تدار من الخارج عبر أدوات داخلية حيث تكون عبارة عن:
- تعيينات تقوم على الانتماء الطائفي لا الكفاءة.
- قرارات سيادية يتم تمريرها بناء على أجندات أجنبية.
- تسريبات معلوماتية لصالح أطراف خارجية.
- تفكك في جهاز التعليم وغياب الرؤية الوطنية في الإعلام.
ومع تطور تقنيات المعلومات أصبحت الوظيفة العامة ليست موقعا إداريا فحسب وإنما مدخلا إلى بيانات الدولة العميقة وقناة حساسة للتأثير في القرار الوطني ولهذا فإن وجود موظفين ذوي ولاءات مزدوجة في المناصب الحساسة يشكل خطرا وجوديا على الأمن السيادي.
فالخطر لا يكمن فقط في الولاء المشطور وإنما في قابلية هذا الموظف لأن يكون أداة تجسس أو تسريب أو تعطيل للقرار الوطني بشكل ناعم لا يمكن تتبعه بسهولة.
وبنا على ما سبق لا بد من تشكل نخب وطنية شعبية تؤسس لبناء مشروع وطني مستقل يعيد ضبط معايير تولي الوظيفة العامة على أساس الولاء الوطني الصريح ويحظر على أي مسؤول سيادي أن يحمل جنسية أو ولاء آخر ولو كان رمزيا.
وهنا لا بد من مواجهة جذرية تبدأ بـ:
- حظر ازدواج الجنسية في جميع المناصب السيادية والإدارية العليا.
- تطهير الوظيفة العامة من الولاءات العقائدية الخارجية بإعادة تعريف الولاء الوظيفي.
- فرض الإفصاح المالي الكامل للنخب السياسية خاصة فيما يتعلق باستثماراتهم الخارجية.
- تجريم التمويل السياسي العابر للحدود وتجفيف مصادر الاختراق الفكري–الإعلامي.
- إعادة بناء مؤسسات التنشئة الوطنية كالتعليم و الإعلام والثقافة على أساس الهوية الحصرية الأصولية لا التعددية المائعة الحزبية والطائفية والجهوية والقبلية.
وبحسب ما سبق نصنف الوظائف إلى ثلاث مستويات سيادية:
- مناصب سيادية عليا يمنع فيها ازدواج الجنسية منعا باتا.
- مناصب إشرافية متوسطة و تخضع لمراقبة أمنية دورية.
- وظائف تنفيذية عادية يكتفى بالإفصاح والرقابة الإدارية.
وأن نعمل على إنشاء سجل وطني للولاء الوظيفي يشمل الجنسية و الروابط الخارجية و مصادر التمويل و العلاقات الأكاديمية و الشبكات الاجتماعية ونفرض تعهدات قانونية صريحة بالولاء الحصري ونقنن بأن أي خروقات تعد خيانة وظيفية لا مجرد مخالفة إدارية كما أنه يجب علينا ربط التوظيف بمؤشر الثقة السيادية وهو مقياس موضوعي يجمع بين الانتماء و السلوك الوظيفي والتاريخ المالي والفكري.
وهذا يستدعي إعادة هيكلة نظم التعليم والتكوين الإداري لتأسيس ثقافة وطنية سيادية تعيد إنتاج الولاء والانتماء داخل مؤسسات الدولة
نحن هنا لا نهاجم حرية الفرد في السفر أو الدراسة أو حتى العمل خارج وطنه لكن حين يتعلق الأمر بالقرار السيادي والسياسة العامة والمصلحة الوطنية فإن الانتماء يصبح واجبا لا اختيارا لأنه لا يمكن للدولة أن تنهض بنخب خارجها جسدا أو عقلا أو هوية.
إن ما يحدث ليس أزمة أخلاقية فقط بل هي كارثة بنيوية تؤدي إلى ذوبان الدولة في شبكات المصالح والولاءات واستعادة الوطن تبدأ باستعادة القيم الكلية، واستعادة الوعي للتحرر من الولاء المزدوج الذي أصبح مع الواقع أمرا طبيعيا.